العلّامة الشهيد محمد سعيد رمضان البوطي
كلمة الإمام البوطي في تأبين الرئيس الراحل حافظ الأسد رحمه الله
الأربعاء 12/3/1420هـ الموافق 14/6/2000م
سيادة الفريق: ليس من شأني في مثل هذه المناسبة أن أزيد الجراح نزيفاً، أو أن أزيد الألم عمقاً، بل الشأن أن أعزي، وأن أذكِّر برحمة الله عز وجل وحكمته.
لكني لست مبالغاً إن قلت إن هذا الحدث ملأ كياني كله أسىً من الفرق إلى القدم، فمهما نطقت أشعر أن لساني لن يفرز شيئاً مما في فؤادي إلا هذا الأسى، غير أني تعلمت وأنا مؤمن مثلك، وكلانا ورثنا وتعلمنا قدراً كبيراً من الإيمان من السيد الرئيس الوالد الراحل، علمنا كيف ننسج أدب المأساة مع نشوة الرضا عن الله. أجل. أرأيت ياسيدي إلى المريض الذي يتمدد تحت مبضع طبيبه الجراح؟ إنه قد يتأوه، ولكنه يشكره باللسان ذاته الذي يتأوه به، نحن نعالج ومهما رأينا حدثاً وصل إلينا من الله عز وجل فهو لا يعدو أن يكون تطبيباً.
ولذلك فأنا أقول بحق: مهما تأوه إنسان مثلي، ومهما أطلق الزفرات، فلا والله لن تترجم هذه الزفرات إلا بالرضا عن الله، ولايمكن أن نجد لها تعبيراً في لغتنا وفي مشاعرنا الإيمانية إلا الخضوع المتناهي بما قد قضى به الله عز وجل. وإني لأذكر يوم حمدتَ الله عز وجل على رحيل أخيك باسل أجل. ولم يكن ذلك اصطناعاً بل كان ذلك شعوراً.
سيادة الفريق الركن: تمتع هذا الشعب من قائده الفذ بمعين لا ينضب، تضلع من هذا المعين الكثير الكثير من الحكمة التي تعلمها، تضلع من هذا المعين الكثير والكثير من الشموخ في السهر على الحقوق، عرف وتعلم من هذا المعين الذي انتهله وتضلع منه كيف يجمع بين السلام الذي هو رسالتنا وبين الشموخ وعدم التنازل عن الحقوق الذي هو واجبنا. هذا المعين لم ينضب، إنه مستمر؛ وقد تفرع عنه هذا النهر الدافق المعطاء، هذا الشعب وقد انتشى من هذا المعين، وقد تضلع كؤوساً إثر كؤوس من المعارف التي ورثها من هذا المعين، لايمكن، لايمكن أن يغير مذاق فمه بعد ذلك، لايمكن أن يتجه يميناً وشمالاً ليبتعد عن هذا المعين أبداً، سيبقى مع المعين متمثلاً في هذا النهر الفياض المتفرع عنه، وأنا أعلم أن هذا النهر المعطاء لن ينضب.
سيادة الفريق الركن: أذكِّر بشيء تعرفه أكثر مما أعلم من أسرار قائدنا الراحل رحمه الله تعالى، كان عبقرياً، أجل، أقول هذا. وكان حاكماً فذاً في العالم، أقول هذا. لكنه والله كان يأخذ مدده وكان يأخذ شحونات توفيقه من الالتجاء إلى الله عز وجل، وإني لأذكِّرُك بتلك الكلمة الوجيزة التي قلتُها وقد أعلن عن رضاه بقدر الله يوم رحيل باسل، قلت له في كلمتي الآية التي خاطب الله بها رسوله، وهو خطاب لكل من جاء بعده: (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) قلتها ونظرت إليه، فأجاب بفمه الناطق بلى، وأجاب برأسه وهو ينهضه يقيناً بلى، أليس الله بكافٍ عبده؟
الله يكفي، وأنت الوريث، أجل، أنا أعلم أن الحمل ثقيل، وعلى قدر أهل العزم تأتي العزائم، ولكني ياسيادة الفريق على يقينٍ أن الله سينصرك، وأن الله لن يتخلى عنك. ولكني أذكرك أيضاً بما ذكرت به قائدنا، هو لم يكن ناسياً، لكنه كان ينتشي بأن يسمع ما يتفاعل معه، لابد من كثرة الالتجاء إلى الله في السر قبل العلن. وهذا ما أعرفه من قائدنا الراحل، ربما لم يكن يتصور هذا كثير من الناس، لكنك تعلم كما أعلم أنه كان كثير الالتجاء إلى الله.
رأس مالك: الالتجاء إلى الله أولاً. ثانياً: الحب بعد البر من هذا الشعب ثانياً. ثالثاً: رحمتك بهذا الشعب ثالثاً.
ولا أشك أن الله سبحانه وتعالى سيحطم تضاريس الطريق كلها، ولسوف يُعَبِّدُ أمامك السبيل. أما الأدعية فأنا أقول وَأنا لست متكلفاً في هذا، وأنا أعلم أنني أقول حقاً: في شامنا هذه صالحون بررة، لهم صلة وثقى بالله عز وجل، لن تفتر ألسِنَتُهُمْ من الدعاء لك إطلاقاً، سوف يظلون يدعون في البكور، في الآصال. هناك من يدعو لك في سجوده، أجل في سجوده في جنح الليالي المظلمة. فأرجو أن تزداد ثقة إثر ثقة إثر ثقة بتوفيق الله سبحانه وتعالى.
وإني لأهنئ هذا الشعب السوري بأنه لم ينتقل من هذه المظلة إلى شمس محرقة، لابل لايزال يتفيأ ظلاً وارفاً، ولايزال يسير مع النهر الدافق المتفرع من ذلك المعين. أهنئ ولسوف يعلم العالم العربي أن علي أن أهنئ العالم العربي كله أيضاً.
ولا أريد أن أطيل، والحمد لله رب العالمين.