مميز
EN عربي
الكاتب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 07/07/2013

مشكلة الانشغال عن الدعوة الإسلامية بأحلام المجتمع الإسلامي 2

مقالات مقالات في الدعوة إلى الله

مشكلة الانشغال عن الدعوة الإسلامية

بأحلام المجتمع الإسلامي - 2

العلامة الشهيد محمد سعيد رمضان البوطي

للاطلاع على الجزء الأول من المقال اضغط هنا

ومع ذلك فلنزد هذه الحقيقة الواضحة وضوحاً بعدِّ بعض من الأخطاء:

أولاً:"وأفرض أنني أنا المتورط في هذه العدوى المهلكة والعياذ بالله" إنني عندما أقرر الدخول في المعترك السياسي ابتغاء الوصول إلى الحكم، لا بدَّ من أن يكون وجودي الغالب في المناخ الملائم لهذا المعترك، ولا بدَّ أن يتجه جلٌّ نشاطي الفكري والسلوكي إلى رسم الخطط والأساليب المتكفلة بالوصول إلى هذا الهدف، والشأن في ذلك أن يبدد صفائي الروحي، وأن يورثني مع الأيام قسوة القلب واضطراباً في النفس، وأن يمدَّ غاشية من الضباب على مشاعر عبوديتي لله ومشاعر ثقتي به وتعظيمي له ومراقبتي إياه...

ولا بدَّ أن يؤثر هذا الحال في تبديد معظم ما أتمتع به من عدَّة على طريق الدعوة إلى الله وخدمة دينه. يعلم هذا كل من كان معافى، ثم زجَّ نفسه في هذا المناخ وابتلي بهذه الحال.

ثانياً: إن دخولي في هذا المعترك، يضعني وجهاً لوجه أمام محاور سياسية متعددة، و يفرض عليَّ الانجذاب إلى فلك واحد منها، ومن ثم التحرك لحسابها.. إن من المستحيل أن أزجَّ نفسي في ساحة العمل السياسي، قائداً لجماعة تتبع سيري وتنقاد لإشارتي، دون أن أتحالف مع هذا الفريق أو ذاك، ذلك لأن النشاط السياسي الذي يطرق أبواب الحكم، لا يمكن أن يتحرك في فراغ.. إذ هو محاط بتيارات متخالفة، بل متصارعة شتى. ولن يكون لاستقلال صاحب هذا النشاط عنها إلا معنى واحد هو اتخاذ موقف المعاداة لها، ومن ثم فلسوف تلتقي هذه التيارات كلها، على اختلافها، على التربص به والكيد له. والنتيجة التي لا مناص منها، هي أن تضيع وتستهلك قواه وسط تألب تلك التيارات وفي ضرام عدوانها.

ذلك هو شأن الدخول في المعتركات السياسية، لا بدَّ فيه من أحد مصيرين:إما الانحياز والتحالف مع أحد محاورها، وإما الاستقلال عنها جميعاً وهو ما يعني تألب الأطراف والمحاور كلها على صاحب هذا الاستقلال بالعدوان والقهر.

ثالثاً:في غمار هذا التوجيه، وتحت تأثير هذه التيارات المتصارعة، وما يكتنفها من ضجيج وتوقعات ومفاجآت، لا بدَّ من أن أتجرد عن عملي مبلغاً عن الله ومعرفاً بدينه داعياً إلى صراطه، وأن أتحول إلى مخاصم في شؤون السياسة مجاهد في سبيل بلوغ الحكم، مفكرٍ في الوسائل التي يجب أن أتخذها للتغلب على الخصوم.

ولا تنسّ أنني أضرب المثل في كل ذلك بنفسي، مفترضاً أنني أمير جماعة إسلامية أو واحد من أفرادها، فلا جرم أن هذه هي الحال التي سيكون عليها أتباعي أو سائر زملائي وإخواني.

إذن، فقد تقاعدت الطائفة التي تسامت ذات يوم إلى مستوى الوصية الربانية القائلة: (فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ).عن شرف التفقه في الدين والتوجه به إلى عامة الناس معلمين ومبشرين ومنذرين. واستعاضت عن ذلك بهذا الذي أقحمت نفسها فيه.

