مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 13/07/2007

العبودية والاستكبار ضدان لا يجتمعان



حذارِ من الاستكبار على العباد


خطبة الإمام الشهيد البوطي


تاريخ الخطبة: 13/07/2007


 


الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك. سبحانك اللهم لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله. خير نبي أرسله. أرسله الله إلى العالم كلِّهِ بشيراً ونذيراً. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين. وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى. أما بعد فيا عباد الله:


لقد استعرضت الآيات التي أنزلها الله عز وجل على رسوله في محكم تبيانه فلم أجد فيما قرأت آيةً يتهدد فيها العاصين وينذرهم بانقطاعهم عن آمال الرحمة الإلهية بل الذي رأيته في كتاب الله عز وجل خلاف ذلك. فهو يُمَنِّي العاصين بالمغفرة، يقول آناً: ”إن الحسناتِ يذهبن السيئات“ ويقول آناً: ”وآخرون خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً عسى الله أن يتوب عليهم“. ولكني نظرت فوجدت أن التهديد إنما يحيق بالمستكبرين على الله عز وجل وعلى عباده سبحانه وتعالى ورأيت آيات الكتاب المبين تتكرر بأساليب متنوعة وهي تعلن انقطاع المستكبرين عن رحمة الله عز وجل والآيات التي تعبر عن هذا كثيرة في كتاب الله عز وجل. مِنْ ذلك قوله: ”إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تُفَتَّحُ لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط“ أي في ثَقْبِ الإبرة. ومِنْ ذلك قوله سبحانه وتعالى: ”ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى وكتاب منير ثاني عطفه ليضل عن سبيل الله بغير علم“. ومن ذلك قول الله عز وجل: ”سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق وإن يروا كل آيةٍ لا يؤمنوا بها وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلاً وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا“ إلى آخر ما هنالك من الآيات التي يتوعد فيها البيان الإلهي المستكبرين بانقطاع آمالهم مِنْ رحمة الله سبحانه وتعالى. فما السبب في ذلك؟ السبب أن أول ما ينبغي أن يعلمه الإنسان عند معرفته لمولاه وخالقه هو أنه عبدٌ مملوكٌ لله عز وجل، هذا هو أساس سيره إلى الله وهذا هو أساس سلوكه في سبيل مرضاة الله عز وجل. كل أحكام الشريعة الإسلامية وكل المبادئ الاعتقادية والسلوكية في دين الله عز وجل إنما ينبثق من هوية الإنسان عبداً مملوكاً لله عز وجل. فما الذي يناقض هذه العبودية في كيان الإنسان بشكل حاد؟ الذي يناقض هذه العبودية الاستكبار. الاستكبار يناقض العبودية. مَنِ استكبر لم يبق في كيانه محل للشعور بأنه عبد لله. ومَنْ فاضت مشاعره بمعنى العبودية لله عز وجل لم يبق في كيانه مكانٌ للاستكبار، لا على الله ولا على عباد الله سبحانه وتعالى. ثم إن الاستكبارَ شعورٌ داخلي ولكنه يحمل صاحبه دائماً على أن يعبر عن شعوره الداخلي بمظهر مِنَ المظاهر. والمظاهر التي تدل على الاستكبار تتنوع وتختلف حسب الأعراف وحسب العادات السائدة في مجتمع ما أو في قبيلة ما. فقد كانت اللغة التي تعبر عن استكبار الرجل العربي أن يُسْبِلَ رداءه على وجه قدميه وأن يجعلَ رداءه يجر مِنْ خلفه. كانت هذه هي لغة الاستكبار عند العرب في صدر الإسلام. ولعل مجتمعات أخرى تتبنى لغةً ثانية أو مظهراً آخر مِنْ مظاهر الاستكبار كأن يُمِيْلَ الواحد مِنْ هؤلاء المستكبرين قلنسوته على رأسه وعلى إحدى عينيه بطريقة معينة، يجعل مِنْ ذلك تعبيراً أمام الآخرين بمكانته وعلو شأنه واستكباره. ولربما كان مظهر الاستكبار أو لغته عند الآخرين أن يحمل العصا ويلوح بها بطريقة ما أمام الغادين والرائحين. وهكذا فإن المظهر الذي يعبر عن مكنون الاستكبار يتنوع ويختلف حسب اختلاف الأعراف وحسب اختلاف المجتمعات والمهم الشعور الداخلي. عندما يكون شعور الإنسان فياضٌ بالاستكبار، سواء أعلن عن ذلك أو لم يعلنه، فقد حاق عليه النذير الذي أعلنه بيان الله سبحانه وتعالى. أما عندما تكون المظاهر والشارات والتصرفات منفصلة عن هذا المعنى فعندئذٍ لا تحمل هذه الشارة أو هذا التصرف أيَّ معنى ينكره الدين أو يحذر منه بيان الله سبحانه وتعالى. ولذا ورد في الحديث الصحيح الذي يرويه البخاري مِنْ حديث عبد الله بن عمر أنه r قال: مَنْ جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة فقال له أبو بكر: يا رسول الله إن إزاري يسترخي