العلّامة الشهيد محمد سعيد رمضان البوطي
هل يمكن إقامة المجتمع الإسلامي على منهج ثوري ؟
ازدادت الصلة، في الآونة الأخيرة، بين كلمتي "الثورة" و "الإسلام". وظهر - لأول مرة - ربما شعار: الثورة الإسلامية، تعبيراً عن آمال إسلامية يتم السير نحوها، أو تعريفاً بواقع فرض نفسه بشكل ما.
والسؤال الذي لا بدّ أن يتطارحه المسلمون فيما بينهم، أو المسلم الحصيف مع نفسه، هو:
هل يتفق مفهوم كلمة "الثورة" مع جوهر الدعوة الإسلامية، أو مع حقيقة ما يسمى اليوم بالمجتمع الإسلامي؟
ومعلوم أن "الثورة" في عرف السياسة الحديثة، تعني أي تغيير جذري شامل، يحدث في مسار الأنظمة السياسية أو الاجتماعية، قفزاً فوق سنة التطور والتدرج، سواء تم ذلك بطريقة سلمية هادئة أو بعامل عنف وسفك دماء.
غير أن الواقع الذي رصده التاريخ، بدءاً من الثورة الإنجليزية التي ظهرت عام 1215م إلى الثورة الفرنسية عام 1789م، فالثورات الأخرى التي ظهرت هنا وهناك إلى يومنا هذا - حصر معنى الثورة في السعي إلى التغيير الجذري بعامل العنف وإراقة الدماء. ولا شك أن هذه الأداة تفاوتت شدةً واتساعاً ما بين ثورة وأخرى. غير أنها ظلت سبيلاً أساسياً وقاسماً مشتركاً بينها جميعاً.
وهكذا، فعلى الرغم من أن التصور النظري لا يمنع من أن تقوم ثورة يسلك بها أصحابها طريق السلم والأناة، إلا أن الواقع لم يساعد هذا التصور يوماً ما على فرض نفسه في مجال التطبيق.
ولا ريب أن لهذا الواقع أسبابه التي لا يصعب التنبه لها. غير أن الحديث عنها خارج عما نحن بصدده الآن.
لذا، لا بدّ أن نتساءل: هل يتفق جوهر الإسلام بحدّ ذاته مع أي منهج ثوري (يقوم على الشدة والعنف) لإقامة المجتمع الإسلامي وتثبيته ؟
بوسعي أن أبادر فأقول: إن ما يسمى بالمجتمع الإسلامي لا يمكن أن يستقرّ اعتماداً على سبيل العنف وسفك الدماء، وما سبق أن قام يوماً ما هذا المجتمع على مثل هذا الأساس.
ذلك لأن إشاعة أحكام الإسلام وآدابه في المجتمع، إنما تأتي ثمرة لرسوخ جذوره الاعتقادية في الأفئدة والعقول. وذلك هو مجمل الفارق الكبير بين النظم الإسلامية، وسائر الأنظمة الاجتماعية أو السياسية الأخرى .. ذلك لأن هذه الأنظمة الأخرى لا تنمو اعتقاداً عن طريق المناهج التربوية المجردة، وإنما تفرض نفسها بالوسائل المادية المختلفة حسب اختلاف أصحابها، وربما كان العنف واحدة منها. وإنما أداة ذلك على الأغلب، سلوك سبيل العنف. أما عندما تكون هذه الأنظمة متساوقة مع رغبات الجميع، متآلفة مع مصالحهم، فلا داعي عندئذ للجوء إلى هذا السبيل.
أما نظام الإسلام، فهو إنما ينهض على دعامة خفية تكمن في أغوار النفس الإنسانية، ألا وهي استشعار معنى العبودية لله عز وجل، واليقين بوجوده ورقابته للإنسان، وبأنّ مردّه إليه، وأنه سيجزيه الجزاء الأوفى، على كل ما صدر منه أو اقترفه من خير وشر.لذلك كانت سائر الأعمال السلوكية التي تصدر من الإنسان مهدرة لا قيمة لها في ميزان المثوبة الإلهية يوم القيامة، إن لم تنهض على هذه الدعامة الإيمانية، ولم تصطبغ بها. ونصوص القرآن صريحة وقاطعة في ذلك:
(وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً) [الفرقان: 23].
(وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ) [النور: 39].