هذا، والناس الذين من حولي، كلهم أو جلهم، جاهلون بالدين ينتظرون من يبصرونهم به ويحببونه إليهم، تائهون، متنكبون عن صراط الله عزَّ وجلَّ، ينتظرون من يأخذون بأيديهم قد أحاطت بهم شياطين من الإنس والجن، باسم التبشير أو التنوير أو التثقيف، يشوهون لهم حقائق الإسلام، ويعكرون من صفوه، ويبعثون في نفوسهم _ بكل ما يملكون _دواعي الاشمئزاز منه.

الدعوة التخريبية قائمة على كل قدم وساق، والإسلاميون الدعاة إلى الله في شغل شاغل عن مقاومة التخريب بالبناء، وعن النهوض بما أقاموا أنفسهم فيه من مهام الدعوة إلى الله وتبليغ كلمات الله وأحكامه.

فكيف يكون عمل هؤلاء الناس_وهذههي الحال_جهاداً في سبيل الله؟

بل كيف لا نكون مؤاخذين عند الله يوم القيامة على هذا التشاغل والإعراض؟

وكيف لا نتحمل أوزار هؤلاء الشاردين والتائهين الذين شٌغلنا عن نصحهم وإرشادهم ودعوتهم إلى الله، بانصرافنا إلى ساحة المعتركات السياسية وتطلعنا إلى بلوغ كراسي القيادة والحكم ومناصبة الحكام في سبيل ذلك فنون العداء؟ولكن، ما هي الحجة التي يعود بها هؤلاء الإخوة الذين يأبون إلاَّ الإعراض عن مبدأ:

(ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ)، والإقبال بدلاً عنه إلى شعار أمسك بناصية الحكم ولا تبالِ من أي طريق وصلت ؟

حجتهم هي القول بأن أقصر طريق إلى تطبيق مبادئ الإسلام وأحكامه، هو فرضها على الناس بالقوة. والطريق الوحيد إلى فرضها بالقوة هو بلوغ الحكم.

وأقول في الجواب:أرأيت إلى ما قد ذكرناه آنفاً من العدوى التي سرت إلى كثير من الحركات والجماعات الإسلامية، من واقع حال الأحزاب والمذاهب الفكرية و السياسية الأخرى؟إن ما قلناه آنذاك يتضمن نصف البيان لخطأ هذا التصور وبعده الكبير عن الإسلام واستعصائه على الواقع والتنفيذ.

أما بيان النصف الثاني فنوجزه فيما يلي:

إن سدى ولحمة المجتمع الإسلامي المنشود، إنما يتمثلان في أفراده، وما حكامه إلا فئة من هؤلاء الأفراد، ومن ثم فإن وجود المجتمع الإسلامي لا يعني أكثر من صلاح أفراده واستقامتهم على صراط الله عن بصيرة ووعي.

فإن لم يصلح هؤلاء الأفراد، بل ظلوا_كما هي الحال الآن_بين شارد ومرتاب وضال وفاسق وملحد، إلا من رحم ربك، فهيهات أن يتحقق أو يتألف المجتمع الإسلامي، من إطار يجمعهم، أو من مجرد اجتماعهم تحت مظلة حكومة مسلمة تنادي بالإسلام وتقتنع بتطبيق شرائعه وأحكامه.

أرأيت إلى فئات شتى من اللصوص، إنَّ تحولهم إلى جيش نظامي من اللصوص تحت قيادة راشدة، لا يمكن أن يجعل منهم ملائكة مطهرين أو بشراً منزهين. بل إن حقيقة السوء التي كانت متناثرة في أفرادهم، تتحول تحت سلطان هذا التجمع والتلاقي إلى تيار متلاطم من السوء!..

أوليس هذا الذي أقوله من الوضوح بمكان؟بل أَفَيوجد في الناس من يرتاب فيه دون مكابرة أو عناد؟...

