مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 02/11/2007

ما أصيبت أمة بالذل وهبطت من أوج العز إلا بسبب ضياعها عن الهوية

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلِّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد  صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.


أمّا بعدُ فيا عباد الله ..


إنَّ تَعَرُّف الأمة على هويتها إنما هو البوابة الأولى للدخول في مدارج الحضارة والمعرفة والقوة والثقافة والرشد، وبمقدار ما تكون الهوية التي تتعرف عليها الأمة مطابقةً لحقيقتها تكون انتصاراتُها أقربَ، ويكون وصولُها إلى قمة الحضارة أسرعَ، وبمقدار ما تكون الهوية التي تتعرف عليها الأمة مخالفةً لحقيقتها تتيه عن الوصول إلى هذه المبتغيات والأهداف، وما انتصرت أمتنا الإسلامية عند بعثة المصطفى صلى الله عليه وسلم، التي كانت إيذاناً بتجديد الإسلام، إلا بعد أن عرفت هذه الأمة هويتها بعد ضلال، ووقفت أمام مرآة ذاتها، واستعلنت عن هذه الهوية قائلة على لسان كل مؤمن: )إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ[ [الأنعام: 162]. إنها هوية العبودية لله سبحانه وتعالى، هوية الانتماء إلى الله سبحانه وتعالى بالمملوكية والعبودية له، والتشرف بولاية الله سبحانه وتعالى عليها: )إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصّالِحِينَ[ [الأعراف: 196].    


هكذا عَرَفَت هذه الأمة نفسها وعرَفَت ولِيَّها؛ وليَّ أمرها، ومن ثَمَّ صح لها أن تدخل في مدارج الحضارة والثقافة والعلوم والقوة والرشد. واليوم؛ وباختصار أقول لكم يا عباد الله: إن المرض الذي تعاني منه أمتنا إنما يتمثل في ضياعها عن الهوية، في ضياعها عن الانتماء الحقيقي الذي تبينه السلف من قبل. إن أمتنا اليوم تعاني من انتماءات مزدوجة متناقضة، كان شأنُها أنْ تُمَزِّق هذه الانتماءات هويتها الحقيقية، ومن ثم فهي تتطوح بين انتماءات شتى، وما أصيبت أمةٌ بالذّل والمهانة، وما هَبَكَتْ من أوج العزّ إلى أودية المهانة والذلّ إلا بسبب ضياعها عن الهوية، وبسبب الجواذب المتناقضة المختلفة التي تشدها إلى انتماءات شتى    أمتنا، وأقول: العربية الإسلامية، هي في الظاهر تعلن انتماءها إلى هُويتها الحقيقية، هي تعلن عن عبوديتها لله عز وجل، وتعلن عن اعتزازها بولاية الله عز وجل لها، ولا تزال تُنْغِض الرأس لقرار الله القائل على لسان عباد الله: )إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصّالِحِينَ[ [الأعراف: 196]، ولكنها في السلوك وفي الإدراك وفي التعامل تتمزق ما بين انتماءات شتى، هذا التمزق أنساها ذاتِيتَها واعتزازها بهُويتها، وجعل لعابها يسيل على كل ما تراه من قريب أو بعيد، جعل لعابها يسيل على كل ما تتبينه من أَلَقٍ في حياة أعدائها، في حياة المتربصين بها، ومظاهرُ هذا الضياع عن الانتماء إلى الذات كثيرة جداً، وإنها لأمراض تفرَّعت عن هذا المرض الخطير، لكنني اليوم أريد أن أتحدثَ عن مرض واحد من هذه الأمراض، وعَرَض واحد من أعراض ضياع أمتنا عن ذاتيتها، إنها تنادي بكل مناسبة، على المستويات المختلفة الرسمية والشعبية، أنها أمة عربية، ولكننا ننظر إلى الواقع فنجد أن سلوكها يتجه إلى طرق - لا أقول طريق - تُمَزِّق هذا الانتماء، وتدوس على معاني هذا الانتماء وحقائقها.    


أمة عربية، إذاً ينبغي أن تعتزَّ بعروبتها، وأنا أتحدث اليوم عن العروبة، وهي فرع من أهم فروع الإسلام كما تعلمون، أمة تعتز بعروبتها، وأنظر إلى أفراد هذه الأمة ذاهبين وآيبين، فأجد ثيابهم مغموسةً في نقائض هذا الانتماء، تأملتُ، وقد لَفَتَ هذا نظري أكثر من مرة، إلى القمصان التي يرتديها شباب العرب الذين يعيشون في مجتمع يعتز بانتمائه إلى العروبة، وإذا بهؤلاء الشباب يطربون لا للنقوش الزاهية على قمصانهم، وإنما يعتزون بالحروف الأجنبية التي تحمل في كثير من الأحيان كلمات أجنبية ومعانٍ أجنبية، وفي بعض الأحيان لا تحمل شيئاً إلا ما تحمله من هذه الحروف الأجنبية، تُرْسَم على الظهر آناً، وتُرْسَم على الصدر آناً، وتُرْسَم على الأسافل آناً آخر، يعتزُّ الشباب ذكوراً وإناثاً ذاهبين آيبين بهذه الألبسة، ومكانُ الأسى لا يتمثل في هؤلاء الذين يرتدون هذه الثياب من أجل أن يعلنوا عن اللا انتماء، من أجل أن يعلنوا عن الضياع عن الهوية، ولكن المأساة تتمثل في أولئك الذين يصنعون هذه الثياب المبتذلة التي تترجم الذل وتترجم المهانة في أشخاص الصانعين، وفي أشخاص المتاجرين، وفي أشخاص اللابسين.    


