
العلّامة الشهيد محمد سعيد رمضان البوطي


عندما تستخدم الديمقراطية لمصادرة الحرية
عندما تستخدم الديمقراطية لمصادرة الحرية
خطبة الإمام الشهيد البوطي
تاريخ الخطبة: 18/11/2005
الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك, سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلِّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.
أمّا بعدُ فيا عباد الله ..
إن رسل ما يسمى بالديمقراطية الغربية عندنا إنما ينشطون صباح مساء للدعوة إليها في بلادنا؛ ظناً منهم بأن أبواب الحرية في بلادنا إذا فُتحت على مصارعها، فإن الناس رجالاً ونساءً سيشردون عن صراط الله، ولسوف يؤثرون الحرية الدنيوية على الدخول في باب العبودية لله عز وجل، ولسوف تؤثر الفتاة على أن تتحرر من حجابها وأن تتحرر من عبوديتها لله عز وجل. هكذا يُخيل إليهم وبدافع من هذا الخيال يمارسون ما يأمرهم به الفئات المعادية في الغرب لدين الله سبحانه وتعالى.
ولذا فإنهم عندما يوجدون النقيض، عندما يجدون أن الأبواب المفتحة للحرية أمام المسلمين ذكوراً وإناثاً يجعلهم يزدادون إقبالاً إلى دين الله عز وجل، ويجعلهم يزدادون تمسكاً بأوامر الله وشرعته، ويجعل الفتاة التي تجد ساحة الحرية أمامها أوسع أكثر تمسكا ًبأوامر الله وأكثر التزاماً بالحجاب، ومن ثم فإن رسل هذه الديمقراطية الغربية عندما يجد النتيجة المعاكسة لما كانوا يظنون يعودون فيحاربون الديمقراطية ويدعون إلى نقيضها، ويعلن أحدهم أو يقول أو تقول: إن كانت أنثى فلينزع الحجاب[1]، لماذا؟ أين هي الديمقراطية التي كنتم تدعون إليها الناس؟ (فلينزع الحجاب) هذا يتعارض مع الدعوة إلى الحرية، هذا أمرٌ بالاستبداد ودعوةٌ إلى تصفيد النساء بأغلالٍ من التبعية. أين هي الدعوة إلى الديمقراطية؟
السبب أيها الإخوة ما قد ذكرت لكم، ليس هنالك اهتمامٌ بما يسمى الديمقراطية لذاتها، كما أنه ليس هنالك اهتمام بما يسمى الاستبداد لذاته، وإنما هنالك اهتمامٌ باتباع السبيل الذي يُرى أنه الكفيل بإبعاد الناس عن صراط الله عز وجل، بحجب الناس المسلمين عن هوياتهم عبيداً لله عز وجل صائرين إليه عما قريب، ولذا فهم بين كرٍ وفر، كرٍ للدعوة إلى الديمقراطية عندما يظنون أنها هي التي تبعث الناس على الشرود عن دين الله عز وجل، ثم إنهم يفرون ويبتعدون عن الكر عندما يجدون أن الحرية مهما تفتحت أبوابها فلسوف تكون أدعى للمسلمين الواعين الذين عرفوا من قبل هوياتهم أدعى إلى التقيد بأوامر الله، أدعى إلى الشعور بالسعادة بالتزام شرائعه ذكوراً وإناثا. من هنا تجدون رسل الأعداء بل عبيد الأعداء في بلادنا بين كرٍ وفرٍ في هذا الموضوع.
أما ديننا الحنيف فلقد قرر منذ أن شرفنا الله عز وجل به أن الإنسان في هذه الحياة الدنيا يملك أن يستجيب لله ويملك أن لا يستجيب، بل قد نهى الله عز وجل رسوله على أن يقود الناس إلى الإسلام قسرا، نهى الله عز وجل رسوله محمداً على أن يجر الناس ويكرههم على الإسلام. قال له: )وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ[ قال: )وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ[ قال: )فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ، لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ[. ليس في الإسلام تذبذب في هذا الموضوع ولا غيره، ليس في الإسلام كر ولا فر، مرة دعوة إلى الحرية وفتح أبوابها ومرة أخرى دعوة إلى التقييد من هذه الحرية.
