مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 28/12/2007

العمل الصالح : أعم كلمة يستعملها البيان الإلهي

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلِّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد  صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.


أمّا بعدُ فيا عباد الله ..


إن الله عزّ وجلّ قد قرن سعادة الإنسان في العاجلة والآجلة بشيء واحد ألا وهو العمل الصالح، فهو الأمر الذي أناط الله عز وجل به سعادة الإنسان في كثير من آيِ كتابه المبين، وإننا ننظر فنلاحظ أن البيان الإلهي لا يبغي عن كلمة العمل الصالح بديلاً؛ يقول الله عز وجل مثلاً: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ إِنّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً﴾ [الكهف: 30]، ويقول: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً﴾ [الكهف: 107]، ويقول: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً﴾ [مريم: 96]، ولكنَّ في الناس من يتصور أن المعنى المراد بكلمة (الصالحات) أو (العمل الصالح) إنما هو جملة يسيرة من العبادات التي كثيراً ما تتحول إلى عادات أو إلى أعمال تقليدية، يُخيَّل إلى الكثير من الناس أن المراد (بالأعمال الصالحة) هذه الطائفة اليسيرة من العبادات، والأمر ليس كذلك يا عباد الله، كلمة (العمل الصالح) كلمة عامة، بل لعلها أعم كلمة يستعملها البيان الإلهي للتعبير عن المهام التي خلق الله عز وجل الإنسانَ في هذه الحياة الدنيا للنهوض بها، كل ذلك يدخل في العمل الصالح، ما من عمل يُصْلِح حال الأسرة الإنسانية، أفراداً أو جماعاتٍ، طِبْق المقاصد الشرعية التي تدور عليها أحكام الشريعة الإسلامية إلا وهو داخل تحت معنى العمل الصالح.


    وإذا لاحظنا الأوامر الإلهية التي تتكرر في كتاب الله عز وجل داعية الإنسان إلى العكوف على العمل الصالح أدركنا أن العبادة التي شرعها الله وشرَّف اللهُ الإنسانَ بها هي كل ما يُصْلح الأسرة الإنسانية على أن يُتَوِّج قصده في النهوض إلى ذلك باستنزال مرضاة الله سبحانه وتعالى، فالطبيب أقامه الله عز وجل على نوعٍ من الخدمة للأسرة الإنسانية، العمل الصالح يتمثل في أن يكون مخلصاً في خدمة عباد الله سبحانه وتعالى من الزاوية التي وجَّهَه الله سبحانه وتعالى إليها، وعندما يقول المصطفى ﴿من غش فليس منا﴾. فلنعلم أن الغش الذي أراده المصطفى الله عليه وسلم ليس ذلك المحصورَ في العمل التجاري بيعاً وشراءً؛ وإنما يتمثل في كل خيانةٍ يقوم بها الإنسان بالنسبة لعملٍ ما من الأعمال الإنسانية التي أقامه الله عز وجل عليها.


فغش الطبيب أن لا يُخْلِص في عمله الذي ينهض به للمريض الذي جاءه، غش الطبيب أن يتفق مع طبيب آخر أن يتبادلا المرضى فيما بينهما من أجل أن يفوز كل منهما بمزيد من المال يدخره في جيبه، وكل واحد منهما يجْزِي الآخر الجزاء الأوفى على هذه الخدمة، والمريض هو الذي يذهب ضحية ما بينهما.


