مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 26/10/2007

ولكن ينزل بقدر ما يشاء إنه بعباده خبير بصير (1)

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلِّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد  صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.


أمّا بعدُ فيا عباد الله ..


ورد عن المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: )إن من علامات قرب قيام الساعة تناقص الأمطار[. أي أن تناقص الأمطار عاماً بعد عامٍ بعد عام. وقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم  أن من أشراط الساعة كثرة الظلم وهدر حقوق الناس، وقد ربط علماء الشريعة الإسلامية هذا الحديث بذاك، وبيّنوا أن سبب تناقص الأمطار عند قرب قيام الساعة شيوع الظلم وضياع حقوق الناس، واستخفاف الناس بحقوق الآخرين، يشيع هذا الظلم فيما بينهم فتتقلص الرحمة الإلهية، وتناقص الأمطار التي هي مظهرٌ من أجلِّ مظاهر رحمة الله سبحانه وتعالى بعباده، وصدق المصطفى صلى الله عليه وسلم  إذ يقول فيما اتفق الشيخان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: )مَنْ لا يَرْحَمْ لا يُرْحَمْ[.


وأصرح مِنْ ذلك في هذا المعنى ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم  أيضاً فيما اتفق عليه الشيخان من حديث جرير بن عبد الله: )مَنْ لا يَرْحَمْ لا يُرْحَمْ[ عندما تدنو المدة التي لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى لقيام الساعة لا بد أن تتجلى العلامات التي حدَّث عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، من هذه العلامات - وهي علامات صغرى - انتشار الظلم، وتضييع الناس بعضهم لحقوق بعض، ومن ثَمَّ تظهر العلامة الأخرى التي هي أيضاً من علامات قرب قيام الساعة، تناقص الأمطار عاماً إثر عام.


تنقص الأمطار في هذا العام، ويشكو الناس من القلة، فإذا جاء العام الذي يليه تناقصت أكثر أيضاً، كلما انتشر الظلم تقلصت رحمة الله سبحانه وتعالى عن عباده في الأرض، الرحمة المتمثلة في الأمطار، ومن هنا قرر علماء الشريعة الإسلامية، ولا أعلم في ذلك خلافاً، أن من شروط الاستسقاء التي ندب إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم  وأداها مع أصحابه، من شروط الاستسقاء رد المظالم، ذلك لأن الأمطار لم تحبس إلا لهذا السبب، أو لأسباب عدة، إلا أن هذا يقف في مقدمة الأسباب. لا بد لكي يستجيب الله عز وجل دعاء المستسقين والمتضرعين، أن يبدؤوا قبل كل شيء فيردوا المظالم، يردوا الحقوق إلى أصحابها، إن لم يتحقق هذا الشرط لا فائدة من صلاة الاستسقاء، هي عبادة يتقرب بها الإنسان إلى الله عز وجل لكنها لا تثمر هذه الفائدة الدنيوية إلا إذا تحقق فيها هذا الشرط.


أقول هذا اليوم، أُذَكِّرُ نفسي وأُذَكِّرُكم بهذه السنة الربانية التي نبهنا إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل أكدها لنا في أكثر من مناسبة، وفي أكثر من حديث، وبأكثر من أسلوب )من لا يرحم الناس لا يرحمه الله سبحانه وتعالى[. وهذا في دار الدنيا بقطع النظر عن المآل الذي ينتهي إليه الناس غداً إذا قاموا لرب العالمين.


إذا كنا، ونحن في أوائل هذا الشتاء المقبل، نريد أن نقرع باب الرحمة الإلهية، وإذا كنا نُصرّ على أن نتلقى الجواب إكراماً من الله سبحانه وتعالى ورحمة فينبغي أن نعلم الطريق المؤدي إلى ذلك، ها أنتم ترون مصداق كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، كلما أقبلت سنة رأينا أن السنة الماضية كانت خيراً من هذه، وإذا جاءت الأخرى رأينا أن التي قبلها خيرٌ من تلك أيضاً، وهذا هو كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم  وهو ينبهنا إلى شرط من أشراط قرب قيام الساعة.


    إذا أردنا أن نطرق باب الرحمة الإلهية فلنطرق هذا الباب بيد الرحمة، بيد التراحم، فلنطرق باب الرحمة الإلهية عن طريق إعادة الحقوق إلى أصحابها، عن طريق مكافحة الظلم، وأنتم تعلمون أنواع الظلم التي تستشري في مجتمعاتنا هذه، لا أخص فئة من الفئات، ولا طبقة من الطبقات، كلما موغلون في هذا الظلم إلا من رحم ربك، الأغذية التي تقدم إلى عباد الله عز وجل فيها من الإهدار لحقوق الناس ما فيها، فيها من تسبب الكوارث والأمراض ما فيها، في سبيل ماذا؟ في سبيل الجشع، في سبيل الوصول إلى مزيد من الربح، الأغذية الهرمونية، وما أدراك ما هذه الأغذية، وما أدراك ما السموم الناقعة في داخلها، وما أكثر ما تستعمل هذه الأغذية الهرمونية لها، لا، لا أقول من الدواجن فقط بل الأنعام أيضاً، هذا إلى جانب كثير من السموم الناقعة في النباتات المختلفة.