وبمقتضى هذه الحقيقة التي تبرز الفارق الكبير بين طبيعة النظام الإسلامي وسائر الأنظمة الأخرى، كان واجب المسلمين في السعي إلى لإقامة المجتمع الإسلامي متمثلاً بادئ ذي بدء في العمل بالسبل الممكنة كلها على تنبيه العقول إلى حقائق العقيدة الإسلامية ودلائلها العلمية الثابتة، وعلى إزالة الشبهات التي قد تعوق دون الجزم بها، ثم في العمل بالسبل الممكنة أيضاً على إخضاع هوى الأفئدة والنفوس لما استيقنته العقول وصدّقت به.
وما من ريب في أن طريقاً يتجه به سالكه إلى الأفئدة والعقول، لا يصلح إلا أن يكون طريق مرحمة وسلم، وحكمة وأناة. وما من شك في أن أخطر العقبات التي تبرز على متنه إنما يتمثل في الضغينة والعنف.
وما ترد كلمة الجهاد مرة في القرآن، إلا ويكون هذا السعي الحثيث إلى الأفئدة والعقول، أول ما يقصد من معاني الكلمة ومدلولاتها. وهو المعنى الذي تترجمه هذه الآية القرآنية العظيمة:
(ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [النحل: 125]
فإن أعوزك مظهر تطبيقي تتجسّد فيه هذه الحقيقة، فدونكَ فتأمل في سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم/ واستعرض مراحل دعوته كلها، فلن تجد من خلالها إلا ممارسة مستمرة لهذه الحقيقة، وسعياً دائباً على هذا الدرب.
لقد أمضى صلى الله عليه وسلم ثلاثة عشر عاماً من عمر دعوته إلى الله وجهاده في سبيله، وهو يخاطب العقول بالإرشاد والتذكير، ويتجه إلى القلوب يستثير فيها العواطف الإنسانية والفطرة الإسلامية، دون أن يحرفه عن ذلك الطريق ما أمعنت فيه قريش من العناد والبغضاء ومقابلته بشتى مظاهر الكيد والعدوان.
وربما توهم باحث أنه الضعف الذي كان يعانيه النبي وصحبه آنذاك، منعه من أن يقابل الشر بمثله، وحمله على الصبر إلى حين. ولا ريب أن هذا وهم وباطل من القول. فلو كان الذي يمسكه على تلك الحال من التجمل والرحمة وسعة الصدر، عجزه عن المقاومة وعن رد الكيد بمثله، إذن لفرضت طبيعة الثورة نفسها على حاله ومظهره، ولتجلّى ذلك - على أقل تقدير - في حقد ينفثه أو توعد يشفي غليله به، ولدعا عليهم ذات مرة بالسحق والمحق، سيما وأن دعاء الرسل والأنبياء أمضى من أسلحة الثائرين. ولكنا قد علمنا أنه صلى الله عليه وسلم ما كان يستقبل عداواتهم إلا بمزيد من الشفقة والرحمة، وأبى أن يحرك لسانه بالدعاء عليهم حتى في أحلك الساعات وأقسى الظروف التي مرت به.
فلما هاجر إلى المدينة واستقر به المقام فيها، ونظر المشركون فرأوا أن قد غدا للنبي أرض يركن إليها وأن قد أحاطت به شيعة تستنّ بهديه وتدعو بدعوته، وأنها بسبيل أن تنتشر في الناس وتستقر في العقول - هاج بهم هائج الضغينة والحقد، وهبّت فيهم من ذلك ثورة لاهبة تسعى لحماية الباطل الذي توارثوه من الآباء والأجداد، وتلح على خنق حقائق الدين الذي بعث به محمد صلى الله عليه وسلم.
وهكذا فإن الأمر كان على عكس ما يتوهمه المتوهمون. فالدعوة الإسلامية التي اختط الرسول سبيلها الآمن الحكيم، هي التي واجهت من المشركين ثورة البطش والعنف والعدوان، وليس المشركون هم الذين فوجئوا من النبي وأتباعه بتلك الثورة التي تنسب اليوم إلى الإسلام فتسمى: الثورة الإسلامية.