وهل الحكم وسلطانه إلا حزام ضبط وتجميع؟ومتى كان الضبط والتجميع يغنيان عن تزكية

النفس وتطهيرها من الزغل والآفات؟وإن في ذاكرتي لصوراً كثيرة لرجال إسلاميين قفزوا إلى كراسي الحكم وأمسكوا بنواصيه، متجاوزين واجب التربية والدعوة والإقناع بالحجج العلمية والثقافية، فلم يتأتَّمنهم أن يصلحوا أي فساد أو يقوموا أي اعوجاج. ولم يفيدوا الإسلام بتربعهم على

كراسي المسؤولية والحكم إلا ما أوهمته أجهزة الإعلام المعادية وأدخلته في قناعة كثير من الناس، من أن الإسلام برهن على عجزه عن القيام بأي إصلاح!.. فها هم أولاء رجاله يحكمون، وها هو ذا الفساد الذي كانوا يتأففون منه باقٍ كما هو!..

إنه لأيسر في سبيل الإصلاح وتقويم الاعوجاج وبسط فاعلية الإسلام، أن تطمع بعقل الحاكم وفؤاده، فتقول له_كما تقول لغيره_بمنطق القرآن:(فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّ * وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى*)، من أن تطمع بكرسيه فتقول له بمنطق النفس المتوثبة إلى المغانم:هل لك إلى أن تتحول عن هذا الكرسي لآخذ محلك فيه؟

ما الذي يضرٌّ الاٌسلام ويسوءه ألا تكون أنت الحاكم في الأمة، إذا كانت التزكية النفسية والهداية العقلية قد حلَّ كلٌّ منهما محله من كيان الحاكم وأفئدة الناس؟وما الذي يفيد الإسلام وينفعه إذا كنت أنت الحاكم، وكان الفساد مستشرياً في النفوس، والضلالة مهيمنة على العقول؟

وإذا كان الجواب واضحاً، فما لك لا تتجه إلى الناس كلهم_شعوباً وقادة_بالتضحية والإرشاد والسعي إلى تزكية النفوس وتصعيدها إلى مستوى الحب لله والانتعاش بدين الله؟علماً بأنك تنفذ بهذا أمر إلهك الذي أنهضك إلى هذه الوظيفة وشرفك بها، وتنال بذلك أجراً لا ينال مثله إلا كبار الربانيين، وسيضع الله في كلامك سرَّ الهداية والقبول، فيتحقق لدى الحاكم الإسلام العملي الذي تريد، وينقاد الناس إلى الحكم الإسلامي الذي تنشده وتنادي به؟!..

إن كان المبتغى هو قيام المجتمع الإسلامي فعلاً، فهذا هو وحده السبيل، وهو الضمانة التي لا بديل عنها.

أما إن كان المبتغى منافسة الآخرين على الحكم،ومخاصمتهم في سبيله، فما لهؤلاء الناس لا يعلنون إذن عن قصدهم هذا؟وإنه لقصد طبيعي لن يجرمهم من أجله أحد. كل ما في الأمر أننا نستذكر في هذا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم :(فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها، فهج فهجرته إلى ما هاجر إليه).

قال لي أحدهم، وكان الحديث عن الجزائر، وكنت أذكر بالنهج الإسلامي الصحيح في السعي إلى خدمة الإسلام، وأحذر من الاستمرار في هذا الخطأ القتّال، والمتمثل في الإعراض عن الإسلام شغلاً بمخاصمة الحكام ومنافستهم على كراسي الحكم، قال لي:إنك تتحدث دائماً عن خطأ هؤلاء

الإسلاميين، ولا تتحدث عن الجريمة التي ارتكبها الحكام الجزائريون، إذ اغتصبوا منهم حقهم الذي وصلوا إليه بالطرق القانونية والديمقراطية المعتمدة !..

