مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 19/08/2005

كِفتان .. بهما تستقيم حياة الإنسان

كِفتان .. بهما تستقيم حياة الإنسان


خطبة الإمام الشهيد البوطي


تاريخ الخطبة: 19/08/2005


 


الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، ياربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك, سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلِّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد  صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.


أمّا بعدُ فيا عباد الله  ..


أرأيتم إلى كفتي الميزان إنكم جميعاً تعلمون أن الواحدة منهما لا تقومها إلا الكفة الأخرى وأنه لا ينظر إلى الواحد منهما إلا بميزان النظر إلى الأخرى، وبذلك يتحقق معنى الميزان، وبذلك يؤدي الميزان وظيفته وعمله في تحقيق العدل. كذلكم الحياة والموت هما كفتان لا تقوم الواحدة منهما إلا على ضوء الأخرى، ومن ثم لا يستقيم الوجود الإنساني فوق هذه الأرض إلا بملاحظة كفتي الحياة والموت.


فلو أن الإنسان وقد وجد نفسه يعيش فوق هذه الأرض لم ينظر للوجود الإنساني إلا لكفة الحياة التي يتقلب في غمارها لتحول هذا الإنسان إلى وحش ضارٍ، ولتحول إلى كائن متأله، وإنكم لترون هذه الظاهرة وهي تملأ رحاب الأرض، وما ذلك إلا لأن هؤلاء الناس لم يتعاملوا مع ميزان الوجود الإنساني إلا مع كفة واحدة هي كفة الحياة التي يعيشونها. لم يتأملوا في الكفة الثانية التي هي الموت، وأعني بالموت ما وراءه أيضا من الأحداث المتسلسلة.


ولو أن إنساناً فتح عينيه على وجوده الإنساني فوق هذه الأرض ولم يتعامل إلا مع كفة الموت لم يضع نصب عينيه إلا الموت وما وراء الموت ولم ينظر إلى الكفة الثانية وهي الحياة التي أقامه الله عز وجل فيها، لتحول إلى كائن منعزل عن المجتمع الإنساني، ولحكم على نفسه بالشرود عن مجتمعه وبالشلل العضوي والفكري والحركي.


ولكن الميزان الذي ينبغي أن يعود إليه الإنسان وهو يقدر معنى وجوده الإنساني هو هذا الميزان الذي يتألف من كفتي الموت والحياة، كل كفة تُقوم على ضوء الكفة الثانية وبالنظر إلى كل منهما معاً يتكامل معنى الميزان ومن هنا جاء تعبير البيان الإلهي القائل: )تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا[ ليزجكم في افتتان وفي امتحان ليتبين من وراءه أيكم أحسن عملا، ولن يكون ذلك إلا إذا وضع الإنسان أمام هذا الميزان، ميزان ذي كفتين إحداهما كفة الحياة والثانية كفة الموت.


ولأمر ما قدم البيان الإلهي الموت على الحياة؛ ذلك لأن الإنسان وهو يعيش في غمار حياته التي قضاها الله سبحانه وتعالى له أو عليه لا تستقيم حياته إلا إذا - في كل يومٍ بل ربما في كل ساعة - يتذكر ما هو على موعد معه ألا وهو الموت وما وراء الموت.


صحيح أن الحياة متقدمة على الموت من حيث الترتيب الزمني ولكن الموت متقدم على الحياة من حيث القيادة الفكرية، من حيث القيادة العقائدية والسلوكية، فالإنسان بتصوره للموت الذي هو على موعد معه يستقيم سلوكه والإنسان بفهمه وتذكره لما هو على موعد معه من أحداث ما بعد الموت يتلون سلوكه، من أجل هذا قدم البيان الإلهي الموت على الحياة.


أقول هذا أيها الإخوة لكي تعلموا أن الإنسان لا يشرد عن صراط الله عز وجل ولا يؤثر رعونات نفسه على قرارات عقله إلا عندما يتعامل من الوجود الإنساني مع كفة واحدة من ميزان هذا الوجود ألا وهو كفة الحياة التي يعيشها فقط، من هنا تتغلب الرعونات على اليقين العقلي ومن هنا تتغلب الرعونات على الفطرة الإيمانية التي فطر الله سبحانه وتعالى الإنسان عليها، ومن هنا نجد هذه المصائب التي يفيض بها عالمنا الإنساني اليوم، الدواء والعلاج هو أن يعلم الإنسان أن هذا الوجود الذي زجه الله عز وجل فيه ومكونٌ من ميزان ذي كفتين إحداهما كفة الحياة والثانية كفة الموت، لا يتعامل مع لون من ألوان حياته إلا على ضوء الكفة الثانية كما هو شأن أي ميزان. ينبغي أن نتبين هذه الحقيقة.


