
العلّامة الشهيد محمد سعيد رمضان البوطي


مجالس الذكر .. العاصم من الفتن
مجالس الذكر .. العاصم من الفتن
خطبة الإمام الشهيد البوطي
تاريخ الخطبة: 12/11/2004
الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، ياربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك, سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلِّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.
أمّا بعدُ فيا عباد الله ..
ها نحن نرى مصداق ما قاله لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الفتن التي تفاجئ المسلمين كقطع الليل المظلم، تتبع أخراها أولاها. ها نحن نجد في حياة المسلمين من حولنا اليوم مصداق ما قاله المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
ترى ما العلاج الذي ينبغي أن يتخذه عامة المسلمين؟ هؤلاء الذين لا يزالون على العهد، لا يزالون يسيرون على النهج الذي أمر الله به، هؤلاء الذين تفيض بهم المساجد ركعاً سجداً يبتهلون إلى الله سبحانه وتعالى. ما جلست إلى واحدٍ من هؤلاء المسلمين إلا ورأيته يتألم بل يطلق الزفرات لهذا الذل الذي ارتضاه قادة المسلمين لأنفسهم لبسوا الذل كفناً وليت أنه كان كأكفان الموتى أجل. ولكن ما العلاج ما الموقف الذي ينبغي أن يتخذه عامة المسلمين وهذه هي حال قادتهم؟ إخوانهم يُقتلون، بيوتهم تتحول إلى قبور يدفنون فيها وهم أحياء، والقوم مشغولون بموائدهم، مشغولون بلياليهم، مشغولون بالمهانة التي يعانقونها، بالذل الذي ارتضوه، سياطٌ من الذل تهوي على ظهورهم وهم راضون مطمئنون. حسناً ما العلاج الذي ينبغي أن يتخذه عامة المسلمين؟
فكرت ملياً أيها الإخوة فلم أهتدي إلا إلى علاج واحد، هو أن يتنادى هؤلاء المسلمون كما كان يتنادى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول قائلهم: تعالوا بنا نؤمن ساعة، هكذا كان يقول عبد الله بن رواحة فيما يرويه الإمام أحمد في مسنده بسندٍ صحيح، كان كلما رأى ثلة من أصحاب رسول الله قال لهم: تعالوا بنا نؤمن ساعة ولما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يرحم الله ابن رواحة إنه يحب المجالس التي يباهي بها الله ملائكته. هذا هو العلاج، العلاج أن نتداعى إلى المجالس التي يباهي الله سبحانه وتعالى بها ملائكته نتداعى إلى هذه المجالس، وإذا لقي المسلم أخاه وإذا تكاثر المسلمون في مجلس واحد تكاثر الإيمان وتضافرت مشاعر التوجه إلى الله سبحانه وتعالى فكان الأمل معقوداً آنذاك وفي هذه الحال برحمة الله سبحانه وتعالى وبأنه سيستجيب الدعاء ويحقق الرجاء. وهو علاجٌ قد يبدو أنه لا علاقة له بالمشكلة والمصيبة التي نتحدث عنها، لكنه في الواقع العلاج الأوحد في هذه الحال التي نمر بها.
ولقد قال المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وسلم: )عبادة في الهرج كهجرة إلي[ هذا هو الهرج وتلك هي العبادة أن نتداعى إلى ذكر الله سبحانه وتعالى، ولا يقولن قائل: إنني في عقر بيتي أذكر الله والتجئ إليه، ذكر الله سبحانه وتعالى في هذه الحال جيد، ولكنك لا تدري أنت فرد هل يقبل دعاؤك أم لا يُقبل؟ أنت كعصاً واحدة مهينة وضعيفة ربما تتحطم، إن لك قوة يسيرة ولكن هذه العصا إذا أُضيفت لها عصا ثانية وثالثة ورابعة وتضافر العصي كانت لها قوة لا تغلب، إيمان الفرد إذا تضافر مع إيمان الجماعة أصبح شأنه كامل، وهذا هو السبب في أن المصطفى صلى الله عليه وسلم تحدث كثيراً عن مجالس الذكر وعن حلقات الذكر.
ولعلكم جميعاً تعلمون الحديث الطويل الذي يرويه البخاري في صحيحه )إن لله ملائكة يطوفون في الطرقات يلتمسون مجالس الذكر فإذا رأوا قوماً يذكرون الله عز وجل قالوا هلموا إلى حاجتكم هذا ما تبتغون فجلسوا إليهم يحفونهم بأجنحتهم إلى السماء الدنيا[ أي يتكاثرون طبقاً فوق طبق إلى السماء الدنيا، وفي آخر الحديث أن أحدهم يقول لربه عز وجل: )يا رب إن فيهم فلاناً جاء يبتغي حاجة فيقول هم القوم لا يشقى بهم جليسهم[.