قلت له: لو علمتٌ أن الذين اغتٌصب منهم هذا الحق، هم طلاب حكم ومحترفو عمل

سياسي، إذن لاختلف الموضوع، وإذن لكان بوسعي أن أعلن عن استعدادي لدفاع قانوني عنهم، كما يدافع أي محامٍ عن طرف وقعت عليه الظلامة في تجارة بمال، أو في مغنم سياسي، أو في حق مكتسب بممارسة حكم، بقطع النظر عن أثر ذلك على الإسلام سلباً أو إيجاباً. وعليهم في هذه الحال ألا يجعلوا من الإسلام متكأً لدعم حقهم، أو سلاحاً للطعن في خصومهم، وليسعهم أن يتحركوا كغيرهم في الدفاع عن حقهم الذي لا ينكر، داخل ساحة الأنظمة الديمقراطية والحقوق الدولية، ولسوف يجدون من ذلك خير لسان مدافع عنهم وأفضل قوة تناضل عن حقوقهم. ولكن بوصف كونهم ساسة ابتغوا لأنفسهم سبيلاً إلى القيادة والحكم، شأنهم في ذلك شأن عامة السياسيين المحترفين من ذوي الهواية في المناصب السياسية لا أكثر.

ثم قلت:إلا أن هؤلاء الإخوة إنما يؤكدون للعالم كله أنهم قد جندوا أنفسهم وسائر إمكاناتهم لخدمة الإسلام وإقامة حكمه، ويجزمون بأن سعيهم إلى الحكم إنما يأتي على طريق خدمتهم للإسلام ورفع شأنه وإقامة دولته.

إذن لا بدَّ أن يختلف، هنا حديثنا لهم...لا بدَّ أن نقول لهم، انطلاقاً من هذه الهوية التي يعرفون العالم على أنفسهم من خلالها:إن عليكم في هذه الحال أن تضحوا بحقكم الذي كان ينبغي أن تنالوه من الوصول إلى القيادة والحكم، في سبيل الإسلام الذي تقولون إنكم حماته وجنوده، لا أن تضحوا بالإسلام وتجعلوا منه وقوداً في ضرام هذه الفتنة، في سبيل أن تنالوا حقوقكم التي اغتصبت فعلاً منكم!.

وعندما ننظر، فنجد_على الرغم من هذا التركيز المنطقي الواضح_أن دوافع الثأر النفسي والانتقام للذات، هي التي تحرك هؤلاء الإخوة فيما يقدمون عليه من اقتحامات ومغامرات، أياًكانت ومهما قيل في وصفها، ونرى بأم أعيننا كيف أن الإسلام هو الذي يٌنال منه وينتقص من شأنه، وتتراجع قواه وفاعليته في ذلك الضرام؛ عندئذ لا تغدو المشكلة الحقيقية أن فرصة في وصول جماعة من المسلمين إلى الحكم قد أهدرت أو اغتصبت، وإنما المشكلة المصيرية القاتلة أن الإسلام هو الذي يذهب ضحية الطرفين ويتمزق تحت السنابك!..

ومن ثم، فلا معنى لتوجهنا إلى مغتصبي الحق كي ينصفوا خصومهم الذين يدعون أنهم جنود لخدمة الإسلام وتقديم أنفسهم قرابين رخيصة له، وإنما الواجب الذي يهيب بنا وبكل مسلم، هو التوجه إلى حلّ هذه المشكلة الخطيرة القاتلة.. وذلك بأن نناشد جنود الإسلام وحماته، أن يشفقوا على الإسلام الذي ينسحق ويذوب وسط ما يشعلونه من ضرام.

غير أن المصيبة الكبرى التي لا تنزل هي الأخرى إلا برأس الإسلام، أن الدوافع المهتاجة في نفوس هؤلاء الإخوة إلى الثأر والانتقام، تقصيهم عن تفهم هذا الكلام والالتفات إليه، وتستثيرهم في رعونة غاضبة للإنكار علينا ولاتهامنا بالتحيز إلى الغاصبين الذين استلبوا حقوقهم في بلوغ الحكم وامتلاك أزمته. إذن لم تعد الرغبة في الحكم وسيلة لخدمة الإسلام، وإنما غدا الإسلام وسيلة لبلوغ الحكم، ومن ثم فلا حرج أن يمزَّق الإسلام كل ممزق في هذا الضرام أملاً في قهر الخصوم الذين يصدون عن بلوغ هذه الأمنية الذهبية؛وبالمقابل، فلا يجوز ابداً إنهاء هذه الفتنة وإخماد هذا الضرام، مهما رأينا بأم أعيننا أن الإسلام هو الوقود الأول الذي يلتهب عليه هذا الضرام.

