العلّامة الشهيد محمد سعيد رمضان البوطي
إنهم يصرّون على خنق الإسلام بحبال الجهاد
تاريخ الخطبة
الجمعة، 21 صفر، 1434 الموافق 04/01/2013
إنهم يصرّون على خنق الإسلام بحبال الجهاد
الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك. سبحانك اللهم لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله. خير نبي أرسله. أرسله الله إلى العالم كلِّهِ بشيراً ونذيراً. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين. وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى. أما بعد فيا عباد الله:
لا يشك أحد في أن هذه الفتنة التي تمر بها سورية تنطوي على مصائب شنيعة مرعبة ليس في دنيا الإنسانية جمعاء من يقرها، من الذي يصدق أنه سيأتي يومٌ على سورية يُهَجَّرُ فيه الناس من بيوتهم ومساكنهم أو تُحَرَّقُ بهم وتُهَدَّمُ عليهم؟! من الذي يصدق أنه سيأتي يوم من أيام الزمن تتلاقى فيه أيدي الإجرام آتيةً من جنبات الأرض جمعاء لتجتث كل نعمة ولتزرع كل مفسدة ولتقضي على كل صلاح ولتحرق النسل والزرع ولتتعقب أنابيب الغاز والنفط فتفجر هذه وهذه وتلك وتتعقب مولدات النور والكهرباء فتدمرها جهد الاستطاعة، من الذي كان يصدق أن يمر مثل هذا اليوم على هذه البلدة؟! من الذي يصدق أن يوماً سيأتي تُحْمَلُ فيه الأعين المبصرة على أن ترى من المرعبات ما لم تُخْلَق الأعينُ لرؤيتها، تُحْمَلُ على رؤية الأطفال الذي يُقَتَّلون في أحضان أهليهم أو في مدارسهم، تُحْمَل على رؤية البرآء الذين يُذَبَّحون ذبح النعاج، تُحمَل هذه الأعين على رؤية الناس الذين يُقذَف بهم من قمم الأبنية الباسقة، تُحمل هذه الأعين على رؤية النساء اللاتي يُغتصبن ثم يُقتَّلْن ويبضَّعَن، من الذي كان يتصور أن سوريا هذه البلدة الآمنة التي توزع الأمن والسلم على جيرانها يمر بها مثل هذا اليوم العاصف، وفيم ولماذا وتحت أي غطاء قانوني يجري كل ذلك؟! كل ذلك يجري ويتم تحت غطاء قانون واحد لا ثاني له ألا وهو قانون الحقد الذي من شأنه أن يشرعن كل ممكن في سبيل تحقيق كل مطلوب، هذه هي الحقيقة التي ينبغي أن نعلمها أولاً. ولكني أريد يا عباد الله أن ألفت أنظاركم إلى مصيبة أدهى وأعتى وأخطر من هذه المصائب التي استعرضت جانباً منها لكم، إنها مصيبة محاربة الإسلام بطريقة حديثة لا عهد للتاريخ بها من قبل قط، إنها الصورة التي بوسع كلٍّ منا أن يراها إذ يُحمل الإسلام على أن ينحر نفسه بيده، يُحمل الإسلام بهذه الطريقة العجيبة على أن ينحر ذاته بيده، يُحارب الإسلام بسلاحه، بسلاح الإسلام ذاته، ألا ترون كيف أن كل تلك الجرائم تُنتهك وتُرتكب تحت اسم الجهاد، تحت اسم طرق باب الجنة للدخول إليها من وراء هذه الجنايات، ألا ترون يا عباد الله إلى هؤلاء الذين تجمعوا فوق هذه الأرض المباركة من أطراف الدنيا كلها كيف يضعون كتاب الله وشرائعه تحت أقدامهم – ومعذرة لشعائر الدين