من الذين يمارسون هذا الظلم؟ أناس كانوا بالأمس الدابر أناساً يتقربون إلى الله عز وجل بالفلاحة والزراعة وخدمة عباد الله، واليوم يتقربون إلى الشيطان بما تعلمون. الظلم اليوم لا يمكن أن نخصصه في فئة أو طبقة من الناس، بمقدار ما كان الناس في الأمس الدابر متراحمين متآلفين متوادّين يشيع فيما بينهم الإيثار، إيثار الإنسان أخاه على نفسه، يشيع اليوم نقيض ذلك، تشبع الأَثَرَة، يحاول الإنسان أن يمتصّ حياة الآخرين من أجل أن يملأ صندوقه، من أجل أن يملأ جيبه.


    ومرة أخرى أقول لكم: هذا الظلم الذي ينتشر اليوم، لا أشير فيه إلى فئة معينة، بل الفئات كلها في ذلك سواء، ورسول الله صلى الله عليه وسلم  يقول فيما اتفق عليه الشيخان: )من لا يرحم الناس لا يرحمه الله سبحانه وتعالى[. ولقد قلت بالأمس، وأقولها جواباً يوسوس الشيطان إليه قائلاً: ها هي ذي دول البغي تتقلب في رحمة إلهية غامرة، فما من شتاء يأتي إلا والأمطار فيه وافرة، والثلوج فيه عامرة.


ولعلي أجبت عن هذا وذَكَّرْتُكُم بكلام نقرأه في كتاب الله سبحانه وتعالى، وخلاصة ما ينبغي أن نعلمه مأخوذ من صريح كلام الله عز وجل أن الناس الذين يتراحمون في دار الدنيا، أن الناس الذين تشيع فيما بينهم الألفة هم رقباء بعضهم على بعض، هؤلاء إن كانوا مؤمنين يفعلون هذا ابتغاء مرضاة الله، أكرمهم الله بثوابي الدنيا والآخرة، أما إن كانوا غير مؤمنين بالله عز وجل، يبتغون من ذلك إصلاح حالهم الدنيوي، يتعاملون مع فطرتهم الإنسانية، فإن الله عز وجل يثيبهم على ذلك في الدنيا، وليس لهم في الآخرة من أجر ولا ثواب، هذا كلام الله عز وجل: )مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها[ [هود: 15] أي نعطيهم جزاء أعمالهم الصالحة فيها ثم يقول: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاّ النّارُ وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ[ [هود: 16].


فالأمة التي يتراحم فيها أفرادها، الأمة التي يكون فيها رقباء، ألا يشيع ظلم، ألا تشيع إساءة إلى الآخرين، التي فيها رقباء يرقبون الأغذية، يرقبون حقوق الآخرين ألا تهدر، الأمة التي تعامل أفرادها كما تعامل الأم الرؤوم أطفالها يرحمها الله عز وجل في دار الدنيا، ولكن إن كانت بعيدة عن الأمل في الآخرة ولا تتعامل مع الآخرين بهذه المعاملة الإنسانية إلا بدافع من الفطرة الإنسانية، فإن الله عز وجل يثيبهم في دنياهم، يكرمهم بالأمطار السخية، يكرمهم بالثلوج، يكرمهم بالعطاء )أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاّ النّارُ[  [هود: 16]


    هذا القانون لا فرق فيه بين مسلم وجاحد، الأمة المسلمة إذا شاع فيها الظلم، وشاع فيها إهدار الحقوق، وتخلى الناس بعضهم عن بعض لا بد أن يواجههم الله سبحانه وتعالى بنقيض ذلك، لا بد أن يقابل العمل بمثله، )من لا يرحم الناس لا يرحمه الله سبحانه وتعالى[ وهؤلاء حسابهم عند الله أيضاً عسير؛ لأن الذين يسيئون إلى إخوانهم في دار الدنيا ظلماً وإهداراً لحقوقهم إنما يسيئون إلى الله، إنما يهدرون قبل ذلك حقوق الله عز وجل، ثم إنهم يهدرون حقوق أخوانهم في الإنسانية، )أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاّ النّارُ وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ[ [هود: 16]، )مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً[  [الإسراء: 17/18]


    يا عباد الله ليكن كل واحد منكم رقيباً على نفسه ألا يظلم أخاه، ألا يظلم جيرانه، إن كان موظفاً إلا يستعمل وظيفته في هدر حقوق الآخرين وظلمهم، إن كان صانعاً لا يتخذن من صنعته خيانة للذين شاء الله عز وجل أن يكون عاملاً عندهم، إن كان فلاحاً ينبغي أن يتقيَ الله عز وجل فيما يفلح ويزرع، إن كان ذا مدجنة ينبغي أن يتقيَ الله سبحانه وتعالى في الأإذية التي يقدمها لدواجنه أو لأنعامه، وإن كان مسؤولاً في هذه الأمة ينبغي أن ينظر إلى الأمة نظر الأم إلى أطفالها، عندئذٍ يرحمنا الله، عندئذٍ يكرمنا الله عز وجل بالأمطار السخية والثلوج الوافرة.


أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم. 

تحميل



تشغيل

صوتي