مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 16/11/2007

الطاعة المبرورة إذا استلزمت ارتكاب معصية غدت معصية

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلِّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد  صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.


أمّا بعدُ فيا عباد الله ..


يقول مولانا سبحانه وتعالى في محكم تبيانه: )الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ[ [البقرة: 197]. الفسوق كما تعلمون هو الشرود والخروج عن أوامر الله سبحانه وتعالى، والتلبُّسُ بما قد حَرَّم ونهى عنه، وها أنتم ترون وتسمعون كيف أن الله سبحانه وتعالى ينهى عن الفسوق في الحج، والنهي عن الفسوق في الحج شامل لحالتين اثنتين؛ أن يتلبس الإنسان أثناء مناسكه بالفسوق، أو أن يكون اتجاهُه إلى الحج وسيرُه إليه متلبساً بالفسوق. كلاهما داخل في هذا الذي ينهى الله سبحانه وتعالى عنه، فمن وجد أن الطرق إلى الحج لبيت الله الحرام مغلقة، وليس أمامه إلا طريقٌ فيه فسوق، وفيه عصيان، فقد تلبس بهذا الذي نهى الله عز وجل عنه، تماماً كما لو ارتكب أسباب الفسوق أثناء مناسك الحج وأدائه له.   


ومن هنا اتفق علماء الشريعة الإسلامية على قاعدة لا نعلم فيها خلافاً؛ وهي أن الطاعة المبرورة إذا استلزمت ارتكات محرم تحولت الطاعة من جراء ذلك إلى معصية، وتحول استحقاق الطائع المثوبة إلى استحقاقه العقاب من جراء ذلك، المعصية التي تتوقف الطاعة عليها تُهْدِر معنى الطاعة، وتُحِيلُها إلى معصية، فالإنسان الذي يريد أن يصلي صلاة يتقرب بها إلى الله عز وجل، إذا التزمت صلاته أن يغتصب أرضاً ويقفَ فيصليَ عليها، تحولت صلاته إلى معصية، وتحول الأجر الذي كان ينتظره إلى عقاب ينبغي أن يتوقعه، بل في الفقهاء من قرر بطلان هذه الصلاة، وإذا توقفت تلاوتك لكتاب الله عز وجل على أن تغتصب مصحفاً من صاحبه فتقرأ فيه دون إذن منه تحولت الطاعة التي تتلبس بها، - فيما تظن وهي تلاوتك لكتاب الله عز وجل - إلى معصية.   


قاعدة ينبغي أن نعرفها تتحقق في كل أنواع الطاعات؛ ما من طاعة تؤديها لتتقرب بها إلى الله إلا ويشترط أن يكون الطريق إليها طريقاً مبروراً، وأن يكون سبيلك إلى أداء هذه الطاعة سبيلاً صافياً عن شوائب المحرمات، ينبغي أن نعلم هذه القاعدة، إذا علمناها فلنتساءل: ما حكم الحج الذي يتوقَّف على مُحَرَّم؟ الذي يتوقف على فسوق يرتكبه الحاج؟ مما لا ريب فيه ن هذا الحج يتحول من طاعة إلى معصية، الإنسان الذي سُدّتْ أمامه السبل لبلوغ بيت الله الحرام، ولم يجد أمامه إلا سبيلاً واحداً؛ سبيل دفع الرشوة لزيدٍ من الناس، ينبغي أن يعلم أنه إن فعل ذلك فإنه قد حوَّل هذه الطاعة الكبرى المبرورة إلى معصية؛ ذلك لأنه ربط بين هذه الطاعة المبرورة وهذا العمل المحرم بالاتفاق، والله طيب لا يقبل إلا طيباً يا عباد الله.