وما واجه المسلمون أعداءهم يوماً (وهم بقيادة المصطفى صلى الله عليه وسلم) على طول تلك المواجهة وعرضها، بشيء من تشنجات الثائرين وأحقادهم الهائجة. وإنما كانوا يتصدّون لثورتهم بالإخماد، ويواجهون قوتهم بالتوهين، ويلاحقون جموعهم بالتفريق، وقاية لحقائق الدين الإسلامي أن تغتال في أشخاص المسلمين، فينكفئ الناس مرة أخرى على ظلام الجاهلية، ويعودون إلى ماضيهم التائه المشؤوم.
لقد قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: إنّ أهل نجد بحاجة إلى من يدعوهم إلى الإسلام ويعرّفهم به، فأرسل إليهم سبعة من عيون أصحابه، يخوضون إليهم غمار أحقاد ضارية، دون أن يجهزهم صلى الله عليه وسلم إلا بمنطق الحق مضمخاً بلوعة الشفقة والحب، فتخطفتهم جميعاً يد الغدر، ودارت عليهم رحا القتل، ولم يعد منهم أحد.
ثم قيل مرة أخرى له عليه الصلاة والسلام عن شدّة احتياج أهل نجد إلى من يعرّفهم بالإسلام، فأرسل إليهم بدلاً من أولئك السبعة سبعين من أخلص أصحابه، ولم يجهزهم إلا بمثل ما جهز به إخوانهم من قبل، فما كانوا يبعدون في أرض نجد، حتى أحيط بهم، وقتلوا عن آخرهم، اللهم إلا واحداً فقط، وهو عمرو بن أمية الضمري، وكأن الأقدار استبقته ليعود بالنبأ الأليم إلى رسول الله.
فأي الفريقين ثائر هائج مغتاظ، وأيهما يسعى إلى إنفاذ دعوة الحق مضمخة بضياء المنطق، نابضة بلوعة الحب والإخلاص ؟
ولما صدّ المشركون رسول الله عن البيت، وقد اتجه إليه جمع كبير من أصحابه معتمرين مسالمين، آثر السلامة، وعاد إلى المدينة أدراجه، ووقع مع المشركين على كتاب صلح بين الفريقين، كانت بنوده كلها خدشاً لكرامة المسلمين وإجحافاً بحقهم، لو أنهم كانوا يسيرون في معاملة الكافرين مسيرة الثائرين.
ولما أمكنه الله من العودة ظافراً إلى مكة، وأظفره الله بأهلها، وسار إليها ممتطياً أعلى ذرى القوة والنصر، كان يراقب قلبه أن لا يتسلل إليه شيء من روح السخيمة وهوى الانتقام، وكان يحاذر أن يتسلل إلى رأسه شيء من نشوة القهر والانتصار، وكان يراقب أصحابه أيضاً ويحذّرهم من أن يفتحوا أفئدتهم لشيء من تلك المشاعر. ولما بلغه أن سعد بن عبادة قال، وهو على مشارف مكة، كلمة أجرتها نشوة الظفر على لسانه: "اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحلّ الكعبة" غضب عليه الصلاة والسلام وردّ عليه قائلاً: (بل اليوم يوم المرحمة. اليوم تكسى الكعبة).
وأبى عليه الصلاة والسلام، وهو يدخل مكة من أعلى قمم النصر، إلا أن يكون خاشع القلب مطأطئ الرأس، يرتدي كوة الذل والعبودية لمولاه. وقدم على مشركي مكة قدوم الغائب على أهله. وبدّد مخاوفهم من البطش والانتقام بقوله: (اذهبوا فأنتم الطلقاء).
فتلك هي صورة مراحل الدعوة الإسلامية، في حياته صلى الله عليه وسلم كلها، هل تجدها مسوقة إلا برحمة القلب وشفقة النفس، وهل تجدها متجهة إلا إلى العقول بالإقناع وإلى الأفئدة بإيقاظ معاني الإنسانية والحب.
***
غير أن المشكلة التي قد ترد على كلامنا هذا، في تصور بعض الناس، هي مسألة الجهاد. أليس الجهاد أقدس شرائع الإسلام، وهل كان النبي يدعو أصحابه إلى عبادة أعظم من عبادة الجهاد ؟ حتى لقد قرر بأنه الركن الباقي إلى يوم القيامة، وأن من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو، مات على شعبة من النفاق، وهل يكون لمعنى الثورة مظهر أجل من هذا وأبرز؟
والجواب أن الجهاد الذي شرعه الله واستقر باباً من أخطر أبواب الفقه الإسلامي وأهمها، ليس أكثر مما تشرعه أي دولة مسالمة ديمقراطية اليوم، بصدد حماية سلمها ورعاية أمنها. وهو شيء ضروري لا بدّ منه بإجماع سائر فلاسفة القانون وعلماء الاجتماع، مادام أن البغي على وجه الأرض لم ينقطع بعد، وأن مطامع الظلم والعدوان لا تزال بارزة المخالب والأنياب.
