مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 08/04/2005

ارحموا الدين .. نداء إلى مثيري الجدل والشقاق

ارحموا الدين .. نداء إلى مثيري الجدل والشقاق


خطبة الإمام الشهيد البوطي


تاريخ الخطبة: 80/40/2005


 


الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، ياربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك, سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلِّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد  صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.


أمّا بعدُ فيا عباد الله ..


إن من أكبر المصائب التي حاقت بالمسلمين في هذا العصر إنصرافهم عن الأخطار الكبرى التي تحيق بهم، وإعراضهم عن كبريات المسائل الدينية الإسلامية التي ينبغي أن يكونوا على بينة منها وينبغي أن يجعلوا منها العامود الفقري لمجتمعهم والحبل الجامع لأشتاتهم، واستعاضتهم عن ذلك كله بالانشغال بالمسائل الجزئية والأمور الخلافية، ودخولهم بعضهم مع بعض في مناقشات ومجادلات هي أشبه بالتسلية منها بإصلاح أمر أو بتقويم اعوجاج، وكأن المسلمين لم يكتفوا بما أصابهم من التفرق والتنازع من جراء عوامل وأسباب كثيرة مختلفة فعكفوا على البحث عن مزيدٍ من الأسباب التي تأتي على البقية الباقية من تلاقيهم ووحدتهم و اجتماع كلمتهم.


هذه مصيبة من أخطر المصائب التي قل من ينتبه إليها ويقف عندها، ولقد حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح المتفق عليه فيما رواه المغيرة بن شعبة عنه صلى الله عليه وسلم، حذر من ثلاثة أشياء فقال: )إن الله ينهاكم عن ثلاث: قيل وقال وإضاعة المال وكثرة السؤال[.


ولقد ذكر شراح هذا الحديث شرحه، وبينوا أن المراد بقوله صلى الله عليه وسلم قيل وقال: أي ينهاكم عن الجدل فيما لا فائدة منه إلا تضييع الوقت وتمزيق الصف الواحد الذي ينبغي أن يتمتع به المسلمون في كل عصر.


والمعنى الذي أراده صلى الله عليه وسلم بكثرة السؤال: التنطع في توجيه الأسئلة إلى ما فائدة من الحديث فيه، إلى ما لا خير في الوقوف عنده إلا أن تكون العاقبة نقاشاً ينتهي إلى خصام، وخصاماً ينتهي إلى أحقادٍ وحفيظة، ثم إن ذلك ينتهي إلى تمزيقٍ لوحدة الأمة. ولكأن المسلمين اليوم مصرون على أن يخالفوا وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه، ولكأنهم يصرون على أن يخالفوا أيضاً ما كان عليه السلف الصالح رضوان الله عليهم بدءً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ثم إلى التابعين ثم التابعين من بعدهم، لكأن في المسلمين اليوم من يصر إصراره على أن يناقضوا وصية المصطفى صلى الله عليه وسلم، وأن يناقضوا ما كان عليه السلف الصالح، ما كانوا يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن جزئيات المسائل التي لا تقوم لهم إعوجاجاً ولا تصلح لهم فساداً ولا خير في الوقوف عندها، كان شغلهم الشاغل الاهتمام بكليات الأمور، كان شغلهم الشاغل الاهتمام بما يجمع كلمتهم ويوحد صفوفهم ويجعلهم يجتمعون على ما اتفقوا عليه من السير على صراط الله سبحانه وتعالى وهديه، فإذا رأوا أنفسهم أمام مسائل جزئية اجتهادية أعرضوا عنها وكان لكل واحد منهم أن يختار الرأي الذي دله عليه اجتهاده. هكذا كان أصحاب رسول الله، كانوا ينفذون قوله صلى الله عليه وسلم )إن الله ينهاكم عن ثلاث قيل وقال وإضاعة المال وكثرة السؤال[.


