العلّامة الشهيد محمد سعيد رمضان البوطي
أيهما أسوأ المبالغة في حب رسول الله أم المبالغة في العصبية للذات
تاريخ الخطبة
الجمعة، 07 صفر، 1434 الموافق 21/12/2012
أيهما أسوأ
المبالغة في حب رسول الله أم المبالغة في العصبية للذات
الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك. سبحانك اللهم لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله. خير نبي أرسله. أرسله الله إلى العالم كلِّهِ بشيراً ونذيراً. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين. وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى. أما بعد فيا عباد الله:
إن الله عز وجل قد ابتعث محمداً صلى الله عليه وعلى آله وسلم بالهدى ودين الحق كما تعلمون وجعل من أخلاقه السامية وسلوكه المقدس قدوة لأمته في كل عصر وفي كل زمان فقال جل جلاله:
(لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً) [الأحزاب: 21].
وقال:
(مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ) [النساء: 80].
ولا أعلم أن في القرآن آيةً أشد من هذه الآية في الأمر بطاعة المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ولكن فرقة نشأت منذ أكثر من قرن من الزمن تصر على أن تجعل من قناعاتها الفكرية وسلوكها بديلاً عن كثيرٍ مما جاء به رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم. والعجيب أن هذه الفرقة تنهج في الدعوة إلى قناعاتها الفكرية والسلوكية أشبه ما يكون بمنهج من يصحح أخطاء وقع فيها رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ودعوني أضرب لكم أمثلة لنماذج من هذا الذي يجسد ويبرز هذه الحقيقة العجيبة.
يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم فيما اتفق عليه الشيخان وغيرهما: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين) وفي رواية صحيحة بزيادة: (ونفسه التي بين جنبيه)، ويقول قادة هذه الفرقة البدعية الناشئة: لا، بل لا تجوز المبالغة في محبة رسول الله، سمعت هذا الكلام بأذني ورأيت قائلها بعيني، لاحظوا عملية التصحيح.
وقد ورد من حديث الترمذي وأبي داود وابن ماجه وغيرهم من حديث عثمان بن حنيف أن قتادة وكان ضريراً أقبل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكو إليه حاله وعجزه عن المجيء إلى مسجد رسول الله لحضور صلوات الجماعة وسأله أن يدعو الله له بالشفاء وبأن تعود إليه عيناه البصيرتان، فقال له المصطفى صلى الله عليه وسلم: (أسبغ الوضوء وصل ركعتين ثم قل اللهم إني أتوجه إليك بجاه نبيك محمد نبي الرحمة، يا محمد إني توجهت بك إلى ربك في حاجتي لتقضى اللهم فشفعه فيَّ واذكر حاجتك بعد ذلك) ذهب الرجل ففعل ما ذكره رسول الله وأكرمه الله فعادت إليه عيناه بصيرتان، ولكن قادة هذه الفرقة يقولون لا يجوز هذا الكلام، لا يجوز التوسل برسول الله أو رجاء رسول الله، ومن فعل ذلك فقد أشرك.
روى الشيخان البخاري ومسلم وغيرهما أحاديث كثيرة بلغت مبلغ التواتر المعنوي أن أصحاب رسول الله رضوان الله عليهم كانوا يتباركون بعرق رسول الله وكانوا يتباركون بما دونه أي الماء الذي يتقاطر من وجهه ويديه أثناء الوضوء وكانوا يتباركون بالشعرات التي تتساقط من لحيته أو رأسه، ولكن هذه الفرقة الناشئة البدعية تقول لا، هذا غير جائز ومن تبرك بشيء من هذه الفضلات وغيرها فقد أشرك.
وقد صح فيما رواه الإمام أحمد في مسنده أنه عليه الصلاة والسلام لما ابتعث معاذ بن جبل إلى اليمن قال له مودعاً: (لعلك يا معاذ إن عدت لن تراني بعد هذا العام ولعلك إن عدت إلى المدينة أن تمر بمسجدي هذا وقبري) وعاد معاذ من اليمن فعلاً وقد حصل ما قد قال له رسول الله، علم أن المصطفى صلى الله عليه وسلم لحق بالرفيق الأعلى فما لبث حتى توجه للتو إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ووقف على قبره الشريف يسلم عليه، ولكن هذه الفرقة صححت اليوم وقالت لا يجوز القصد إلى زيارة قبر رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم. أأزيدكم؟
صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه الإمام أحمد بسند صحيح وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أمتي هذه أمة مرحومة، متاب عليها مغفور لها) وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال أيضاً: (أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أني رسول الله، ما يلقى الله فيهما عبدٌ فتحجب عنه الجنة) ولكن هذه الفرقة تصر على أنها هي وحدها الفرقة الناجية يوم القيامة، أي أن الناس الذين كانوا قبل وجود هذه الفرقة شركيون ضالون وأن الناس الذين لا يتبعون هذه الفرقة كلهم شركيون كافرون، وإن سأل أحدُ الناس واحداً من هؤلاء ما هو مذهبك أشافعي أنت أم حنفي مثلاً؟ يقول أنا من الفرقة الناجية، أي إن كنت على النهج الذي أنا فيه فأنت ناجٍ مثلي وإلا فاعلم أنك ضالٌّ حشو جهنم يوم القيامة.
يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم فيما رواه كثيرٌ من أصحاب السنن: (إن ربكم حييٌّ كريم يستحي من عباده إذا بسطوا أكفهم إليه أن يردها خائبة) ويقول هؤلاء: لا، ما ينبغي أن يبسط الإنسان كفه بالدعاء قط. ما هو تفسير هذه المواقف يا عباد الله، إنه يكاد أن يكون تصحيحاً لمواقف وأوامر ووصايا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، أليس كذلك؟! الأمر خطير جداً ولكن المسألة تتعلق بمصدر أساسي لا بديل عنه هو الحب، والحب يا عباد الله انفعال قسري ما كان يوماً فعلاً اختيارياً قط ومن ثم فلا معنى لقول قائلهم ما ينبغي أن نبالغ في محبة رسول الله، أهي مسألة اختيارية أو هو قدر معياري تأخذ منه ما تشاء وتدع منه ما تشاء؟! الحب انفعال قسري وليس أمراً اختيارياً، من عرف الله حق معرفته وعرف محمداً صلى الله عليه وسلم معرفة حقيقية لابد أن يحب الله وأن يحب رسول الله شاء أم أبى. والروح التي أهبطت إلينا من الملأ الأعلى كانت ولا تزال تحن حنين شوق وحب إلى بارئها، إلى العالم الذي أهبطت منه. صحيح أننا قد نقصر فيما قد طلبه الله عز وجل منا - وكلنا مقصرون - ولكننا والله نحبه وإننا نقول كما قال ذلك الأعرابي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد جاء يسأله قائلاً: متى الساعة؟ قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما أعددت لها؟) قال: ما أعددت لها كثير صوم ولا صلاة ولكني أحب الله ورسوله، قال له رسول الله: (أنت مع من أحببت)، وإننا لنقول هذا الذي قاله الأعرابي: ليست لنا طاعات كثيرة نرحل بها إلى الله مطمئنين، ليس لنا كثير صلاة ولا صوم ولا نسك ولكننا والله نحب الله ورسوله وليس ثمة حدٌّ لهذا الحب وليس ثمة معيار اختياري لهذا الحب، هذا هو النهج الذي نسير عليه في حياتنا وبهذا نلقى الله عز وجل يوم يقوم الناس ليوم الحساب وللوقوف بين يدي رب العالمين سبحانه وتعالى، وهل لنا يا أيها الإخوة من بضاعة نأمل بها العفو والمغفرة والشفاعة غير بضاعة الحب، ليس لنا شيء غير ذلك، ولكن ما أسوأ عاقبة من عاش وقلبه فارغ من محبة رب العالمين ومن محبة رسوله، والحب شيء والقناعة العقلية شيء آخر أيها الإخوة، القناعة العقلية لا تجدي إن كان القلب فارغاً من الحب عندئذٍ يهجم على القلب حب الأشياء الأخرى، حب الذات، حب الدنيا، حب المكانة، حب الزعامة، حب الرئاسة، وما أكثر الأمور الثانية التي تهجم على القلب عندما يبعد القلب من محبة الله، حدِّثْ عندئذٍ عن أنواع الانحرافات ولا حرج، الله إنا نسألك أن تجعل قلوبنا أوعية لحبك أنت، ثم لحب رسولك محمد صلى الله عليه وسلم حباً لا حدَّ له، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم فاستغفروه يغفر لكم.
