
العلّامة الشهيد محمد سعيد رمضان البوطي


منهج المسلم في التعامل مع الدنيا
منهج المسلم في التعامل مع الدنيا
خطبة الإمام الشهيد البوطي
تاريخ الخطبة: 04/02/2005
الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك, سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلِّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.
أمّا بعدُ فيا عباد الله ..
إنكم لتعلمون أن البيان الإلهي يُكثر من تحذير الإنسان المسلم من الاغترار بالحياة الدنيا ومن الركون إليها ومن الانخداع بها، ويتفنن البيان الإلهي في تحذير المسلم من هذا الأمر الخطير. يقول مثلاً: )لا يغرَّنَّك تقلُّبُ الذين كفروا في البلاد *متاعٌ قليلٌ ثُمَّ مأواهم جهنَّمُ وبئس المهادُ[ يقول: )اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ[.
ففي الناس من إذا سمع هذه التحذيرات الكثيرة في كتاب الله سبحانه وتعالى أشاح بأذنه عنها وأخذ يعيد ويكرر أن هذه التحذيرات هي التي سببت تخلف المسلمين عن ركب الحضارة، وهي التي جعلتهم يعرضون عن الإقبال إلى الدنيا وإلى الصناعات وإلى الزراعة والإبداع والاختراع ومن ثم تخلفوا عن ركب الحضارة. هذا الفريق من الناس اليوم كثير وهذه خدعة شيطانية ما ينبغي أن تتسرب إلى بال المؤمن وما ينبغي أن يُخدع بها.
عندما حذر الله عز وجل عباده المؤمنين من الاغترار بالحياة الدنيا لن يطلب منهم الإعراض عنها، لن يطلب منهم الترفع فوقها ونفض اليد والجيب منها متى؟
أليس هو القائل: )قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ[؟
أليس هو القائل: )هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا[ أي لتتمتعوا بها؟
أليس هو القائل )كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي[؟
والكلام المكرر الذي يدل على أن الله عز وجل يطلب من عباده أن يقبلوا إلى مائدة إنعامه وفضله وإكرامه كثير، إذاً هذه الآيات التي يحذر الله عز وجل فيها عباده من الاغترار بالحياة الدنيا والركون إليها ليست دعوةً إلى الابتعاد عن الدنيا وتركها للآخرين، إذاً لماذا يحذرنا من الانخداع بها؟
يحذرنا من الانخداع بها كي نقبل إليها إقبال المستخدم لخادمه وكي نقبل إليها إقبال السيد للمسخرات التي سخرها الله سبحانه وتعالى له، ولكي لا يقبل إليها إقبال العاشق المتعلق بمعشوقه، إقبال الجائع النهم الذي لا يعلم للشبع معنى، إلى الطعام ينحط فيه ثم لا يرفع رأسه عنه حتى التخمة.
تربية ربانية يربي البيان الإلهي من خلالها كي يقبلوا إلى الدنيا إقبال حذر، كي يقبلوا إليها وهم يعلمون أنها مطية ذلول يتخذونها سبيلاً إلى الله، ويتخذونها سلماً لتنفيذ قول الله سبحانه وتعالى: )فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ[ يتخذونها سلماً لتنفيذ قول الله عز وجل: )هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا[.
الناس أيها الإخوة فريقان، فريقٌ أعرض عن كتاب الله جل جلاله فلم يصطبغ بالتربية القرآنية المثلى، هذا الفريق عندما يرى بريق الدنيا من حوله ويرى مظاهر زخارفها ومشتهياتها وأهوائها يقبل إليها إقبال السكير إلى خمرةٍ، يقبل إليها إقبال العاشق إلى معشوقه كما قلت لكم، يعانق الدنيا في غير حذر لا يفرق بين حلال وحرام لا يبالي بالمنهج الذي أنشأه الله سبحانه وتعالى به.