لعلكم ترون أيها الإخوة أن المسلمين اليوم يعانون من أخطار كبيرة جداً وعلاجها يكمن في جزع الإسلام وأساسه ولا يكمن علاجها في المسائل الجزئية الاجتهادية قط، ومع هذا فإننا لننظر إلى الشغل الشاغل الذي يعكف عليه كثير من المسلمين اليوم وإذا هم معرضون عن هذه الأخطار الكبرى، معرضون عن كليات المسائل التي لا خلاف فيها، وإذا بهم بدلاً عن ذلك يتسابقون ويتنافسون في أمورٍ جزئية وأكاد أقول تافهة لا يفيد الحديث فيها شيئاً، بل يضر. الحديث فيها كان ولا يزال سبب من أسباب تفرقة هذه الأمة، سبباً من أسباب تدابر أهلها بعضهم عن بعض، سبباً من أسباب الحفيظة والأحقاد التي تفيض بها أفئدة كثير من المسلمين اليوم بعضهم اتجاه بعض وفي سبيل ماذا؟ في سبيل أمورٍ لو أخذ الإنسان بأي وجهٍ من وجوهها للقي الله سبحانه وتعالى يوم القيامة سالما.


ولقد علم العدو المتربص المخطط للقضاء علينا وعلى إسلامنا علم هذه النافذة من الضعف التي يتسرب منها إلى المسلمين البلاء الأطم، فأخذوا يدفعون المسلمين إلى مزيد من الهرج والمرج، إلى مزيد من الاهتمام بتافهات الأمور لكي يعرضوا عن معالجة قضاياهم المصيرية، لكي يعرضوا عن معالجة كلياتهم الدينية.


غداً سيبدأ شهر ربيع الأول ولسوف تسمعون من جديد هذه المعزوفة التي تتكرر كل عامٍ في هذا الشهر المبارك، الاحتفال بذكرى مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم بدعة، لا ليست بدعة، بل هي بدعة، بل هي خروج عن الدين والملة بل هي ليست إلى آخر ما هنالك.


ترى ما الخير الذي يُنتظر من وراء استثارة هذا الأمر؟ ما الخير الذي يُنتظر من وراء استثارة هذه العاصفة، هذا الغبار الذي يحجب العين عن الرؤية ويحجب القلب عن البصيرة؟ ما الفائدة من وراء ذلك؟ في السنوات التي خلت عاد هذا النقاش وهذا الجدل وهذا الخصام مرات إثر مرات، ما الفائدة التي جُنيت من وراء ذلك؟ هل جنى هؤلاء الذين ينفخون في هذا الجدل الذي لا معنى له ولا مصير له هل جنوا من ذلك إلا مزيداً من التفرقة، إلا مزيداً من الخصام والشقاق؟


أيها الناس ارحموا هذا الدين الذي تحيط به العداوات من كل جانب، كونوا أمناء على هذا الذي استودعكم الله عز وجل إياه، تعرضون عن هذا الخطر الأطم الذي كاد أن يودي بهذه الأمة، وتتسلون بهذه المسألة التي إن اتجهت الأمة فيها إلى هذا الصوب أو إلى هذا الصوب فلن يحركوا ساكناً ولن يقوموا إعوجاجاً ولن يصلحوا فساداً ولن يفسدوا صلاحاً.


مسألة اجتهادية إن أردنا أن نقول إنها اجتهادية، اجتهادية ما لكم ولتفتيل العضلات في هذا الأمر؟ مالكم تحاولون أن تجعلوا من هذه الأمة وبقايا وحدتها ضحيةً لنزواتكم، ضحيةً لأهوائكم، ضحيةً لعصبياتكم؟ أمةٌ تريد أن تعبر عن حبها لمصطفاها محمد صلى الله عليه وسلم، تريد أن تجتمع على ذكرى هذا الذي تحب، هذا الذي تتشوق إليه، تريد أن تجدد العهد في ظل هذه الذكرى مع المصطفى صلى الله عليه وسلم. ما الذي يزعجكم من هذا؟ ما الذي يؤذيكم من هذا الذي يتم؟