إن قلت هذا الكلام تعبيراً عن الواقع – أجل يضعون كتاب الله وشرائعه تحت أقدامهم ثم إنهم يرسمون شهادة الإسلام استخفافاً على جباههم، ألا ترون هذا يا عباد الله، هل من فرق بين هذه الظاهرة التي نراها وبين من يعكف على شرب الخمرة يحتسي منها الكأس إثر الكأس مصراً على ألا يزدرد الشربة الواحدة منها إلا ذاكراً اسم الله بالتكبير والحمد والبسملة، هل من فرق بين هذه الظاهرة التي يُستخف بها الإسلام ويُستهزأ بطريقة ما مثلها، هل من فرق بينها وبين من يقدم على الفاحشة جهاراً نهاراً ثم يصر على ألا يرتكبها إلا مكبراً، إذا ذاكراً اسم الله سبحانه وتعالى. لقد مرَّ بخاطري الشيء الكبير والكثير وأنا أقرأ في تاريخ العالم مرَّ الكثير من صور الهزء، من صور السخرية ولكني لم أعهد مثل هذه الصورة قط يا عباد الله. باسم الإسلام يمزق الإسلام، باسم الجهاد في سبيل الله تُمزق شرعة الجهاد التي نقرؤها في كتاب الله سبحانه وتعالى. باسم تحقيق الإسلام والسعي إلى تنفيذه يُخلق أسباب الكراهية، أسباب التذمر من الإسلام عند كثير من الناس. ها هي ذي النتائج الأولى تبدو أمام أبصارنا جلية، ها هم أولاء الذين كانوا إلى الأمس القريب يبحثون عن حججٍ لعلمانيتهم التي يصرون على رفع لوائها، كانوا إلى الأمس القريب يبحثون عن الحجج لرفع لواء لا دينيتهم التي يسعون إلى تنفيذها فما كانوا يعثرون، إنهم اليوم يفرحون ولا فرح من عثر على كنز كان قد افتقده ثم رآه على حين غرة، نعم لقد اتسعت أمامهم ميادين الأنشطة المختلفة سعياً إلى فرض اللادينية في مجتمعاتنا الإسلامية، لقد أمسكوا بالمبرر إثر المبرر من أجل أن يجدوا المبررات لغرس راية العلمانية في مجتمعاتنا الإسلامية، أفكان يعثرون على شيء من ذلك لولا هؤلاء الذي وفدوا إلينا أو أوفِدوا إلينا من أقطار العالم ووقفوا على مسرح الأحداث على مرأى من العالم كله يحكمون على الإسلام بأن ينحر نفسه بيده، يحكمون على الإسلام بأن ينحر ذاته بسلاحه، ألا ترون، أليس هذا هو الذي يجري يا عباد الله؟! الجهاد في الإسلام، قرأنا في كتب الشريعة الإٍسلامية وأصغينا لإدراكه ومعرفته إلى كتاب الله وتدبرنا بعد ذلك ما يقوله رسول الله فلا والله لم نجد الجهاد الذي شرعه الله عز وجل إلا سعياً بالإسلام المسلم إلى قمة العمل الإنساني، لم نجد فيه إلا السُّلَّم الذي يرقى بالإنسان إلى قمة العدالة، لا بل إلى قمة الرحمة بالإنسانية جمعاء. الجهاد الإسلامي يبيح ارتكاب الفاحشة! الجهاد الإسلامي يبرر نهب الأرزاق والثروات من البرآء المسلمين الآمنين المؤمنين! الجهاد في الإسلام يبرر استلاب اللقمة من أفواه أصحابها الجائعين! الجهاد يبرر تفجير كل منابع الرزق الذي سخره الله عز وجل لعباده فوق هذه الأرض! الجهاد يبرر السعي إلى نقيض ما يأمر به الله عز وجل إذ يقول:
(وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا) [الأعراف: 56].