أرأيتهم إلى أهمية هذه المجالس؟ ولقد صح عن المصطفى صلى الله عليه وسلم فيما يرويه أنس بن مالك أنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: )لأن أجلس مع قومٍ يصلون الغداة فأجلس معهم يذكرون الله سبحانه وتعالى إلى طلوع الشمس أحب إلي من أعتق أربع رقاب من ولد اسماعيل ولأن أجلس مع قومٍ بعد صلاة العصر أذكر معهم الله سبحانه وتعالى إلى غروب الشمس أحب إلي من أن أعتق أربع رقابٍ من ولد اسماعيل[.
بوسع المصطفى صلى الله عليه وسلم إذا صلى الغداة أي الفجر أو العصر أن يذهب إلى بيته فيذكر الله منفرداً، لماذا يصر على هذا المجلس مع أصحابه؟ ولماذا يرى أن مثل هذا المجلس بعد صلاة الغداة أو بعد صلاة العصر أحب إليه من عتق أربع رقاب لماذا؟ لأن الأمر كما قلت لكم، تلاقي المسلمين في مكان واحد واتجاههم إلى الله بقلبٍ واحد جديرٌ لذلك المجلس أن تحفه رحمة الله وجديرٌ بالحلوق التي ترتفع بالدعاء إلى عنان السماء أن يستجاب ذلك الدعاء، تضافر القوم في طرق باب الرحمة الإلهية تختلف عن اليد الواحدة التي تطرق باب الرحمة الإلهي.
فكرت ما السبيل للتخلص من هذا الذل الذي طفح كيله أيها الإخوة فلم أجد سبيلاً لذلك وقد افتقرنا وقد نجد وسيلة ماديةً سائغةً تطفئ الفتنة ولا تشعل المزيد منها لم نجد لم أجد سبيلاً إلا طرق باب الله عز وجل، وأن يطرق الفرد باب الله عز وجل ربما لا يستجاب له، ربما كنت وأنا أطرق وحدي باب الله عز وجل مثقلاً بأوزاري، مثقلاً بتقصيراتي بمظاهر التقصير التي أعرفها عن نفسي، فأنا بين بين ولكن الأمر كما قال الله عز وجل )سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ[ عندما يتلاقى المسلمون في أعقاب الصلوات أو في المناسبات المختلفة يذكرون الله سبحانه وتعالى ويبتهلون إليه ويتضرعون إليه، ثم ترتفع أكفهم بالدعاء يتجهون به إلى الله سبحانه وتعالى فذلك المجلس هو الأمل.
هذا هو الأمل المعقود وهكذا يمكن أن نطرق باب الله سبحانه وتعالى ندعو في هذه الحالة وقد التقينا بحلق الذكر التي تبحث عنها الملائكة، ولا شك أن الملائكة أيضا يجلسون معنا وإذا دعونا يُؤمنون على دعائنا إذا التزمنا هذا النهج ودعونا الله عز وجل لحكام المسلمين أن يعودوا إلى رشدهم، أن يعودوا فيصطلحوا مع ربهم، أن ينفضوا عن كواهلهم ماران عليها من الهوان، من الذل، من الضعة. جديرٌ بنا في هذه الحال أن يُستجاب دعاؤنا وأن يحقق الله عز وجل رجاءنا.
مجالس الذكر أيها الإخوة هي العلاج وهو المعنى التفصيلي لقول المصطفى صلى الله عليه وسلم "عبادة في الهرج كهجرة إلي" وما عجبت - وأقولها في هذه المناسبة - ما عجبت من شيءٍ عجبي من أناس ذاقوا طعم الإيمان وذاقوا لذة العبادة والإسلام يصلون جماعةً أي صلاة، حتى إذا انفتل الإمام من صلاته ولى أحدهم هارباً يحمل حذاؤه وينطلق وتنظر إليه وكأنه هارب من ذكر الله سبحانه وتعالى. ملائكة الله تبحث عن حلق الذكر لتجلس إليهم وفي الناس من يفرون من هذه الحلق.
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول )لأن أقعد مع قومٍ يصلون الغداة فأجلس معهم أذكر الله سبحانه وتعالى إلى طلوع الشمس أحب إلي من أن أعتق أربع رقاب من ولد اسماعيل[ وفي المسلمين من يفر من ذكر الله سبحانه وتعالى، يقول سأذكر الله منفرداً وخالياً وأغلب الظن أنه لن يتأتى له ذلك.
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجمع كلمة المسلمين على ما يرضيه وأن يكرم عامة المسلمين بهذا العلاج حيثما كانوا لعله العلاج الأقرب والأجدى. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم فاستغفروه يغفر لكم.