العلّامة الشهيد محمد سعيد رمضان البوطي
فإنّ مع العسر يسراً
فإنّ مع العسر يسراً
العلامة الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي
سنتان نقرأهما في كتاب الله عز وجل ألزم بالواحدة منهما ذاته العلية وألزم بالثانية عباده في مقابل التزامه بالأولى.
جعل السنة الثانية التي ألزم بها عباده شرطاً للسنة الأولى التي تفضل بها على عباده. أما السنة الأولى فهي تلك التي يعبر عنها بيان الله عز وجل في قوله سبحانه: (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً)، قاعدة ألزم الباري عز وجل بها ذاته العلية أنه ما من عسر يبتلى به الإنسان إلا ويأتي في أعقابه مباشرة اليسر الذي ينسخه، ولكن ذلك مشروط بأن يلتزم الإنسان بالعهد الذي ألزمه الله سبحانه وتعالى به، بالسنة التي ألزم الله سبحانه وتعالى بها عباده وهي أن يفر الإنسان عندما يقع في العسر أياً كان نوعه، أن يفر منه إلى التجمل بالرضا والصبر أولاً، ثم أن يفر من هذا العسر إلى اللجوء إلى أعتاب الله عز وجل والالتصاق ببابه والتمسكن عند جنابه، تلك هي السنة الثانية.
ولقد قضى الله عز وجل بأن يربط الأولى بالثانية فقال عز من قائل: (وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ)، أوفوا بعهدي الذي ألزمتكم به وهو الصبر على الشدائد التي تنتاب الإنسان وتأتيه ابتلاءً من الله عز وجل ثم الفرار من هذه الشدائد إلى أعتاب الله، إلى الوقوف على باب الله، إلى التضاؤل عند جنابه والتعرض لصفحه وكرمه، وكأن الله عز وجل يقول لعباده إن أنتم وفيتم بالعهد الذي ألزمتكم به التجاءً إليَّ وفراراً إلى رحمتي وصفحي فلسوف ألزم ذاتي بما قد وعدتكم به وهو أن يعقب العسرَ يسرٌ دائم.
هما سنتان إذاً ينبغي أن نتبينهما جيداً، وإننا لنلاحظ هذه السنة في حياتنا التي نعيشها سواء كانت حياة فردية أو اجتماعية، هي مصداق دقيق لقوله سبحانه: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ) ذلك هو العسر، ثم قال: (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ).
إذاً سنة الابتلاء ماضية في عباد الله عز وجل ولكن الله عز وجل ألزم ذاته بأن ينسخ اليسرُ العسرَ بعد ذلك بل مباشرة (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) وأكد ذلك فقال: (إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) ولكن بشرط الالتجاء إلى الله، بشرط الفرار من هذا العسر إلى أعتاب الله والتمسكن على باب الله سبحانه وتعالى.
وانظروا إلى هذا العهد الذي قطعه الله عز وجل علينا من خلال قوله سبحانه: (وَلَقَدْ أَرْسَلنَا إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَـكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ)، هذا هو العهد الذي قطعه الله عز وجل علينا وذلك هو العهد الذي ألزم الله به ذاته تجاهنا فهلا وفينا العهد الذي قطعه الله علينا ليوفي العهد الذي ألزم الله عز وجل به ذاته؟! هلا وقفنا عند قوله: (وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ).
ومع هذا فإن في الناس ربما من قد يعترض أو يستشكل فيقول وما الحكمة من أن يبتلي الله الإنسانَ بالعسر ثم يكشف عنه العسر إذا التجأ إلى الله عز وجل، هلا أقامه في حياةٍ كلها اليسر دون هذه المقدمة وتلك النتائج، دون السنة الأولى ولا السنة الثانية؟ سؤال قد يطوف بذهن كثير من الناس فما الجواب على ذلك؟ الجواب باختصار يا عباد الله هو أن ما نعلمه من أن الحياة التي نعيشها اليوم ليست مقراً وإنما هي ممرٌّ إلى مقر هي معبر هي جسر إلى الحياة الباقية الخالدة التي تنتظرنا عبر بوابة الموت.
إذا علمنا أن حياتنا هذه ممر فهل من الحكمة الربانية أن يجعلها الله عز وجل نعيماً مقيماً لا تشوبه شائبة؟ هل من الحكمة أن يتقلب الإنسان من هذه الحياة في رغد من العيش أنَّا ما تقلب وكيفما حل وسار إذاً سيتشبث الإنسان بهذه الحياة تشبث الخالدين وإذا أقبل إليه الموت فلسوف يكون اقتلاعه أو انقلاعه من هذه الحياة التي تعشقها لأنها كلها متع لسوف يكون اقتلاعه من الحياة الدنيا أمراً شديداً جداً جداً، ولعله أشبه ما يكون بمجموعة خيوط حريرية تشبثت بشجرة من الشوك اجتذبتها بشدة فتقطع من تلك الخيوط ما تقطع وبقي منها ما بقي.