ومن المؤسف أن الغرب الذي أعلن في السنوات الأخيرة، حربه ضد الإسلام، قد درس هذا الواقع المؤلم، وأمسك بهذه المشكلة القاتلة ورقة رابحة يحاول أن يلعب بها في كل صقع. وها هو ذا ينفخ في نيران هذا الضرام ما وسع ذلك؛وإنه ليشعر بنشوة ما مثلها نشوة، أن رأى المناخ الإسلامي أمامه صالحاً ومهيأً لضرب الإسلام بمن يسمون

أنفسهم جنوداً للإسلام!!. .

نشرت مجلة foreign affairs الصادرة عن وزارة الخارجية الأمريكية ولسان حالها، في شهر تشرين الثاني من عام 1992 مقالاً عن خطر الإسلام على العالم الغربي، والسبل التي يجب أن تتخذ لشل فاعليته والقضاء على خطره، والسبيل فيما صرح به كاتب المقال هو تقطيع جسور الثقة بين الدول العربية خاصة والإسلامية عامة، للقضاء على بقايا ما قد يشيع بينها من روح التعاون والتضامن، ثم استشارة أسباب الاضطرابات والقلاقل داخل كل منها على حدة، والاستفادة مما هو جارٍ الآن من خروج كثير من الجماعات الإسلامية على حكامها، وتألب حكامهم عليهم. وبذلك تتمزق فاعلية الإسلام في ما بينهم عن طريق التآكل الذاتي، وتبتعد فرص الاستقرار التي هي الأساس الذي لا بد منه للنمو الاقتصادي ولاستغلال ما قد تملكه من قدرات وثروات!...

ومصيبة المصائب في نظري، أن أجد، بعد هذا الحق الذي لايتيه عاقل عن تبينه ورؤيته، من يضيق ذرعاً بهذا الذي أقول، ويتمنى أن أشغل نفسي وقرائي بأي موضوع آخر نتسلى به!..

ولكن قل لي:كيف يتأتى أن يكون الإنسان مسلماً صادقاً مع الله في إسلامه، ثم يرى هذا الخطأ القتّال الذي انجرف فيه بعض الاخوة باسم الإسلام، ثم يرى بعينه أثره السريع في شل فاعلية الإسلام وهدر كل مكتسبات ما سميناه يوماً بالصحوة الإسلامية، ثم يرى ويسمع خطط الأيدي الخفية التي تتجه مسرعة لاستغلال هذا الخطأ واستثماره، ثم يعرض عن ذلك كله، ساكتاً غير مبالٍ بشيء من وارد الأمر أو صادره أو نتائجه المخفية المقبلة؟

بل قل لي:كيف يتأتى منك_وأنت مسلم صادق مع الله_أن تجد أصحاب الخطط الخفية يستغلون هذا الخطأ ويستثمرونه لحسابهم، ثم لا ينهضك إسلامك لسعي ما إلى إصلاح هذا الخطأ؟

أنا لا أنكر أن لكثير من الحكام دوراً في استثارة الإسلاميين وتهييجهم بقصد أو بدون قصد، إلى كثير من التصرفات التي يقومون ها اليوم، بل ربما كان بعضهم أو كثير منهم يؤدون في ذلك دوراً قد عهد به إليهم وطلب منهم.

ولكن،أفَيكون ذلك عذراً لتحرر هؤلاء الشباب عن الانضباط بالمنهج الإسلامي وقيوده وأحكامه، وللارتماء بدلاً عن ذلك وسط تيارات ردود الفعل الجارفة؟

بعض الإخوة الدعاة أو المفكرين، يعطونهم هذا العذر!..