غش المعلم في مدرسته أو جامعته أن يلاحظ الذخر الذي يناله والمال الذي يدخره بعيداً عن الإخلاص في العمل الذي أُنيط به في التعليم الذي كُلِّفَ به، وغش الموظف الذي أقامه الله عز وجل على خدمة عباد الله عز وجل في جانب من الجوانب المَصْلَحِيَّة التي تتعلق بحياة المجتمع، الغش بالنسبة إلى هذا الإنسان إنما هو أن ينظر إلى مصلحة شأنه، وأن يلقي الاهتمام بحال هذا الإنسان وراءه ظِهْرياً، والوسائل التي تتمثل في الخيانة – خيانة الموظف – كثيرة جداً – يا عباد الله – والوقت يضيق عن ذكرها، غش العامل في العمل الذي كُلِّف به تجاه رب العمل أن لا يُخْلِص لرب العمل في العهد الذي بينه وبينه أو العقد الذي أُبْرِمَ بينه وبينه، أن لا يُخْلِص في رعاية الأجهزة التي وضعت بين يديه، أن لا يُخْلِص في إتقان العمل الذي كُلِّف به، ولعل من أبرز مظاهر هذه الخيانة أن يتظاهر بالذهاب إلى أداء حق الله عز وجل في أوقات الصلاة المفروضة، فيفسحُ لذلك من الوقت ما طاب له، بحجة الوضوء، وبحجة صلاة النافلة، وبحجة قراءة شيء من القرآن يغطي راحته غير المشروعة بعبادة مشروعة في الظاهر، كل ذلك من الغش الذي حذر الله سبحانه وتعالى منه.


غش المزارع الذي نهى الله سبحانه وتعالى عنه هو أن يستعمل الوسائل المبيدة للإنسان – لا للحشرات – في سبيل أن يتسارع الخير إلى جيبه، وأن يتسارع الربح إلى داره، غير سائل عن النتيجة التي تؤول إليها حال من يأكلون من زرعه ومن يستفيدون من جهده؛ هذه الخيانة هي من الغش الذي حذر الله سبحانه وتعالى منه، غش التاجر أن يخون المستهلك – وما أكثر أنواع الخيانة للمستهلك!- الغش في البضاعة، الغش في الثمن، الغش في دعوى المصدر الذي جاءت السلعة منه، إلى آخر ما هنالك من أنواع كثيرة من الغش في الأعمال التجارية التي لو تحدثنا عنها تفصيلاً لجعلت الشاب يشيب من هول هذه الأنواع من الغش، الغش الذي حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم منه بالنسبة لمن أناط الله عز وجل به زمام المسؤولية – جَعَلَه مناطاً لقيادة الأمة – الغش هو أن ينام هذا الإنسان المسؤول عن خدمة الأمة، عن رعاية حالها، عن نسج أسباب الطمأنينة والأمن ورغد العيش لها، وأن يُجَنِّد وظيفته وعمله في سبيل ذاته، في سبيل استغلال الفرصة وانتهاز الساعة التي قد لا تُعَوَّض بعد أيام من أجل أن يجني لنفسه على حساب الأمة مزيداً من الربح، مزيداً من أسباب الخير العاجل الذي لابد أن يتلوَه شقاء آجل مستمر. كل ذلك من أنواع الغش الذي حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم منه، بل هدد الغاش إذا قال: ﴿من غش فليس منا﴾.


العمل الصالح كلُّ هذه الجوانب التي قد يكلِّفُ الله سبحانه وتعالى عباده بها يوزعها مسؤوليات فيما بينهم، فإنْ هم نهضوا بها على النحو السليم المفيد للأمة وابتغاء مرضاة الله سبحانه وتعالى فقد قاموا بالأعمال الصالحة، حتى وإن لم تكثر عباداتُهم الأخرى، حتى وإن لم يذهب الواحد منهم كل عامٍ ذاهباً آيباً إلى الحج والعمرة، حتى وإن لم يكن له حظٌّ من القيام في الليل، كل ذلك من الأعمال الصالحة، إتقان العمل الذي أناط الله سبحانه وتعالى بالإنسان، وقد صح عن المصطفى الله عليه وسلم قوله: ﴿إن الله يحب من العبد إذا عمل عملاً أن يتقنه﴾. ولئن ضعَّفه بعض الباحثين والدارسين للحديث وأصوله، فالحقيقة أنه صحيح ومعناه صحيح، كرر رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا المعنى في أحاديث كثيرة أخرى: ﴿إن الله يحب من العبد إذا عمل عملاً أن يتقنه﴾ أقول هذا كلَّه بين يدي جوابٍ عن سؤال: مساجدنا تكتظ بالمصلين ولاسيما في مواسم العبادة، ومعاهدنا الشرعية تستقبل الوافدين – ولله الحمد – ومع ذلك فإننا ننظر في مواسم الشتاء، وإذا برحمة الله عز وجل المتمثلةَ في الأمطار السخية تتقلص، ثم إنها تتقلص، وما من عام إلا وننظر فنجد أن الخير قد تقلص فيه عن العام الذي سبق، فما الحكمة وها هم أولاء المصلُّون يكثرون، وها هم أولاء الذين يحجون إلى بيت الله يتضاعفون؟ الجواب هذا الذي أقوله لكم يا عباد الله.