وفريقٌ آخر تدبر بيانات الله عز وجل وتأمل فيما يخاطب الله به عباده ونال قسطاً كبيراً من التربية القرآنية له عندما يعرفه بهذه الحياة الدنيا ويبين له أنها ممر إلى مقر وأنها مجرد مستودع، ثم يأمره بالإقبال إليها إقبال الصانع إلى العدة التي يستعملها في صنعته. هذا الفريق الثاني يقبل إلى الدنيا كما يقبل أولئك ويستخدمها كما يستخدمها أولئك، لكن هذا الفريق الثاني يقبل إلى الدنيا كما قلت لكم إقبال السيد إلى عبده يأمره وينهاه، يقبل إلى الدنيا وزخارفها إقبال الإنسان الذي سخر الله سبحانه وتعالى له العدد والوسائل ليصل منها إلى غاياته فهو يستخدم هذه العدد ثم يلقيها جانباً أو أرضا، وذلك هو شأن المسلم الذي ربي في ظلال بيان الله سبحانه وتعالى نعم وتلك هي التربية التي حرم أكثر المسلمين في هذا العصر منها ولا سيما قادة المسلمين وحكامهم. ينظرون إلى الدنيا كما ينظر إليها الآخرون، وكأنهم يتأملون فيها على أنها اليوم الذي لا غد بعده، وكأنها المستقر الذي لا انصراف عنه فهم يتعاملون معها بنهم وحب وتعلق، ومن ثم تصبح هذه الدنيا سبباً لخذلانهم بدلاً من أن تكون سبباً لانتصارهم، تصبح هذه الدنيا عندئذٍ نقطة ضعفٍ في حياتهم أمام أعدائهم بدلاً من أن تكون مظهر شخصية قوية ترتعد لها فرائس أعدائهم. وإن لكم في سيرة الرعيل الأول السلف الصالح خير دليل وبرهان على هذا الذي أقوله لكم أيها الإخوة.
لو أن المسلمين اليوم لم يقبلوا إلى الدنيا كإقبال قارون إلى كنوزه، عشقها وركن إليها وسكر بها، سكر بها إذ قال: )إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي[ فماذا كانت العاقبة؟ كانت العاقبة أن هذه الكنوز أشقته بدلاً من أن تسعده وزجته في الصغار بدلاً من أن ترفع رأسه عالياً بما كان يتمتع به )فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ[.
لو أن المسلمين وفي مقدمتهم القادة لم يتعاملوا مع كنوز الدنيا ومشتهياتها كما كان يتعامل قارون وأمثاله مع الدنيا، إذاً لوجدوا أنفسهم أمام التربية الإلهية المثلى، وإنما سبيل ذلك الرجوع إلى بيان الله، بالتدبر الذي أمر الله سبحانه وتعالى به )أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا[ لعادوا إلى كتاب الله يتدبرونه ولاصطبغوا بهذه التربية القرآنية، يحذرهم مراراً وتكراراً، مراراً وتكراراً من الركون إلى الدنيا وكأنما يبين لهم أن هذا الذي يبرق في أبصارهم إنما يشبه جلد الثعبان الذي يبرق ملوناً منقوشاً في أعين الأغبياء، فإياكم وما وراء هذا البريق.
حتى إذا أخذ هؤلاء المسلمون حذرهم وعرفوا أن هذه الدنيا مبعث خداع وأنها مظهرٌ يبرق بالأبصار وباطنٌ يجر الإنسان إلى الشقاء والوبال، حتى إذا استقر في نفوسهم هذا المعنى وهيمنت على أفكارهم هذه الحقيقة، جاء البيان الإلهي الآخر يأمرهم بالتعامل معها، يأمرهم بالإقبال إليها، يأمرهم بتصوير ما في باطن الأرض واستخراج خيراتها، ويبين لهم أن الله ما سخر لهم هذه المسخرات إلا من أجل أن يتخذوها عدة لبناء المجتمع، ومن أجل أن ينفذوا بها أمر الله القائل )هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا[ عندئذٍ يقبلون إلى الدنيا كما يقبل الآخرون، يتعاملون معها كما يتعامل الآخرون، يجمعون كنوز الدنيا كما يجمعها الآخرون، لكنهم يفعلون ذلك كله بروح الموظف الذي أمره الله عز وجل أن يجعل من الدنيا خادماً لتنفيذ أوامر الله عز وجل فلا يتعاملون مع الدنيا إلا على الوجه المستقيم، إلا على النهج المستقيم، لا يتعاملون مع الذهب والفضة، مع الأبيض والأصفر إلا على النهج الذي يحقق للمجتمع العدالة ويبعده عن الظلم ومهاجعه وأسبابه، يتعاملون مع الدنيا دون أن تهيمن هذه الدنيا على قلوبهم وهكذا ومن هنا يأتي النصر لهم.