وأنا لا أريد أن أناقش في هذا الموضوع وأبرهن على أن الأمر ليس بدعة أو هو بدعة أو كذا وكذا، لا أريد أن أكون أنا أيضا ممن يستجرون الناس إلى النقاش في هذا الموضوع، ولكني أقول شيئاً لا يستطيع أحدٌ أن يناقش فيه، مسألةٌ اجتهادية، نقبل أن نقول إنها اجتهادية، أجل من ذهب إلى هذا الرأي مثاب عند الله عز وجل ولا حرج عليه، من ذهب إلى الرأي الثاني مثاب عند الله ولا حرج عليه، ولكن أي أحمق يمكن أن يقول إن العمل على تصديع وحدة الأمة من الدين؟ أي جاهل  يمكن أن يقول إن العمل على تفتيت بقايا وحدة الأمة وبقايا كيانها أمرٌ ليس منهي عنه في دين الله عز وجل. من الذي يمكن أن يقول إن باب الشقاق ليس بدعة ما دام المصطلح الذي يدور على ألسنتهم هي كلمة بدعة وسنة وما إلى ذلك؟


من البدعة أن يتلاقى المسلمون في مثل هذه المناسبة ليجددوا البيعة لرسولهم وليستثيروا كوامن الحب من جديد لنبيهم صلى الله عليه وسلم، هذا التلاقي من البدعة وأن يقتل واحدٌ أباه لأن أباه مصر على الاحتفال بذكرى رسول الله صلى الله عليه وسلم وابنه يرى أن ذلك بدعة قتل أباه ! قتله ليس بدعة، قتله لأبيه ليس بدعة وليس عملاً محرماً ولكن الاجتماع على تجديد العهد للمصطفى صلى الله عليه وسلم هو البدعة !


قولوا أيها الإخوة كيف يمكن أن نحسن الظن بهؤلاء الذين لا علم لهم بأخطار الإسلام والمسلمين، ولا شأن لهم بالنزيف المتواصل الذي يعاني منه جسم هذه الأمة الإسلامية، لا شأن لهم بذلك كله وإنما يقومون ويقعدون إذا أهل هذا الشهر من كل عام ليصعقوا صعيقهم وليعلنوا رأيهم بأن هذا العمل الذي يمارسه المسلمون من الاحتفال بذكرى مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم بدعة خطيرة وأن اجتماعهم على ذلك سيودي بالأمة كلها إلى هلاك ودمار، كيف يمكن أن تتصوروا أن هؤلاء يتمتعون بشيء من الدراية والعقل؟ بل كيف تتصورون أن يكون هؤلاء الناس قد انطوت أفئدتهم على اخلاص ما لدين الله سبحانه وتعالى.


أعود فأقول لكم أيها الإخوة بلاؤنا الأطم اليوم ليس في هذا الذي تسمعون ولا في هذا الذي ترون من الأخطار التي تحيق بالمسلمين أو من الخطط التي ترمي إلى ازهاق كينونتهم والقضاء على إسلامهم، ولكن الخطر الأطم والأدهى هو انشغال المسلمين عن كليات المسائل الإسلامية التي تجمع نثارهم وتؤلف ما بينهم وانصرافهم عن هذا الخطر الذي يحدق بهم، انصرافهم عن ذلك إلى التسلية بالمناقشات والخصومات حول مسائل لو ذكرت بعضاً منها لكم لدفعكم الأسى والألم إلى الضحك وشر البلية ما يضحك.


لو أنني ذكرت لكم نماذج من هذه المسائل التافهة الجزئية التي تقمم وتجمع ويجمع نثارها من هنا وهناك ليجعلوا منها مصدر خصام، ليجعلوا منها باب شقاق، ليجعلوا منها وسيلة لتفتيت عضد، ليجعلوا منها غذاء للأنانية وللعصبية، لو ذكرت لكم طائفة من هذه الأمور التافهة الجزئية البسيطة التي أحلوها محل الأمور الخطيرة الكبرى التي ينبغي أن نجتمع على معالجتها لرأيتم أنفسكم مدفوعين إلى ضحكٍ مؤلمٍ بائس وشر البلية ما يُضحك.


أسأل الله سبحانه وتعالى أن يوقظ قلوبنا للإخلاص لدين الله سبحانه وتعالى وأن يوقظ عقولنا إلى مزيد من الوعي حتى لا تلعب بنا الأمم التي تخطط للقضاء علينا، يلعبون بعقولنا كما يلعب أصحاب الكرة بكرة القدم.


أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.    


 

تحميل



تشغيل

صوتي