إسلامنا الحنيف جمع بين أمرين اثنين هما باقيان إلى أن تقوم الساعة هما:
الأمر الأول: تبصير الله عباده بهوياتهم )إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا[ وتبصيرهم بالمآل ووقوفهم بالغد القريب بين يدي الله عز وجل يوم الحساب، فمن أحسن جوزي بإحسانه إحسانا )هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ[ ومن أساء جوزي بإساءته عقابا هذا هو الأمر الأول.
أما الأمر الثاني الذي أثبته بيان الله إلى أن تقوم الساعة: فهو التأكيد بأن الناس في هذه الدنيا أحرار بلغتهم الدعوة وسمعوا النذير وعرفوا النار، واليوم لهم أن يستجيبوا ولهم أن لا يستجيبوا، منذ أن ابتعث الله لا أقول رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم بل الرسل والأنبياء جميعاً إلى أن تقوم الساعة، هذا هو قرار الله عز وجل، ليست فيه أي تذبذب، ليس فيه كر وفر إطلاقا، وتحت مظلة هذه الحرية التي شرعها الله وأكدها في محكم تبيانه في آيات كثيرة، حرية في دار الدنيا، تحت مظلة هذه الحرية، انتشر الإسلام وانتشرت القناعة بدين الله سبحانه وتعالى، وفي ساحات هذه الحرية اليوم تلتزم الفتاة الحصان التي عرفت هويتها بأوامر الله سبحانه وتعالى. ترفع رأسها عالياً معتزةً منتشيةً بحجابها الإسلامي بل بنقابها الإسلامي، لم يجبرها أحد على ذلك لم يقسرها أبٌ ولا أم ولا زوج على ذلك، إنما هي القناعة القناعة التامة التي تمت في ساحة الحرية التي يدعوننا إليها.
في ساحة الحرية نبت الالتزام الواعي بدين الله عز وجل، في ساحة الحرية نبت الالتزام بشرائع الله مظهراً وسلوكاً وإيماناً اعتقاديا في حياة الفتيات المؤمنات بالله سبحانه وتعالى.
بالأمس قلت أيها الإخوة في محاضرة ألقيتها في جامعة دمشق فوجدت شيئاً يُثلج صدر المؤمن، ولكنه يمزق كيان رسل أعداء الله عز وجل وعبيدهم، فوجدت عدد الفتيات في هذه القاعة الكبرى التي غصت بالطلاب والطالبات أكبر وأنا نظرت إلى الطالبات فوجدت كلهم ملتزمات بالحجاب، ونظرت فوجدت أن ثلاثة أرباعهن ملتزمات بالنقاب، من الذي أمرهن بهذا؟ الله، من الذي جرهن جرا ًمن عباد الله؟ لا أحد بل إن كل واحدة منهن التفتت يميناً وشمالا فلم تجد أمامها إلا ساحة الحرية واسعة، ولكن نداء الله سبحانه وتعالى هو الذي جعلها تقول )وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَىٰ[.
هذه هي الحرية، نحن ندعو إليها وكيف لا ندعو إليها وقد دعا إليها رب الأرباب، دعا إليها أحكم الحاكمين، الفطرة الإيمانية موجودة، الفطرة الإسلامية موجودة، ما أيسر أن تقف المرأة ويقف الرجل أمام مرآة الذات فيجد هويته تقول أنت عبد مملوك لله عز وجل لا تستطيع أن تتصرف من فرقك إلى قدمك إلا بمشيئة الله وسلطانه، ومآلك عما قريب بعد الموت وكل غد لناظره قريب كما قالوا، غداً ستقف بين يدي الله عز وجل من أنكر ذلك اليوم آمن به غدا ،ًما أيسر أن يعلم الإنسان الحر ذكراً أو أنثى هذه الحقيقة من الذي يستثنى من هذا؟ لا يستثنى من هذا القرار العام أيها الإخوة إلا من قرر أن يكون عبداً لإنسانٍ مثله، قرر أن يكون مملوكاً لعدو الله وعدو دينه، قرر أن يكون عبداً للمال الذي يملأ جيبه أو للغرائز الشهوانية التي تعتلج بين كيانه، مثل هذا الإنسان يُستعبد ويُجر بزمام النسبة في كيانه زمام العبودية للهوى، زمام العبودية للدنيا، زمام العبودية للآخرين.