أعداؤنا يتعاملون مع كنوز المال والأرض تعامل السكران مع خمرته، أما المسلمون والمسلمون الصادقون هم الرعيل الأول هم السلف الصالح ومن جاء على إثرهم وسار على نهجهم فهؤلاء يتعاملون مع المال ويتعاملون مع هذه النعم كلها، ولكن قلوبهم محصنةٌ ضد التعشق لها وضد التعلق بها، قلوبهم مرتبطة بالله سبق إلى قلوبهم حب آخر، حب الله عز وجل، سبق إلى قلوبهم خوف آخر من الفقر ألا وهو الخوف من الله سبحانه وتعالى فلم يبق للفقر في نفوسهم خوف، ولم يبق في نفوسهم للمال حب ولكنهم مع ذلك ينافسون الآخرين في السعي للرزق، ينافسون الآخرين في الصناعات، ينافسون الآخرين في فنون الزراعة، ينافسون الآخرين في فنون الإبداع كلها.
من السبّاق في هذه الحالة أيها الإخوة؟ السابق هو الإنسان الذي جعل المطية مطية يستخدمها ولم يجعل نفسه مطية للمطية نعم، ولكن هذه هي حال المسلمين اليوم، حال المسلمين أنهم أخذوا جزءاً من بيان الله عز وجل وتسابقوا إلى تنفيذه ورقصوا وهم يتباهون في تطبيقه، أخذوا الجزء القائل )قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ [وأهملوا الأساس التربوي القائل )وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيَا كَمَآءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا * الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلا[. أهملوا قول الله عز وجل )لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ *مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ[ وصدق عليهم قول الله )أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ[.
هذا هو الداء الذي أصاب المسلمين اليوم، ودواء الداء الرجوع إلى التربية القرآنية كما اتجه إليها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلكم يعلم المثل الذي يجسد هذه الحقيقة في شخص عمر، وما عمر إلا واحد من مئات الآلاف الذين ساروا على هذا النهج، لم ينفض يديه من الدنيا أبداً استقبل الغنائم التي وصلت إليه وهي كنوز كسرى، استقبلها وجندها خير تجنيد لبناء المجتمع الإسلامي، بنى الأمصار، بنى الكوفة، بنى البصرة، أنشأ اسطولاً بحريا ًولو امتد به الأجل لتكامل هذا الأسطول، فعل ذلك كله، لكن هل فعل ذلك كله من منطلق التعشق لهذه الكنوز، لو أنه تعشقها لاختلق بها، لأقبل إلى ذلك إقبال السيد الذي يستخدم خادمه.
ألا تعلمون أنه وقف ينظر إلى هذه الكنوز بعين دامعه وهو يقول اللهم إنك تعلم أن محمداً صلى الله عليه وسلم كان خيراً مني فلم تعطه شيئاً من هذا وأنت تعلم أن أبا بكر كان خيراً مني فلم تعطه شيئاً من هذا فأعوذ بك اللهم أن يكون هذا العطاء فتنة لي في ديني ودنياي، أقبل لكن إقبال الحذر، أقبل ولكن إقبال المتبين لحكم الله، المتبين لشرع الله، أقبل ولكنه جعل من هذا المال خادماً للعدل ولم يجعل من هذا المال سبباً للظلم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.