هل تجد دولةً على وجه الأرض لا تهتم بإنشاء جيش قوي لها، ولا تنصرف إلى حماية ثغورها وتحصين حدودها؟ إن الجهاد الذي شرعه الله وألزم به عباده المسلمين، ليس أكثر من ذلك مهما رأيت له من مظاهر وأشكال.
يقول ابن رشد في مقدماته على مدونة الإمام مالك: "فإذا هوجر العدوّ، وحميت أطراف المسلمين، وسدّت ثغورهم، سقط فرض الجهاد عن سائر المسلمين".
ويقول الشربيني في مغني المحتاج: "ويحصل فرض الكفاية بأن يشحن الإمام الثغور بمكافئين للكفار، مع إحكام الحصون والخنادق وتقليد الأمراء".
وحسبك أن تعلم أنّ مشروعية الجهاد ليست من قبيل شرعة المقاصد والغايات، وإنما هي وسيلة لا بدّ منها، في ظروف معينة تفرض نفسها، إلى غايات إنسانية سامية لا غنى عنها.
يقول العز بن عبد السلام: "إن الجهاد لا يُتقرب به إلى الله من جهة كونه إفساداً، وإنما يتقرب به من جهة كونه وسيلة إلى درء المفاسد وجلب المصالح".
وهذا يعني - كما قال جمهور الفقهاء - أن الأصل هو السلم وحقن الدماء. ولا تشرع الحرب إلا عندما تكون هي الوسيلة الوحيدة إلى حماية السلم ودرء الفتن وحفظ الأرواح. وعندئذ لا مناص من تطبيق القاعدة القائلة: "يُتحمل الضرر الأخفّ درءاً للضرر الأعظم".
وبمقتضى ذلك يقرر معظم الفقهاء أن الباعث على القتال الذي يدخل في تعريف الجهاد، إنما هو درء الحرابة، وحماية سبيل تعريف الناس بالإسلام بحيث يتمكن المسلمون من النهوض به على أتم وجه وفي كل مكان، وليس مجرد صفة الكفر الذي يتلبس بها غير المسلمين.
ومن أبرز الأدلة على ذلك، أن النبي صلى الله عليه وسلم، ما زال ينهى في غزواته عن قتل الأجراء والعبيد، والنساء، والشيوخ، والرهبان الذين انقطعوا في كهوفهم أو معابدهم. وقد سار الخلفاء الراشدون من بعده على هذا النهج. فلو كان الباعث على القتال كفراً، لاستوى في موجب القتل هؤلاء وغيرهم.
غير أن هذا لا يعني أن الجهاد في الشريعة الإسلامية ينقسم (كما تراءى لبعض المستشرقين وأتباعهم) إلى حرب هجومية وحرب دفاعية. فهذا التقسيم لا وجود له في باب الجهاد ولا تتفق طبيعة الجهاد وأهدافه التي شرع من أجلها مع هذا التقسيم.
وإنما محور القضية أن الإسلام بمعناه الاعتقادي والسلوكي، هو المنهج الذي فطر الله عليه عباده، واختاره لهم وألزمهم به في هذه الدنيا، ولا رادّ لما ألزم الله به عباده. لذا فقد كان عليهم جميعاً أن يتقيدوا به في حق أنفسهم، ثم أن يبصروا الناس به وبدلائله العلمية الثابتة، على أتم وجه وأقوم سبيل. ولا شك أن على الناس جميعاً أن يتركوا هذه المهمة تسير في طريق آمن وبسلام، ما دامت مقيدة بحدود التعريف العلمي، وإزالة ما قد يكتنف الإسلام من الشبه والمشكلات.
إذن، فالجهاد ليس مظهراً لثورية الإسلام، كما قد يتوهم بعض الناس، وإنما هو الحزام الذي تتخذه أية أمة من الأمم، في أي زمان ومكان، لحماية سلمها، والتمكن من أداء دورها الإنساني البناء على صعيد الأسرة الإنسانية جمعاء.
