مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 09/11/2007

ولكن ينزل بقدر ما يشاء إنه بعباده خبير بصير (2)

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلِّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد  صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.


أمّا بعدُ فيا عباد الله ..


يقول ربُّنا جلَّ جلاله في محكم تبيانه: )وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ[ [الشورى: 28]. يصف الله سبحانه وتعالى في هذه الآية حال أناس تلبث عليهم رزق السماء، وطال انتظارهم للفرج وللقطر الذي يكرم الله عز وجل عباده رزقاً من السماء، طال انتظارهم ولما، فوقعوا من جراء ذلك في القنوط واليأس، ولكن الله سبحانه وتعالى تداركهم بلطفه، وأنزل عليهم الغيث من بعد ما قنطوا.   


ونحن ممن تلبث وتأخر عنهم رزق الله سبحانه وتعالى الذي يهمي من سمائه، ولكنا نريد ألا نقع في القنوط الذي وقع فيه أناس، نريد أن نقف أمام هذا البيان الإلهي ونحن في حالة الانتظار لرزق الله، ونحن في الحالة التي يبتلي الله عز وجل بها عباده بالحرمان لأسباب وحكم سأذكرها.   


تعالوا نتمثل هذه الحالة قبل أن يستبد بنا القنوط، وقبل أن يستبد بنا اليأس،؛ وقبل أن يزول القنوط واليأس بسبب نزول الرحمة الإلهية، قبل أن يكرمنا الله عز وجل برحمته، وهذا هو ظننا بالله عز وجل، قبل ذلك ينبغي أن نتذكر هذه السنة التي يعامل الله عز وجل بهاعباده، لن نيأس في انتظار أن يأتينا الرزق من السماء، ولن نكون - بحمد الله عز وجل وتوفيقه - من أولئك الناس الذين هيمن عليهم القنوط، ثم لم يُزايْلهم هذا القنوط إلا بعد أن أدركهم الله سبحانه وتعالى برحمته ورزقه، نحن - حتى في حالة الشدة - لن نقنط من رحمة الله عز وجل وفضله وإحسانه، ولسوف نظل أعيناً ترقب قطر السماء، وتنتظر رحمة الله سبحانه وتعالى.   


وقبل هذه الآية يمهد الله عز وجل لهذه السنة بقوله: )وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ[  [الشورى: 27]. {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ[  إن كان هابطاً من السماء أو نابتاً من الأرض )وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ[، والبغي هو تجاوز الحدّ، والبغي في الأرض يعني الإفساد في الأرض عن طريق الظلم، عن طريق هدر الحقوق، عن طريق الاستكبار على الله سبحانه وتعالى وعلى عباد الله عز وجل، ومن شأن النعم إذا تكاثرت وأتت من كل حَدَب وصوب، ولم يكن لدى الذين ينعم الله عز وجل عليهم بها من الإيمان ومراقبة الله عز وجل ما يقاوم سكر هذه النعم، فإن من شأن هذه النعم أن تطغي، وأن تسكر، وأن تبعث هؤلاء الذين أغدق الله عز وجل عليهم من رزقه، من شأنها أن تزجهم في الطغيان والبغي، فمن أجل هذا يقول الله عز وجل: )وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ[  هذا تمهيد لقوله سبحانه: )وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا[.


حبس عنهم الغيث تأديباً، حبس عنهم الغيث إيقاظاً لهوياتهم عبيداً لله عز وجل، تقليماً لأظافر البغي والعدوان على الآخرين، صرفاً لهم عن الإفساد في الأرض، ثم إن الله عز وجل يتداركهم بلطفه، وينزل عليهم من رزق السماء، ويخرج لهم من أرزاق الأرض ما يزيل هذا اليأس الذي ران على نفوسهم.   


هذا بيان الله عز وجل نقرؤوه ونستبينه من خلال هاتين الآيتين، والسؤال يخطر في البال - يا عباد الله - ترى ما حال مَنْ استمرؤوا البغي حتى قبل أن ينزل عليهم قطر السماء؟ كلام الله عز وجل هذا يحدثنا عن البغي عندما يكون سببه تكاثر النعم، عندما يكون سببه الرزق الواسع يهطله الله عز وجل عليهم من سمائه، وينتبه لهم من أرضه، وعندئذٍ يكون البغي من جراء هذه النعم التي تتوالى، لكن ما شأن وحال أناس استمرؤوا البغي وركنوا إليه حتى وهم في حالة القنوط، حتى وهم في حالة الحرمان؟ كيف تكون معاملة الله سبحانه وتعالى لأناس يأخذهم بالشدة، يحبس عنهم قطر السماء إلى حين من أجل أن يستيقظوا إلى هوياتهم، ومن أجل أن يتعاملوا مع عبوديتهم لله عز وجل، ولكنهم حتى في مرحلة الحرمان هذه يركنون إلى البغي، يركنون إلى الطغيان، وقد شرحت لكم معنى البغي، البغي هو أن يتجاوز الإنسان حدّ بشريته، حدّ إنسانيته، حدّ عبوديته ومملوكيته لله سبحانه وتعالى، ويحاول أن يلتقط الفوائد والمغانم أنى لاحت له، وكيفما امتدت يمينه إليها، دون نظر إلى جائز وغير جائز، دون نظر إلى مُحَرَّمٍ وغير محرَّم، البغي في الأرض هو أن ينسى العبد حقوق الرب سبحانه وتعالى، هو أن ينسى العبد الواجبات التي خاطبه الله عز وجل بها وحمله إياها، هو أن ينسى العبادات التي ما أمره الله عز وجل بها إلا لتصلح له شأنه، إلا لتربيَه إلى مستوى الإنسانية الباسق.