الحكمة أن يجعل الله هذه الحياة التي هي ممر مزيجة من خير وشر حتى نستفيد من الخير في طريقنا إلى الله فإذا جاءنا الشر تأففنا من هذه الحياة وعرفنا أن الإنسان ما ينبغي أن يركن إليها، ما ينبغي أن يتعشقها، هي جسر والجسر ما ينبغي أن يكون فيه من المتع ما في الدار التي أنت مقبل إليها بعد عبورك لهذا الجسر بدقائق.
هذه الحكمة الأولى أما الحكمة الثانية فهي أن تتجلى هويتك عبداً لله عز وجل، أنا عبد أعلن ذلك صباح مساء لكن كيف تفوح رائحة عبوديتي حقيقة لله، إذا جاءتني الابتلاءات سنة من سنن الله كما قلت لكم ثم أقبلت إلى العهد الذي ألزم الله عز وجل به نفسي فالتجأت إليه، شكوت أمري إليه، تمسكنت على بابه، أعلنت عن تجملي وصبري على قضائه هنا تفوح رائحة عبودية الإنسان لله والمطلوب أيها الإخوة أن يعلن الإنسان عن عبوديته لله ببرهان لا أن يعلن عن عبوديته لله بدعوى تحتاج إلى دليل.
هذه الحقيقة كم وكم جسدها الله عز وجل لنا، هذه الرابطة بين السنة التي ألزم الله بها ذاته العلية (إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) والسنة التي ألزمنا بها شرطاً للأولى أن نفي بعهد الله عز وجل تجملاً وصبراً وأن نفي بعهد الله سبحانه وتعالى التجاءً وتمسكناً وتضرعاً على أعتاب الله سبحانه وتعالى، وانظروا يا عباد الله كيف يجسد لنا مولانا الحكيم هذه السنة بشطريها، بل هاتين السنتين في سيرة سيدنا يوسف على نبينا وعليه الصلاة والسلام، ضرب الله لنا منه مثلاً لسلسلة الابتلاءات التي ابتلِيَ بها ثم ضرب الله لنا منه مثلاً للصبر والتجمل والالتجاء الدائم إلى الله ثم أرانا كيف أبدل الله سبحانه وتعالى عسره يسراً، ألا ترون؟ ألم تقرؤوا سورة يوسف؟ رماه إخوته وهو صغير في البئر دون ذنب اقترفه، ثم إن فئة من الناس أقبلت فانتشلته من البئر وفازت به عبداً باعته في سوق النخاسة بمصر هذا هو الابتلاء الثاني، ثم إن عزيز مصر اشتراه واتخذه خادماً في داره، ولما بلغ مبلغ الشباب ونضج كيانه واشتد عوده راودته زوجة العزيز عن نفسه وذلك هو الابتلاء الأطم والأشد، فاستعصم وتعفف والتجأ إلى الله سبحانه وتعالى قائلاً: (رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ)، ثم إنه سجن لبضع سنين وهو بريء، سلسلة من المصائب هي سنة، هي العسر الذي تحدث البيان الإلهي عنه لكن كيف قابل يوسف عليه الصلاة والسلام هذا العسر؟ قابله بالتجمل والرضا، قابله بالالتجاء إلى الله دائماً أن يفرج عنه، أن يكشف عنه هذا الضر، نعم، فماذا كانت عاقبة ذلك؟ كانت العاقبة أن أخرجه الله من السجن، ثم كانت العاقبة الثانية أن زوجه من تلك التي راودته عن نفسه ثم إن الله بوأه عرش مصر ثم إن الله عز وجل جمع الشمل وأعاد إليه أبويه وإخوته.
أرأيتم هكذا يكون رب العالمين في تصرفه مع عباده لكن تعالوا نصغي السمع إلى خواتيم هذه الصورة التي تجلي لنا هذا المعنى الذي أقوله لكم، أقبل إخوة يوسف إلى مصر يريدون أن يأخذوا الميرة، الحاجات التي يحتاجون إليها ليعودوا بها إلى الصحراء التي كانوا يعيشون فيها، إلى البادية، دخلوا على عزيز مصر وهم لا يعرفونه: (فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَيْهِ قَالُواْ يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ * قَالَ هَلْ عَلِمْتُم مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ * قَالُواْ أَإِنَّكَ لَأَنتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ وَهَـذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ * قَالُواْ تَاللّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللّهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ * قَالَ لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * اذْهَبُواْ بِقَمِيصِي هَـذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ * وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ * قَالُواْ تَاللّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ الْقَدِيمِ * فَلَمَّا أَن جَاء الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ * قَالُواْ يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ * قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّيَ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُواْ مِصْرَ إِن شَاء اللّهُ آمِنِينَ * وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّداً) سجود تكريم لا سجود عبادة (وَقَالَ يَا أَبَتِ هَـذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً وَقَدْ أَحْسَنَ بَي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاء بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنُيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ).
مشهد جذاب يا عباد الله ينسيك الدنيا وما فيها، يجعلك تعيش في بحار من حكمة الله ولطفه وكرمه وجوده.
ما الشدة عندما تفر منها إلى أعتاب الله، ما البلاء عندما تعلم أنك تتقلب في كفٍّ من حكمة الرحمن سبحانه وتعالى.
اللهم ألهمنا الشكر أمام نعمائك وألهمنا الصبر والالتجاء إليك بصدق وثبات أمام ضرائك أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.