 من الخطأ الفادح بل المميت أن نحتكر أو أن نحصِر الطاعة في أعمال جزئية صغيرة آل معظمها إلى أعمال تقليدية بل إلى عادات، وآفة العبادة أن تتحول إلى عادة نعم. هذا هو السبب، الله سبحانه وتعالى وعدنا بأن يكرمنا بالرزق الوفير والأمطار السخية، وأن يخرج لنا من نبات الأرض ما طاب ولَذَّ، ولكن بشرط واحد؛ أن ننهض بالأعمال الصالحة التي كلفنا الله سبحانه وتعالى بها، والعمل الصالح – كما قلت لكم – هو أن يتقن الإنسان العمل الذي أناطه الله به، أقامك الله عاملاً في معمل، أو أقامك زارعاً في مزرعة، أو أقامك الله موظفاً في دائرة، أو أقامك الله مسؤولاً عن الأمة، أو أقامك الله سبحانه وتعالى تاجراً أو طبيباً أو مهندساً، إذن فعبادتك التي تتقرب بها إلى الله بعد أداء أوامره المعروفة أن تتقن العمل الذي أناطه الله عز وجل بك، وأن تخلص لله عز وجل في هذا العمل، كم من مهندسين يهتم الواحد منهم أن يجمع المال في جيبه، ولكنه لا يهتم أبداً بأن يجعل عمله العلمي في خدمة أمته، ومن ثم فهو لا يبالي بأن يقيم المشروع هنا والمشروع هنا والمشروع هناك، وبعد سنوات تتحول هذه المشاريع إلى قبور، أجل إلى قبور، تُدْفَن فيها الأحياء الذي كانوا يعيشون فيها، أهذا من العمل الصالح؟! أم هذا أمر لا علاقة للدين به؟   


نعم. وهذا الجواب الذي أقوله لكم يتضمن جواباً آخر عن سؤال آخر: لماذا يكرم الله عز وجل الغربيين بالأمطار السخية والثلوج الوافرة في كل شتاء، في حين أنهم بعيدون عن الإيمان بالله عز وجل الإيمان الحقيقي؟ الجواب هذا الذي ذكرت، ولقد سبق أن ذكرت أيضاً جواباً عن هذا السؤال: الله عز وجل يُكْرِم الإنسان في الدنيا إن هو أقام ميزان العدل بينه وبين الأسرة الإنسانية حيث يعيش، فإن كان أيضاً مؤمناً بالله جمع الله له بين سعادتي الدنيا والآخرة، وإن لم يكن من المؤمنين بالله عز وجل أكرمه بسعادة الدنيا وحاسبه يوم القيامة وأشقاه بناره الخالدة، هؤلاء الذين نتحدث عنهم؛ انظروا إلى الأعمال التي ينهضون بها، انظروا إلى المهام التي أنيطت بهم كيف ينهضون بها بدقة، انظروا إلى القوانين كيف تلاحقهم، كيف تثيب المحسن وكيف تعاقب المسيء، انظروا إلى الإنسانية كيف تكون مكلوءة بالعناية والرعاية والحراسة الدائمة، نعم إنهم غير مؤمنين ربما بالعقبى، ولكنهم ينفذون أوامر الله عز وجل فيما يتعلق بالعمل الصالح فيما بينهم وبين أفراد الأسرة الإنسانية في دار الدنيا، والله عز وجل يقول: ﴿كُلاًّ نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً﴾ [الإسراء: 20 [كونوا متقنين للأعمال التي كلَّفكم الله بها وأقامكم عليها، ولا يخوننّ الواحد منا أمته من خلال العمل الذي كُلِّفَ به أياً كان نوع هذا العمل، وليكن رائدنا في ذلك تنفيذ أوامر الله عز وجل، وانظروا إلى عطاء الله سيستمر دون انقطاع. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم. 

تحميل



تشغيل

صوتي