أجوب الشوارع المشهورة المعروفة في دمشقنا العربية، ومرة أخرى أقول: إنني أتحدث في هذا المقام عن العربية التي يعتز بها من يعتز أجوب شهر الشوارع، وألتفت يميناً وشمالاً، فيخيل إليَّ أنني أسير في شوارع باريس، يخيل إليّ أنني أسير في شارع من أزهى وأبهى وأشهر شوارع لندن، كل الإعلانات التجارية، أو أكثر هذه الإعلانات التجارية، إنما تتألف بأحرف أجنبية وبكلمات أجنبية، والشيء المضحك أن الكلمات في كثير من الأحيان تكون عربية لكنها صيغت بحروف أجنبية، أنظر يميناً فلا تطالعني عيناي إلا على هذه الإعلانات، وأنظر شمالاً فلا أرى إلا هذه الإعلانات، وكم تشعر بالأسى عندما تمشي في الليل في هذه الشوارع لتجد أضواء (النيون) وهي تترجم الذل والمهانة لهذه الأمة التي طوت انتماءها الذي كانت تعتز به بالأمس، وأخذت ترفع الرأس عالياً بالذل، ترفع الرأس عالياً بالمهانة، تسكر بالوضيع.    


أجل. والمظهر المؤسف العجيب، المظهر الساخر الذي يُضْحِك ويُبْكِي بآن واحد، أنك تنظر إلى هذا الشارع ولعله من أشهر وأبرز وأبهى شوارع دمشق فتجد في وسط هذا الشارع بناءً كُتِبَ عليه في الأعلى: مَجْمَع اللغة العربية! مجمع اللغة العربية، وعن يمينه وشماله ما يبصق على هذا العنوان، وأمامَه ومن خلفه ما يتبرَّأ من هذا العنوان، مجمع اللغة العربية مغموس في إعلانات تجارية لا تعرف انتماءً إلى اللغة العربية قط، فلم تطالعني عيناي على الحقيقة، أهذا صورة قبر لتاريخ كم وكم اعتزت به أمتنا، تاريخ العروبة في حياة هذه الأمة؟! أم هو عبارة عن شخص بل كائن مُحَنَّط لا يتأتى من أمره شيء، كان فيما مضى فعَّالاً، واليوم أصبح أثراً بعد عين، كان فيما مضى حيّاً، واليوم أصبح كائناً محنطاً؟! لا أدري. المهم أنك تنظر إلى الإعلانات التجارية التي من حول هذا البنيان فلا تبصر إلا ما هو تكذيب لهذا العنوان.    


تلك هي مشكلتنا الكبرى؛ ضياع اذات، ضياع الهوية. شعاراتنا في واد وأهواؤنا في وادٍ آخر، كلماتنا في واد ونفوسنا وتطلعاتها في وادٍ آخر، وهذه الحقيقة التي أقولها لا تغيب عن بال أيٍّ منكم، وليس فيكم إلا من يجوب في هذه الشوارع، إن نظرتَ إلى الثياب وجدتَ فيها ترجمة التنكر للذات، وتَعَشُّق الأعداء الذين يتربصون بنا الدوائر، وإن نظرتَ إلى المصانع والتجارة والتجار رأيتهم مغموسين في الحقيقة ذاتها، وإن رأيت إلى الإعلانات التجارية وجدتَ هذا الذي أقوله لكم.    


ماذا بقي؟ ماذا بقي من الحقيقة فيما نرفع الرأس به عالياً، أو في الشعارات المتألقة البراقة التي نرددها بين الحين والآخر؟ انظرْ إلى ما دون الشعارات لا تجد شيئاً.    


وبالأمس تحدَّث رئيسنا في مجلس الشعب حديثاً مطولاً عن اللغة العربية، ولا شك أن من يسمع حديثه يُحِسُّ بالأسى الذي ينتابه، وما أظن إلا أن هذا الأسى الذي ينتابه إنما ينتابه من عدة عوامل، ولكنّ هذا من أهم هذه العوامل. وهذه الظاهرة لها سبب، وليتنا نصحو لهذا السبب حتى نعالجه وحتى نقضيَ عليه. معالجة هذا السبب تبدأ في التربية ومؤسساتها، تبدأ في الإعلام ومؤسساته المرئية والمسموعة المختلفة    فأسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل من هذا الأسى الذي ينتابنا حافزاً لأن نعالج الأمر، وألا نراوح في أماكننا ونحن نتأسف، ونحن نطلق الزفرات، الزفرات وحدها لا تفيد يا عباد الله، وأُذكِّرُكُم بأننا جميعاً عندما نقف في الصلاة نتذكر هُوياتنا ونخضع أمام ربِّ العالمين بإيماننا بهذه الهُوية، نحن نقول: )إِيّاكَ نَعْبُدُ وَإِيّاكَ نَسْتَعِينُ[ [الفاتحة: 5] تلك هي هُويتنا   


فأسأل الله عز وجل ألا يجعلنا من المنافقين، وألا يجعلنا من الكاذبين، نخاطبه في الصلاة مُعْلِنين عن هذه الهوية؛ فإذا تحولنا عن الصلاة إلى الشوارع وإلى المجتمع نسينا هذه الهوية، وأَمْعَنَّا فيها تمزيقاً.


أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم

تحميل



تشغيل

صوتي