***
وبعد، فإنما أردت أن أخلص من هذا كله إلى تأكيد النقاط التالية، وإني لعلى يقين بأنها تهم كل متحرق على عودة راشدة إلى الإسلام، مهتم بأمر الدعوة الإسلامية، والعمل لمصلحته بشكل ما:
أولاً:
يتميز هذا العصر بكثرة الحركات الإسلامية التي تتخذ من النهج الثوري سبيلاً لها، وهي مدفوعة بعوامل وأسباب شتى، ولكنها جميعاً تتلاقى على صعيد مشترك يتمثل في الهياج النفسي والأحقاد المستعرة والسعي إلى التشفي والانتقام. وقد تجد بين أصحاب هذه الحركات من يكون معذوراً في وقوعه تحت سلطان هذه العوامل، كأولئك الذين استلبت منهم أوطانهم أو وقعوا تحت آصار الظلم والاستعباد، فإن من الطبيعي أن يستبدّ بهم الحنق وتهيج بين جوانحهم عوامل الثورة على الظالمين والناهبين؛ ولكن فليحاذر أولئك الذين لا غرض لهم إلا العمل من أجل الإسلام والدعوة إليه، من أن يلتبس عليهم هذا بذاك، أو أن يصابوا بعدوى تلك الحركات. وليعلموا أن من المستحيل أن ينهض وجود حقيقي للإسلام على دعامة من هذا القبيل.
إن كل نظام من الأنظمة الاجتماعية الوضعية قد يُفرض لصقاً بواسطة الضغط الثوري، ولكن الإسلام لا يستقر وجوده إلا بغرس أصوله في تربة الأفئدة والنفوس، ثم استنباته بالرعاية والتوجيه. ولا يتم هذا إلا بمعاناة فردية طويلة صابرة.
ثانياً:
إنما يتكون المجتمع الإسلامي بإيجاد أفراده الصالحين أولاً، ولا تتمثل مهمة المسلمين في أكثر من النهوض الحقيقي بهذا الواجب؛ فإن هم أنجزوا ذلك في صبر وإخلاص وأناة، تكفل الله لهم ببقية الأمر، فتوج لهم جهودهم هذه بنظام إسلامي متماسك وسلطة إسلامية راشدة. لذا فليحذر المسلمون الذين يهتمون بشأن الدعوة الإسلامية من آفة هي أخطر آفات الحركة الإسلامية التي تظهر هنا وهناك، وهي أنهم ما يكادون يرون أن الإقبال على الإسلام يتزايد، وأن يقظة إسلامية واعية بدأت تنتشر في صفوف الشباب، وأن الأنظار أخذت تحسب للقوة الإسلامية حساباً - حتى تعاجلهم النشوة ويستبدّ بهم الزهو، فيتركون القاعدة التوجيهية التي ما كلفهم الله بغيرها، ويطمحون إلى حيث القمة، ليبدلوا النظم ويقيموا "الدولة الإسلامية التي تحكم بما أنزل الله" ... ولا بدّ أن تتنبه عندئذ عوامل التربص والحذر لدى الأطراف الأخرى، وأن تصطرع القوى وتتأزم الأمور. وأخيراً ينكفئ الطامحون على أعقابهم، وقد خسروا قواعدهم الأولى، ولم يفوزوا بأحلامهم الأخرى. وتلك هي مصيبة الحركات الإسلامية في أكثر بقاع الأرض.
ثالثاً:
على المسلم الذي ينهض بأعباء الدعوة الإسلامية، أن يكون شديد الرقابة على نفسه، فلا ينتصر لها من حيث يتوهم أنه ينتصر لدين الله. فإن بين هذين الطرفين حاجزاً دقيقاً جداً لا يكاد يبين. ولكنه مع ذلك حاجز ذو أهمية بالغة، إن ضاعت معالمه على السالك، وقع من جراء ذلك في مغبة ضياع خطير، وذهبت جهوده كلها أدراج الرياح.
***
لست أدري، وأنا أقرر هذه الحقيقة، هل كنت رقيباً على نفسي إلى الدرجة القصوى، متيقظاً للحاجز الدقيق الذي يمنعني من الانجراف نحو الانتصار للذات !... أرجو أن أكون قد وُفقت لذلك، وأعوذ بالله من فتنة النفس والهوى.
المصدر : كتاب الإسلام ملاذ كل المجتمعات الإنسانية ص 223