وما أكثرَ الذين يُهْرَعون في هذا العصر، في هذه السنوات حجاجاً إلى بيت الله الحرام، وهم يرتكبون في طريقهم إلى هذه الطاعة هذه المعصية الخطيرة؛ الرشوة، والرشوة أمر محرم كما تعلمون، التأشيرات التي تباع في الأسواق السوداء رشوة من أخطر أنواع الرشوات، لا يجوز للإنسان أن يتقرب إلى الله بما قد حرمه، لا يجوز للإنسان أن يتقرب إلى مولاه وخالقه بمعصية حذَّره الله سبحانه وتعالى منها، أولئك الذي يتجهون ويُهْرَعون إلى بيت الله الحرام حجاجاً، ويتقنَّعون بأقنعة كاذبة؛ يجعل الواحدُ منهم نفسه صاحب صنعة؛ جزاراً، صاحبَ صنعة يحتاج أولئك الناس إلى أصحابها هناك، وما هو من هذه الصنعة بشيء، ولا علاقة له بها قط، وهو إن ذهب حاجاً إلى بيت الله الحرام لن يمارس ذلك بشكل من الأشكال، عمل محرم تدخل في شهادة الزور وادعاءات الزور، ولا يجوز إطلاقاً لإنسان أن يتقرب إلى الله بحج أو صلاة أو نسك عن طريقِ أمرٍ حرَّمهُ الله سبحانه وتعالى عليه، هذا ما يقرره فقهاء الشريعة الإسلامية، بل هذا ما قرره بيان الله عز وجل عندما نهى عن الفسوق في الحج، عندما أمر بأن يكون هنالك فاصل بين الحج المبرور والفسوق، سواء كان الفسوق في الطريق إليه، أو كان الفسوق داخلاً في مناسك الحج.   


عندما تكون القصود متجهة إلى مرضاة الله، صافية عن حظوظ النفس لا يمكن للحاج أن تنزلق قدماه إلى هذا المحرم، لا يمكن أن يبذل ماله، ولا أن يبذل جهده في عمل يُخيَّل إليه أنه يتقرَّب به إلى الله، وهو إنما يرتكب بذلك عملاً محذوراً، نعم حجه صحيح، ولكنه لا يملك أي ثواب على هذا الحج، بل إنه يتحمَّلُ بدلاً عن الثواب الوزر والعقاب، وينبغي أن نعلم أنه لا تعارُضَ بين أن تكون العبادة صحيحة وأن يتحمل الإنسان الوزر عليها، الصلاة في الأرض المغصوبة صحيحة عند جمهور العلماء، ولكن لا ثواب للمصلي عليها، بل يتحمل الوزر بسبب أنه شَغَل بهذه الصلاةِ أرضاً ليست ملكاً له، ودون إذن صاحبها، وتلاوة القرآن عمل مبرور، لكنك لو أخذت مصحفاً لتقرأ به كتاب الله عز وجل دون إذن صاحبه، بل أعلن لك أنه غير راضٍ بذلك، فإن تلاوتك لكتاب الله عز وجل تكون مناط وزرٍ وعقاب؛ لأنك ربطت بين طاعة ومعصية. وحقوق الله مبنية على المسامحة لكنَّ حقوق العباد مَبْنية على المُشاحَّة. لا تُصَلِّ في الأرض المغصوبة، وإنك إن صليت فالله سبحانه وتعالى يستغني عن صلاتك هذه، لكنه يُحَمِّلُكَ وزراً بسبب إهدارك لحقوق الآخرين.   


أمر الحج إلى بيت الله الحرام داخل في هذه القاعدة، ولقد ذكرتُ هذا في العام الماضي والذي قبله، ولقد بَيَّنْتُ ذلك - يا عباد الله - في كتابات ومناسبات، ومع ذلك أنظر وأسمع وإذا بهذه الظاهرة المُحَرَّمة تتنامى بدلاً من أن تتقلص وتتراجع، ما أكثرَ الذين يدفعون الرشاوى وهم يتصوَّرون أنهم يرحلون حجاجاً إلى بيت الله الحرام ليكتسبوا الأجر، ما أكثرَ الذين يرتدونَ أقنعة الصناعات المختلفة التي لا علاقة لهم بها، أي يلبسون أقنعة الزور التي حرمها الله سبحانه وتعالى من أجل - فيما يزعم - أن يذهب حاجاً إلى بيت الله الحرام. هذا الأمر لا يمكن أن يُعالَجَ إلا بالرجوع إلى الدوافع الخفية، عندما تكون الدوافع الخفية للعبادة والحج إلى بيت الله الحرام صافيةً عن الشوائب، لا يُبْتَغى بها إلا مرضاةُ الله، الأمر محلول، والانقياد إلى أمر الله عز وجل نافذ، ولكن عندما تكون الصورةُ صورةَ عبادة، والهدفُ من وراء ذلك تنفيذَ حظ من حظوظ النفس، تغذيةَ شهوة من شهوات النفس، فما أكثر الذين يستمعون هذا الكلام ثم يضربون عنه صفحاً، والله عز وجل طيب لا يقبل إلا طيباً.


أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم. 

تحميل



تشغيل

صوتي