إلا أن أتعهده. أي هو طويل إلا أن أتعهده وأرفعه فقال له المصطفى r: ولكنك لا تفعل ذلك خيلاء. فدل ذلك على أن المظهر سواء كان متمثلاً في ثوب يرتديه الإنسان أو في قلنسوة على رأسه أو في عصى يحملها أو في حديث يردده إذا كان منفصلاً عن قصد الاستكبار فإن هذه الشارة لا تقدم ولا تؤخر عند الله شيئاً والثوب ليس له معنى تشريعيٌّ في هذه الحالة في ميزان الله سبحانه وتعالى قط. وليت أن الحرفيين الجَهَلَة الذين يتعاملون مع الحروف والكلمات مفصولة عن معانيها ليت أنهم يتعلمون شرع الله ويربطون الألفاظ بمعانيها، يربطون الكلمات بدلالاتها. هؤلاء الذين إذا رأوا إنساناً يلبس جلباباً قد طال إلى ما دون الكعبين أو إلى الكعبين اتهموه ربما بالزندقة وربما اتهموه بالاستكبار وربما اتهموه بما هو أكثر مِنْ ذلك وأعلنوا عليه حرباً لا هَوادَةَ فيها. معنى ذلك أنهم يعلنون هذه الحرب على أبي بكر رضي الله عنه لأن إزاره كان طويلاً ومعنى ذلك أنهم لا يقيمون لاستدراك رسول الله r أي وزن عندما قال لأبي بكر ولكنك لا تفعله خيلاء أي استكباراً على الله سبحانه وتعالى وعلى الناس. لو أن مجتمعاً مِنَ المجتمعات أصبحت العادة المألوفة بين أفراده أن يكون المتكبر مندفعاً إلى التعبير عن استكباره بثيابٍ قصيرة يرتديها بدلاً مما كان العرب يفعلونه تعبيراً عن استكبارهم إذاً أصبح هذا الثوب القصير هو المحرم وهو الذي ينبعث عنه النذير مِنَ الله سبحانه وتعالى لصاحبه. المسألة متعلقة بما في النفس وبما في الداخل. ولو أن هذا الذي يعلن إنكاره على هؤلاء الذين يلبسون ثياباً طويلة أو قصيرة أو نحو ذلك، لو أنه يمارس ذلك وفي داخله معنى مِنْ معاني الاستكبار على الآخرين، يريد أن يشعرهم بأنه هو الذي أدرك دينَ الله سبحانه وتعالى وعرف حقائقه وأنه وأترابه هم الذين كُلِّفُوا بأن يحرسوا دين الله حسب ما فهموه وعرفوه وأن الآخرين جميعاً مخطئون، متنكبون عن الجادة عندما يخالفونهم فمعنى ذلك أن هؤلاء هم المستكتبرون. وإذا كان طول الثوب عند العرب دليلاً على الاستكبار فهذا الموقف بدوره هو دليلٌ آخر على الاستكبار. أعود فأقول يا عباد الله: أما العصاة فهم معرضون لمغفرة الله ورحمته طالما لم تكن معاصيهم بسائق من استكبارهم على الله عز وجل. ولكن المستكبر حتى وإن أطاع الله، حتى وإن مارس أعمال العبادة في الظاهر، استكباره هذا يودي بصالح أعماله كلِّها كما ثبت في كتاب الله عز وجل وكما أكده لنا وكما أكده لنا رسول الله r. ولربما تساءلنا: حسناً رجل ارتكب المعاصي الواحدة إثر الأخرى إثر الأخرى واستمرأها وهو لم يكن مستكبراً على الله، ما السبب الذي يجعله معرضاً لرحمات الله عز وجل؟ الجواب معروف يا عباد الله. عندما يغيب الاستكبار يحضر شعور العبودية لله وعندما يغيب شعور العبودية لله يحضر الاستكبار. فإذا كان العاصي غير مستكبر على الله عز وجل فمعنى ذلك أن مشاعر العبودية تنبض بين جوانحه وفي قلبه، لا يفرغ مِنْ معصيته التي عصى الله بها إلا وتهتاج بعد ذلك عبوديته لله عز وجل بين جوانحه فتثير في قلبه ناراً مِنَ الندامة والألم ومِنْ ثَمَّ يندم ويُهْرَعُ إلى باب الله عز وجل؛ يعتذر أنه لم يعص الله استكباراً لكنه عصى لضعفٍ ابتلي به وقد أخبر اللهُ عز وجل عن ذلك عبادَه. يتوب الله عليه. ولربما عادت نفسه فتغلبت عليه فعاد إلى المعصية مرةً أخرى ولكن عبوديته لله عز وجل تعود فتستيقظ بين جوانحه وتسوقه إلى التوبة بين يدي الله عز وجل، مرة أخرى يتوب والله عز وجل يتوب على العاصين. مهما عاد إلى الله عز وجل تائباً. ما الذي يعيده إلى رحاب الله؟ عبوديته لله. ولكن هذه العبودية تنطوي وتزول نهائياً عندما يفيض القلب استكباراً على عباد الله عز وجل ولن يكون هذا الاستكبار إلا بعدما يكون استكباراً على الله سبحانه وتعالى. ما الذي يحمله على التوبة، ما الذي يحمله على الإنابة؟ المستكبر يتوب؟! هيهات. أقول قولي هذا وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يطهر قلوبنا مِنْ مشاعر الخيلاء وأسأل الله عز وجل أن يبصرنا بدينه وأسأله سبحانه وتعالى أن يكرمنا بحسن الظن بعباده وألا يجعلنا نستكبر على الآخرين فنرى أنفسنا المؤهلين لمرضاة الله عز وجل ودخول جنانه وننظر إلى الآخرين على أنهم تائهون ضالون مضلون وصلى الله وسلم على مَنْ قال: مَنْ قال هلك الناس فهو أولهم هلاكاً وفي روايةٍ فهو أهلكهم. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.


 

تحميل



تشغيل

صوتي