ولكن هذا العذر لو جاز إعطاءه لعامة الناس أو المسلمين، فلا يجوز أن يعطى لم يسمون أنفسهم مجاهدين في سبيل الله عزَّ وجلَّ. وهل الجهاد إلا بذل الجهد في سبيل إعلاء كلمة الله؟

وأي بذل للجهد يبقى عند من لا يصبر على الاستثارة التي يبتغى منها إبعاده عن الانضباط بكوابح الإسلام وأحكامه ثم زجه في ردود فعل من شأنها أن تأتي بنقيض ما قد جنَّد نفسه في سبيله؟

هما أحد أمرين:إما أن يعذر هؤلاء، إذن يجب إبعاد سمة الدعوة والجهاد في سبيل الله عنهم. وإما أن نصدق أنهم فعلاً دعاة إلى الله ومجاهدون في سبيله، إذن فلا يجوز أن يٌعذَروا في الانجرار إلى هذا الخطأ القتّال.

وصفوة القول أنه يجب فك الاشتباك بين الإسلاميين وحكام بلادهم، حيثما وجد نوع من هذا الاشتباك.والسبيل الطبيعي إلى ذلك أن يتعاون الطرفان لتحقيق هذه الغاية التي سيأتي بخير كبير للجميع.

ولكن، إن لم يشأ الحكام أن يمارسوا إلى ذلك أيَّ دور تعاوني جاد، فإن السبيل إلى ذلك يصبح من مهمة وواجب الإسلاميين وحدهم، ومهما كانت حظوظ النفس البشرية تتأبى ذلك وتثور عليه، فإن شأن المجاهد الصابر والمصابر في سبيل الله هو الترفع فوق حظوظ النفس وقهر أهوائها ولواعجها، في سبيل حماية المدَّ الإسلامي مما قد يراد به، ومن ثم في سبيل بلوغ رضا الله عزَّ وجلَّ.

فإن سأل منهم سائل:ولكن فما البديل من مجابهة الحكام لإزاحتهم واتخاذ أماكنهم؟

قلنا في الجواب:وهل كانت هذه المجابهة يوماً ما خطوة جهادية في سبيل الله، حتى تبحثوا لها عن بديل؟لقد أوضحنا بما لا يدع مجالاً للريب أنها مجرد استجابة لحظ نفسي واستجابة ساذجة لكيد خفي،فالتحول عنها تصحيح لخطأ،والابتعاد عن الخطأ لا يحتاج إلى الاشتغال ببديل.

ولكن نقول لهؤلاء الإخوة:دعوا هذه المجابهة الخاطئة التي أقصتكم عن مهمتكم الجهادية فعلاً، لتعودوا إلى شرف النهوض بها، بعد أن طال بكم البعد عنها.

دعوا استثارة الحكام التي طالما شغلتكم عن شرف الدعوة إلى الله، وإدخال حب الإسلام إلى قلوب عباد الله، وانعطفوا سراعاً عائدين إلى هذه المحاريب التي لا أجلّ ولا أرضى منها لله عزَّ وجلّ، وليكن شعار هذه العودة نداءً صادراً من القلب:وعجلت إليك ربَّ لترضى.

فإن أبى هؤلاء الإخوة إلا مضيَّاً في هذا الاشتباك وانصياعاً لنداء الثأر واستجابة لحظوظ النفس، مهما بقيت ساحات الدعوة إلى الله والتعريف بدينه فارغة مهجورة، فليعلموا أنهم، عدا عن كونهم خالفوا أمر الله وهديه، لن يصلوا إلاَّ إلى نتيجة واحدة، هي أن يجعلوا من هذه البلاد مغرباً للإسلام بعد أن كانت مشرقاً له.

ولكن ذلك لا يعني أن تختفي شمس الإسلام من هذه البقعة في مغرب لا شروق لها من بعده، بل ستختفي، من جراء هذه الأخطاء هنا، لتشرق هناك.. في أماكن من الغرب نائية، بفعل جهاد خفيٍّ هادئ من الدعوة المتحرقة إلى دين الله هناك، ينهض بها نساء ورجال كانوا بالأمس القريب ضائعين عن هوياتهم.. شاردين عن ربوبية مولاهم وخالقهم، غارقين في يمٍّ آسن من الشهوات والأهواء المشقية.