الإنسان الذي يشكو أنه يريد الاستقامة على دين الله ولكن نفسه تتمرد عليه فلا يستطيع علاجه أن يتعامل مع الوجود الإنساني من خلال هاتين الكفتين، علاجه أن يتذكر الموت دائما.


الإنسان الذي يشكو من أنه يركن إلى زينة الحياة الدنيا وأن الشهوات التي تتراقص أمامه ومن حوله تأثره وتسكره وتنسيه قراره العقلي علاجه أن يتعامل مع ميزان الوجود الإنساني بكفتيه، الحياة والموت، أي علاجه أن يتذكر الموت دائما ومن ثم تتعادل الكفتان ويتغلب عندئذٍ لسان الميزان، ما هو لسان الميزان؟ العقل قرار العقل.


من أجل هذا يقول سيدنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم:  )"أكثروا من ذكر هادم اللذات" وفي رواية: "هازم اللذات ومفرق الجماعات" أي الموت: "فإنه ما ذكر في كثير إلا قلله" أي من المعاصي "وما ذكر في قليل" أي من الطاعات "إلا كثره"[ . هذا الكلام الذي يقوله حبيبنا المصطفى إنما يفسر معناه من خلال هذا الذي ذكرته لكم.


والمؤسف المؤلم أيها الإخوة أن في الناس الذي يتقلبون في غمار حياتهم الدنيا اليوم من أغرته هذه الحياة بزينتها وزخرفها إلى درجة أنهم يغمضون أبصارهم وآذانهم لا بصائرهم عما ينتظرهم بعد الموت، عما هم على موعد معه، فإذا وجد أمامهم في مجلس من المجالس أو محفل من المحافل من يتحدث عن الموت وعن ما بعد الموت اشمئزوا من هذا الكلام واستوحشوا من هذا الحديث وتبرموا به، ولربما قال قائلهم: كما حدث في كثير من الأحيان نحن الآن نعيش الحياة ولم نصل بعد إلى الموت، عندما نصل إلى المرحلة التي تتحدث عنها لكل حادث حديث وينهي الكلام ويفرض الصمت وعدم الدخول في هذا الذي هو الكفة الثانية من ميزان الوجود الإنساني.


هذه المصيبة يعاني منها كثير من الناس اليوم، ركنوا إلى زينة الحياة الدنيا واطمأنوا بها، والباري عز وجل يحدثهم مرارا وتكرارا وبأساليب شتى عما ينبغي أن يتذكره الإنسان من الموت الذي هو على موعد معه، فيضعون أصابعهم كما قال الله سبحانه وتعالى في آذانهم ويستغشون ثيابهم ويصرون ويستكبرون ويصرون على أن لا يسمعوا هذا اللغو على حد تصورهم. لماذا يكرر البيان الإلهي الحديث عن الموت؟


يقول مرة: )قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ[ ما قيمة أن تفر منه بذاكرتك أو تفر منه إلى الأطباء بجسمك فهو ملاقيك على موعد لا يتقدم ولا يتأخر. ويقول آناً آخر: )كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ[ التي هي الكفة الواحدة الأخرى )وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ[. ويقول مرة أخرى: )أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ[ ويقول لحبيبه المصطفى لكي نسمع نحن ويسمع هو: )إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ[.


حاول أن تصم أذنيك مهما شئت، حاول أن تبتعد عن الكلام مهما شئت، إنك في هذا كتلك النعامة التي تزج رأسها وتضع رأسها في التراب كي لا ترى الصياد ظناً منها إن لم تر الصياد فإن الصياد لن يرها. هؤلاء الذين يفرون من الحديث عن الموت شأنهم كشأن هذا الحيوان الأحمق، هل من فائدة في أن أهرب من الحديث عن الموت؟ ولماذا أهرب؟ الكابح الوحيد الذي يكبح جماح حياتي التي أتقلبها هو الموت، الكابح الوحيد الذي يجعل حياتي تسير الهوينى وتسير على نهج سليمٍ مستقيم وتبعدني عن المهالك هو الموت. لماذا لا أتذكره وهو يسعدني وهو يبعدني عن مطارح الشقاء والهلاك؟