الجهاد يقول على لسان أصحابه: لا بل سنفسد كل ما هو صالح ونقضي على كل ما هو صالح! من الذي يقول هذا؟! ولكن ها هم أولاء الذين ينشدون اللادينية يعقدون لقاءاتهم هنا وهنا وكأن لسان الحال يقول لهم: هذه هي الفرصة التي قد لا تعود، لقد فُسِحَ أمامنا الطريق ولقد تلقينا الإشارة التي تعلن أن ساعة الصفر قد جاءت لمحاربة الإسلام ولفرض اللادينية في هذه المجتمعات، ألا ترون؟! ولكن هل هنالك ما يجعل الإنسان العاقل المتدبر وإن الإسلام ليدعو إلى العقلانية قبل العلم، كم عالم أحمق أوداه علمه إلى سوء المصير. الإسلام يربينا على أن نعقل الأشياء ثم نتوجها بالعلم. ما من عاقل إلا ويعلم أن الطريق إلى الإسلام لا يمر عبر البيت الأمريكي، ما من عاقل إلا ويعلم أن السير إلى الإسلام لا يمر عبر تل أبيب، ما من عاقل إلا ويعلم أن نظام السعي إلى الإسلام لا يخططه برنارد ليفي، ما من عاقل إلا ويعلم هذا وإسلامنا يربينا على العقلانية، إسلامنا يربينا على أن نعلم الحقائق ومصادرها، إسلامنا يربينا على ألا نُخْدَع ولا نَخْدَع، إسلامنا يقول لنا ما كان يقوله عمر: "لست بالخب ولا الخب يخدعني". نعم، كل هذا الذي نراه من المصائب المتنوعة المختلفة يهدف إلى شيء أساسي واحد لا ثاني له ألا وهو امتلاخ الإسلام من تربة الإسلام بعد مكة والمدينة، نعم، هذه هي الحقيقة التي ينبغي أن نعلمها يا عباد الله. أقول هذا ولكني لا أخفي ما جعله الله عز وجل بشرى راسخة ثابتة بين جوانحي ولا يمكن أن يأتي يوم أو تأتي ساعة أشك فيها بهذه البشارة التي أكرمني الله عز وجل بها: إن هذه الفتنة ستمر وتنتهي عما قريب، ولسوف تتحول إلى أثر بعد عين، ولسوف يلهج الناس بذكرياتها من أجل أن يلتقطوا منها العبرة والدرس، فحذار حذار يا عباد الله أن تحملكم فرحة الخروج من هذه المصيبة إلى سكرة النفس، إلى سكرة تحجبكم عن نعمة الله، تحجبكم عن الشكر لله سبحانه وتعالى، حذار، أقولها لنفسي، وأقولها لقيادة هذه الأمة، وأقولها لسائر القائمين بأمرها، وأقولها للجيش الذي ينهض بما أمر الله عز وجل به، حذار أن تسكركم النعمة فتنسوا شكر المنعم، عاهدوا الله، جددوا البيعة معه على أن تكونوا عبيداً سائرين على صراطه ملتزمين بأمره على النهج الذي رسم لا على النهج الذي يمر بتل أبيب، عاهدوا الله سبحانه وتعالى على أن تكونوا رقباء على بيوتكم، على أسواقكم، على مجتمعاتكم ألا يشرد هذا المجتمع يوماً واحداً عن صراط الله سبحانه وتعالى، عاهدوا الله من الآن، قولوا له بألسنة أحوالكم وبألسنة أفواهكم، قولوا: ها نحن منذ الآن نعاهدك على أن نسير على الصراط الذي أمرت، وها نحن من الآن نستغفرك من الشرود الذي وقعنا فيه، نحن عبادك الضعفاء ولكننا اليوم نعود إلى صراطك وها نحن نعود إلى هديك، هذا ما ينبغي أن تعاهدوا الله عليه، ولسوف نتلاقى لنتذكر هذه الحقيقة، المصيبة ستمر والذين حاولوا أن يصطادوا عن طريقها بالماء العكر لن ينالوا من وراء ذلك شيئاً، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.