أما المسلم فهو عندما يمارس الحرية يعلم أن الخطوة الأولى في تحرره هي أن يتحرر من عبوديته للأغيار، هي أن يتحرر من عبوديته لكل الناس مهما طغوا وبغوا. هذه هي الخطوة الأولى، أنا حر وهذا معنى كلام عمر متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً، أي أحرار عن التبعية لأمثالهم من العبيد. الخطوة الثانية وقد عرف هذا الإنسان أنه حر عن التبعية لأمثاله مهما طغوا ومهما بغوا هو عبد لمن؟ الله الذي خلقه فسواه فعدله في أي صورة ما شاء ركبه ويومئذٍ يقول يا رب ها أنا قد بايعتك ومددت يدي إلى كتابك معاهداً أن أطبقه بحذافيره من منطلق الحرية، يلتزم المسلم بأوامر الله ومنطلق الحرية تعتز الفتاة المسلمة بمظهرها الإسلامي وبتطبيقها لدين الله عز وجل.
أما الأذلاء العبيد فهم يلجأون إلى الديمقراطية عندما يخيل إليهم أنها هي التي تدعو المسلمين إلى الشرود عن دين الله وكأنهم كانوا محبوسين في أقفاص، وكأن التزامهم بدين الله عز وجل كان عن قسر فهم سجناء بسجن الإسلام، ولكنهم عندما يُفاجئون بأن أبواب الحرية عندما تتفتح على مصارعها يكونوا أكثر تمسكاً بحبل الله، أكثر اعتصاماً بدين الله وتكون المرأة أكثر تمسكاً بحجابها عندئذٍ يعودون القهقرى ويفرون بعد الكر، إذاً ينبغي أن تغلق أبواب الحرية إذاً فلينزع الحجاب. هذا هو الذل الذي ما بعده ذل أيها الإخوة.
الذي أريد أن أقوله بعد هذا كله، هذه حقيقة يبعث أي مسلم على الاعتزاز بالبوابة التي أدخلنا الله من خلالها في ساحة العبودية له، في ساحة الالتزام بأمره، هي بوابة الحرية، بوابة قوله عز وجل: )وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ[ نعتز نحن بهذا وأريد أن يعتز قادتنا أيضا، أريد أن يعتز قادتنا بهذا، أريد أن يفتحوا أبواب الحرية ولكن على أن نتذكر ويذكر كل منا صاحبه بأننا عبيد لواحد لا لأمريكا ولا لأوروبا ولا لشرق ولا لغرب وإنما عبيد لواحد لله عز وجل، نريد من قادتنا أن يذكرونا دائماً بهذه الحقيقة وأن يذكروا أنفسهم بها، وأن يقف كلٌ منهم أمام مرآته كل يوم عشر مرات - إذا كان على كل منا أن يقف مرة واحدة ليتذكر هويته - فعلى قادة المسلمين أن يقفوا عشر مرات في كل يوم كي لا ينسوا هوياتهم، هم أحرى بأن يعلموا أنهم عبيد لواحد لا لغيره، وبمقدار ما يتذكرون هذه الحقيقة وبمقدار ما يعتزون بها فإنهم سيركلون بأقدامهم كل التعليمات التي تأتيهم من الخارج، كل التهديدات وكل مظاهر الإنذار والوعيد التي تأتيهم من شرق العالم ومن غربه، لأن منطقهم منطق العبد لواحد لا لغيره، ذلك هو المنطق الذي تشهد له سحرة فرعون عندما هددهم قائلاً )قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى[ ماذا قالوا )قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَىٰ مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَٰذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَٰئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَىٰ[. الإنسان الذي يقف أمام مرآة ذاته صباح مساء ينتشي بعبوديته لله وحده كما انتشى هؤلاء السحرة، ونحن بحاجة أيها الإخوة أن نتذكر هوياتنا كل يوم ونتذكر فضل الله عز وجل علينا أن أدخلنا في ساحة الإيمان به والاصطباغ بعبوديته من باب الحرية، ولكن على قادتنا ـــ أسأل الله أن يوفقهم لكل خير وأن يصرفهم عن كل سوء ـــ على قادتنا أن يقفوا أن يقف كل منهم أمام مرآة ذاته في اليوم عشر مرات.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
[1] في تلك الفترة انعقد مؤتمر في دمشق تحت عنوان فلينزع الحجاب، مستغلين الانفتاح