أجل ومن عظيم ألطاف الله عز وجل بالإنسان أنه علم - وهو الذي فطرنا وهو الذي أورثنا الطبائع التي متعنا بها - أن الإنسان يكره الموت وأنه مشدود لرغباته إلى الحياة، ولكن الله عز وجل لطيف وحكيم، إذا دنى الموت من الإنسان، الإنسان الموصول بالله عز وجل عن طريق الإيمان به، الموصول بالله عز وجل عن طريق الاصطباغ بالعبودية له، إذا أصبحت أيامه الباقية قليلة وأصبح الموت على وشك من الوصول إليه فإن الله سبحانه وتعالى يكره إليه الدنيا، وإنه سبحانه وتعالى يجعل آماله ومشاعره تتجه إلى المنظور البعيد، إلى رحمات الله سبحانه وتعالى وألطافه وهي حكمة ربانية عجيبة ورحمة إلهية غريبة. نعم، وأنا أستثني كما قلت لكم الإنسان التائه في حياته الذي لم يرتبط مع الله عز وجل بمثل العبودية، وهؤلاء لهم شأن آخر يأتيهم الموت وهم متعلقون بالحياة الدنيا، لكي يكون عذابهم أشد ثم أشد، أما من كانت صلته بالله عبدا لله مملوكا لله موجودا وباقياً وإن كان ينزلق بين الحين والآخر في المتاهات، فإن الله عز وجل من عظيم رحمته وحكمته أنه إذا دنى الموت إليه يكرهه بالدنيا التي هو مدبر عنها، ويعلق آماله بالعالم الآخر الذي هو مقبل إليه، فإذا حان حينه ووقع في سكرات الموت نسي الدنيا بل أنساه الله عز وجل الدنيا بكل لذائذها وجعل آماله متجهة إلى الله سبحانه وتعالى. وهذا معنى قوله عليه الصلاة والسلام لعائشة: ) "من أحب لقاء الله أحب الله لقائه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه" قالت أهو الموت يا رسول الله فكلنا يكره الموت قال: "ليس ذاك قال لها ليس ذاك، ولكن المؤمن إذا دنى أجله بُشر بجنة الله ورحمته ورضوانه، فلم يكن شيء أحب إليه من لقاء الله، وإذا دنى الموت من الكافر بُشر بمقت الله وسخطه وعذابه فلم يكن شيء أكره إليه من لقاء الله عز وجل" [


ما معنى هذا الكلام؟ معنى هذا الكلام أن الإنسان الذي يدنو إليه الموت يريه الله عز وجل مقره، يريه الله عز وجل ما أعد الله له من رحمات وما أعد الله له من نعيم، تتصاغر كل أنواع النعيم أمامه، فيشرأب بكل مشاعره وأعماله إلى هذا الذي يراه، وهكذا يرحل إلى الله وهو يشتاق قربه.


أما الآخر الذي إذا ذكرناه بالموت اشمئز وتبرم وأصمتنا وأسكتنا لأنه لا يريد أن يتحدث عما هو مقبل إليه، نعم سَكَره أمامه وكأسه بين يديه ولا يريد أن يزعجه أحد من الكأس التي يرتشفها بين الثانية والأخرى، أما هذا فإذا جاء الموت أخذ الموت بغلاصمه وهو مشدود إلى الحياة التي سيتركها وهو في هلعٍ شديد من العالم الآخر الذي هو مقبل إليه.


أقول أيها الإخوة بعد هذا كله أرأيتم إلى المصائب التي تطوف بنا من بعيد أو من قريب أياً كان نوعها، هذه المصائب الإنذارية التي ترونها كلها من مفرزات الغفلة عن الكفة الثانية التي هي إحدى كفتي الوجود الإنساني بل ميزان الوجود الإنساني. قادة العالم الإسلامي ما عكفوا على غيهم وما عكفوا على حراسة كراسيهم بكل الوسائل التي يتخيلونها إلا لأنهم يتعاملون من الوجود الإنساني مع كفة واحدة هي كفة هذه الحياة الدنيا التي يخيل إليهم أنهم مخلدون فيها، هؤلاء الذين تحولوا في تعاملهم مع إخوانهم في الإنسانية إلى وحوش ضارية إنما يفعلون هذا لأنهم مسخوا ولماذا مُسخوا؟ لأنهم إنما يتعاملون من الوجود الإنساني مع الكفة الواحدة هي كفة هذه الحياة فقط، ولو أنهم تعاملوا مع ميزان الوجود الإنساني كما شرع الله وكما فطر الله سبحانه وتعالى ونظروا إلى هذا الوجود من خلال كفتيه المتعادلتين لعادوا إلى رشدهم لعادوا إلى لسان الميزان وهو الرشد.


أسأل الله سبحانه وتعالى أن يكرمنا بأن نعيش مع دنيانا التي نتقلب في رحابها ومع آخرتنا التي نحن مقبلون عليها لكي لا نتيه عن رشدنا ولكي لا نضل عن صراط الله سبحانه وتعالى الذي أمرنا بالتزامه.


أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.    


 

تحميل



تشغيل

صوتي