أما بعد فيا عباد الله: إن من شأن الاغتيالات الغدرية أن تنال الأفراد والآحاد فيما بينهم، أما الحروب التي تهتاج وتقوم بين الدول والشعوب فالشأن فيها أن تقوم بين جهات متقابلة مستعلنة بشرف الإعلان، بشرف المواجهة المعلنة فيما بين الفرقاء والأطراف، هكذا يقول التاريخ وهكذا يعلم المؤرخون ولا أعتقد أن في الأمر شذوذ. أما اليوم فإن التاريخ يرى شيئاً آخر، يرى شيئاً مخالفاً لهذه القاعدة الماضية التي طواها الدهر الماضي، اليوم نرى سوريا وكيف تواجه المشاعل الاغتيالية الغدرية الخفية دون أي مواجهة شريفة، سوريا طرف اليوم حرب حقيقية شاملة كبرى ولكن من الطرف الآخر فيها؟ الطرف الآخر إنما هو الاغتيالات الغدرية الخفية التي تأبى أن تقف موقف الشرف في الإعلان عن ذاتها، وهكذا فإن سوريا اليوم تعاني من حرب شاملة حقيقية كبرى والطرف الآخر هو هذا الذي ذكرته لكم ومن حق سوريا كدولة أن تقدم على ما ينبغي أن تقدم عليه أي دولة تحارَب في مثل هذه الحال، من حقها أن تستدعي الاحتياط، من حقها أن تستعين بالقدرات المتنوعة من الأوساط الداخلية لأن سوريا دولة، شخصية اعتبارية تمثلها الفئة الحاكمة ويمثلها الشعب بكل فئاته وقدراته واختصاصاته، ومن هنا فإن الشريعة الإسلامية تنص على أن التسلل خارج هذه البلدة في مثل هذه الحال دون ضرورة تدعو إلى ذلك فرار من الزحف، والفرار من الزحف لا أقول أمر محرم بل هو كبيرة من الكبائر بنصٍّ تقرؤونه في كتاب الله سبحانه وتعالى. لا شك أن لكل قاعدة فقهها، الناس الذين شُرِّدُوا عن بيوتهم التي هدِّمَت أو التي اغتصبت عنهم ووجدوا أنفسهم أصبحوا في العراء وكانت لهم أرحام، أقارب في بلاد مجاورة أخرى فلهم الحق أن يغادروا إلى حيث يبتعدون عن الهلاك وأسبابه، هذه حالة استثنائية يستثنيها علماء الشريعة الإسلامية، أما العكس، الذين أكرمهم الله لا أقول بالضروري من الرزق بل بالحاجي من الرزق وأكرمهم الله بمنزل فاره وأكرمهم الله بالأمن حولهم وفيما يحيط بهم هل لهم أن يغادروا هذه الأرض لأن خطر حرب من النوع الذي ذكرته لكم قد داهمهم، هل لهم أن يذهبوا فينتجعوا في أقطار الدنيا مزيداً من الرزق، هل لهم أن يخرجوا من هذه الأرض فينتجعوا مكاناً أكثر أمناً وطمأنينة لهم؟ لا يا عباد الله، هذا ما ينهى عنه ربنا في محكم تبيانه وهذا ما حذر منه رسول الله صلى الله عليه وسلم في أكثر من مناسبة. أمني جزء من أمنك وأمنك يا أخي جزء من أمني، نتعاون معاً من أجل إيجاد نسيج الأمن على النحو الذي أمر الله سبحانه وتعالى منه. أسمع وأنظر وإذا بكثير من الناس قد غابوا يميناً وشمالاً، شرقاً وغرباً، لماذا؟ هل أصابهم ضيم؟ لا، هل أصابهم ضرٌّ دخل دورهم؟ لا ولكنهم فضلوا الأمن لأنفسهم، فضلوا أن ينتجعوا مزيداً من ضمانات لحياتهم، أفهكذا يكون تنفيذ قول الله عز وجل:
(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) [الحجرات: 10].
أفهكذا يكون تنفيذ ما شبَّه رسول الله به المسلمين إذا قال: (كالجسد الواحد إن اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)، هذا كله في كفة وكلام رسول الله عن الشام في كفة أخرى عندما قال: (يجتبي إليه - أي إلى الشام - خيرته من عباده، من خرج منها فبسخط الله ومن دخل إليها فبرحمة الله سبحانه وتعالى). ينبغي أن نقول هذا الكلام أيها الإخوة. المضطرون يدخلون تحت قاعدة الضرورات تبيح المحظورات، أما الذين لا يدخلون في دائرة هذه الضرورة فليتقوا الله، فليعودوا إلى دورهم وليتعاونوا مع إخوانهم في درء هذا الخطر ولسوف يدرؤه الله عز وجل. نحن مكلفون قادة وجيشاً وشعباً أن نكون في خندق واحد وأن تكون لخلُقِنَا الإنسانية سدى ولحمة واحدة متصلة وأن يكون أساس ذلك كله الانضباط بأوامر الله والانتهاء عما نهى الله والتوبة نكررها ونعيدها في كل صباح ومساء، هذا ما ينبغي أن تكون عليه حال قادة الأمة وهذا ما ينبغي أن تكون عليه حال جيشنا القائم ولله الحمد على تنفيذ ما ينبغي أن ينفَّذ وإننا لنخجل من الله أن نكون جالسين في بيوتنا ننظر إلى جهود هؤلاء الأبطال ونحن جالسون لا نفعل شيئاً. أسأل الله عز وجل لنا جميعاً ولهم التوفيق والسداد. والله ليس بين أفراد هذا الجيش وبين أن يكونوا في رتبة أصحاب رسول الله إلا أن يرعوا حق الله في أنفسهم وأن يقبلوا إلى الله وهم تائبون وهم ملتزمون بأمر الله جهد استطاعتهم لا أقول أكثر.