ها هم أولاء، وقد انتشرت أشعة دعوتهم إلى الله والتعريف بدينه، في الفجاج التي يقيمون فيها أو التي يرحلون إليها، يعيدون فيما ينهضون به من هذا الواجب الجهادي سيرة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مظهراً ومضموناً. إنهم لا يلتفتون إلى واقع حكم غير إسلامي يظلٌّهم، ولا يعبؤونبنظام إلحادي غريب عن معتقداتهم وأمانيهم والتزاماتهم.. وإنما ينصرفون بكل ما يملكون من جهد إلى استنبات البديل الذي سيحلٌّ محلَّ هذا الحكم وسيحول اتجاه هذا النظام، إن آجلاً أو عاجلاً.

إنهم ينصرفون إلى هداية العقول وتزكية النفوس، بدءاً بالأقارب والأرحام، إلى الجيران والأصدقاء، بصبر منقطع النظير وحلم لا نهاية له.

أجل، تلك هي المهمة التي ينهض بها اليوم كل فتى أو فتاة هٌدِيت، في ربوع الغرب، إلى دين الله عزَّ وجلَّ. والعجيب أنهم لا يحتاجون إلى من يبصرهم بمنهج الدعوة، أو إلى من يحذرهم من هذا التزييف الذي يمارسه كثير من المسلمين باسمه، وهي المشكلة التي نصدر في بيانها المؤلفات، ونلقي فيها المحاضرات، ويمتد حولها الجدل المتطاول، بل تراهم اتجهوا بحكم الفطرة الإيمانية التي شدتهم إلى الله وحررتهم من أنفسهم وحظوظها، إلى المنهج السديد في الدعوة إلى الله والذي ورثه الصحابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:إنهم لا يرهقون أفكارهم ساعة واحدة في نسج صورة الحكومة الإسلامية والمجتمع الإسلامي والتخطيط لهما، وإنما يرهقون أنفسهم ويبذلون كل جهودهم في أداء المهام والواجبات التي كلفهم الله بها، وفي مقدمتها إبلاغ كلمات الله إلى العقول بعد الآذان، والتعريف بالإسلام ومبادئه وأحكامه، وهم يعلمون _بدون الحاجة إلى أي جدل أو نقاش_ أن القيام بهذه الواجبات هو ثمن ما سيكرمهم الله به من الحكم والمجتمع الإسلامي...

ودعني أختم هذا البحث بهذه الصورة النموذجية السامية للقيام بواجب الدعوة الإسلامية وخدمة دين الله، بل للسبيل الحقيقي الذي لا بديل عنه إلى إقامة المجتمع الإسلامي، ولسوء الحظ أو لحسن الحظ، فإن بطل هذه الصورة النموذجية التي نبحث في بلادنا الإسلامية عنها، فتاة بريطانية تعيش في لندن.

دخلت هذه الفتاة الإسلام، وما إن أشرب قلبٌها حبَّه، حتى بدأت تبذل كل ما تملك من جهد لإقناع أخويها الشابين وأختها الصغرى باعتناق الحق الذي عانقته، وصبرت وصابرت في سبيل ذلك، حتى كتب الله لهم الهداية واعتنقوا الإسلام والتزموا بأحكامه عن دراية وحب.

واتجهت الفتاة الداعية عندئذٍ إلى أمها تعرفها بالإسلام وتدعوها إليه. وصبرت وعانت في سبيل ذلك ما عانت. ومرت سنوات دون أن يأتي جهدها هذا بطائل. ثم إن الأم مرضت مرضاً عضالاً،

أدخلت على أثره المشفى.. وجلست الفتاة الداعية تسهر إلى جانب أمها لا لكي تقوم بواجب تمريضها فحسب، بل لتواصل سعيها وجهادها لهداية أمها إلى الإسلام، وقبيل أن تصل الأم إلى الرمق الأخير أعلنت عن انشراحها للإسلام واستعدادها لاعتناقه، فما كان من الفتاة إلا أن اتصلت بالمركز الإسلامي في لندن، تبحث عمن يأتي من المسلمين فيه، فيشهد على إسلامها، لتعامل بعد وفاتها معاملة المسلمين في أمور التجهيز ونحوه. وأجابها موظف السنترال الباكستاني بأنه لا يوجد أحد من المسلمين تلك الساعة في الم

تحميل