نعم. ينسى السجود لله عز وجل، ينسى أن يجعل جذعه الذي امتن الله عز وجل به والذي حدث عنه قائلاً: )فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ[  [الانفطار: 8]. ينسى واجب إخضاع هذا الكيان، هذا الجذع لركوع، للسجود، للعبادة، للصلاة، للتوجه إلى الله عز وجل قانطاً ملتجئاً متبتلاً منكسراً، ينسى ذلك. هذا هو البغي، أن ينسى حقوق الرب، وأن ينسى حقوق العباد، فلا هو يلتفت إلى ضريبة العبودية التي ينبغي أن يؤديها لله عز وجل، ولا هو يلتفت إلى حقوق العباد الذين من حوله، إنما أسكرته نفسه، أسكرته حظوظه، حسناً حتى في حالة الحرمان عندما تكون النعمة موفورة فيسكر بها من يتمتع بها يجعل الله سبحانه وتعالى مما ذكرته لكم علاجاً )وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ[  [الشورى: 27]   


ولكن ماذا عمن يستمرئ البغي ونسيان الله عز وجل، ونسيان حقوقه وواجباته حتى في حالة الشدة، حتى في حالة الحرمان؟ لا جواب لي على هذا السؤال، وأنا عندما أستشرف المستقبل، وأنا أنظر إلى حال أناس نسوا حقوق الله عز وجل، ومن ثَمَّ نسوا حقوق عباد الله عز وجل أيضاً، وشاع الفساد بأشكاله وأنواعه في الأرض، وهم يعيشون في حالة حرمان، وهم يعيشون في مرحلة ضنك، في مرحلة مخيفة، الماء يتناقص من ينابيعه في الأرض، ومن الرزق الذي يهمي علينا من سماء الله عز وجل، يتناقص عاماً بعد عام، وكلنا يعلم أن مصدر ذلك إنما هو سلطان الله عز وجل وتربيته لعباده   


هنا، موضوع القنوط له معنى ينبغي أن نضعه نصب أعيننا، مرحلة التربية تستمر ثم تستمر، ولكنها أخيراً تنتهي بغضبٍ إلهي، تنتهي بقطع الرزق، بقطع النعمة، هذه الحالة ينبغي أن نكون على بينة منها    في العام الماضي قلَّ الرزق الرباني الذي يهمي إلينا من سمائه أكثر من العام الذي مرَّ، وفي العام الذي قبله تناقص هذا الرزق أكثر من العام الذي قبله، فماذا عسى أن يكون عامنا هذا؟ وكيف ستكون هذه السَّنة التي نحن في أول الموسم الشتوي منها؟ الدلائل المخيفة تقول - ونسأل الله عز وجل أن نكون مخطئين فيما نسمع وفيما نعي - تقول: إن هذا الذي يكرمكم الله عز وجل به لا بد أن يكون في تناقص ما دام البعد عن الله في تزايد، وما دام إهدار حقوق الله ومن ثَمَّ إهدار حقوق العباد أيضاً في تزايد   


هذه الحقيقة ينبغي أن نكون على ذِكْرٍ منها إن لم نصلح أحوالنا فصلاة الاستسقاء لا معنى لها، لا أقول: لا فائدة منها، بل أقول: لا معنى لها. هكذا قال علماء الشريعة الإسلامية، وهكذا قال فقهاؤنا اعتماداً على الصحيح الوارد من رسول الله صلى الله عليه وسلم، أول شرط من شروط الاستسقاء التوبة إلى الله عز وجل، ردّ المظالم، وعندما نقول التوبة فهو واجب يخاطب الله عز وجل به الأمة جمعاء، لا يخاطب به ثلة من الناس يُهْرَعون إلى أعتاب الله، ويبسطون أكف الرجاء إلى الله عز وجل، لا. المطلوب أن تُقبِل الأمةُ كلُّها إلى الله عز وجل بالتوبة، وأن تُقبلَ الأمةُ كلُّها إلى الله عز وجل بردّ المظالم إلى أهلها، ومن ثَمَّ فإن صلاة الاستسقاء يكون لها معنى، وعندما يكون لها معنى تكون لها الثمرة المرجوة. ومرة أخرى أُردِّدُ هذا البيان الإلهي المخيف والمبشر )وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ،  وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ[  [الشورى: 27-28]


    اللهم إنا لم نقنط من رحمتك على الرغم من أننا نسير في مرحلة قد تبعث أناساً على القنوط، نعيش في مرحلة الشدة، نعيش في مرحلة الحرمان، ولكننا لن نقنط من رحمتك، لأنك ما زلت تعامل عبادك بما أنت له أهل، ولا تعاملهم بما هم له أهل، إنك أهل التقوى وأهل المغفرة،


أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم. 

تحميل



تشغيل

صوتي