مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 05/10/2012

الإخلاص تلك القيمة القرآنية المنسية اليوم

تاريخ الخطبة

‏‏‏الجمعة‏، 19‏ ذو القعدة‏، 1433 الموافق ‏05‏/10‏/2012‏

الإخلاص .. تلك القيمة القرآنية المنسية اليوم

الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك. سبحانك اللهم لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله. خير نبي أرسله. أرسله الله إلى العالم كلِّهِ بشيراً ونذيراً. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين. وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى. أما بعد فيا عباد الله:

كلمة قدسية ذات دلائل محورية في كتاب الله سبحانه وتعالى غدت اليوم منسية وغريبة لاسيما في مجال الناشطين لأعمال الدعوة الإسلامية لاسيما في مجال أولئك الحاملين لهموم إقامة المجتمع والدولة الإسلامية، هذه الكلمة القدسية الهامة في كتاب الله عز وجل هي كلمة الإخلاص التي نقرؤها مكررة في كتاب الله سبحانه وتعالى والتي يبرز لنا بيان الله مدى أهميتها وينبهنا إلى أنها عنوان خفي يضمن قبول الطاعة التي يتقرب بها الإنسان إلى الله وأنها الروح التي تسري في أعمال الإنسان المؤمن فتجعلها تنبض بمعاني القبول وتجعلها تسري بإقامة العلاقة الإنسانية السليمة والسامية بين الناس بعضهم مع بعض، تلك هي الكلمة القدسية التي أعود فأقول: إنها غدت اليوم غريبة بل منسية في كثير من مجتمعاتنا لاسيما تلك التي تنشط لأعمال الدعوة الإسلامية، ولكن ما هو الإخلاص يا عباد الله؟ الإخلاص بكلمة موجزة يعني الصدق مع الله عز وجل، وبعبارة أخرى: الإخلاص لله عز وجل هو أن تبتغي في عملك غاية واحدة لا ثانية لها قط هي بلوغ مرضاة الله عز وجل دون أن تمتزج هذه الغاية بأي غاية تشركها، هذا هو الإخلاص وهذه هي الحقيقة التي إن غابت تحولت أعمالنا كلها إلى أشكال لا مضمون فيها، إلى رموز لا معنى لها، ولعلكم ترون وتلاحظون هذه المغبة أو هذه الآفة لغياب معنى أو حقيقة هذه الكلمة القدسية، ما أكثر المظاهر التي يُفْتَرَض أنها طاعات يتقرب بها إلى الله تتأمل وتنظر فلا تجد لها مضموناً، وما أكثر الطاعات التي يفترض أن مضمونها إنما هو التوجه إلى الله عز وجل لاستنزال رضاه ورحمته وقبوله ولكنك تتأمل فتجد أن مضمون هذه الطاعات إنما هو الرغبة في تحقيق شهوة، الرغبة في تحقيق هوى من الأهواء، الرغبة في التنفيس عن حقد أو ضغينة، الرغبة في تغذية عصبية من العصبيات، تلك هي الطاعة في صورتها وهذا هو مضمونها. أو ربما تجد أن الطاعات التي شرعها الله عز وجل والأوامر التي خاطبنا بها تجد أن يد العبث تعثو بها، تُغَيِّرُ منها وتبدل لحاقاً بالسياسة المطلوبة، لحاقاً بالمصالح الآنية التي يحلم بها أصحابها وهذا ما قد عنيته بالأمس عندما قلت: إن الإسلام في عصر السلف كان هو الحاكم على السياسة أما اليوم فقد غدت السياسة هي الحاكم على الإسلام، يُوَجَّهُ الإسلام اليوم حسبما تقتضيه الرعونات السياسية، كل ذلك يا عباد الله إنما كان من نتيجة مصيبة واحدة هي غياب هذا السر، الإخلاص لوجه الله سبحانه وتعالى، وأقول لكم بهذه المناسبة: لقد دُعِيتُ في حياتي إلى كثير من الندوات والمؤتمرات واستجبت لِجُلِّهَا أو أكثرها ولكني لا أذكر أن المؤتمرين الداعين فكَّرُوا يوماً ما أن يجعلوا من مسألة الإخلاص عنواناً لمؤتمراتهم أو جزءاً من البحوث والتدخلات التي تسري إلى أبحاثهم ولقاءاتهم لا، ذلك لأن هذه الندوات والمؤتمرات إنما يبتغى بها المظهر والشكل والتسابق إلى النتائج والإخلاص شيء خفي، لا فائدة ترجى من عقد مؤتمر يُنْفَقُ عليه وتكون حصيلته البحث في شيء اسمه الإخلاص، هذه حقيقة ينبغي أن نتبينها بل هي تمثل المصيبة الكبرى التي نعاني منها. لو أن الإخلاص لوجه الله عز وجل تم إذاً لما وجدنا أنفسنا وقد أُلْجِئْنَا إلى هذه المحنة التي نعاني منها، لو أن الإخلاص لوجه الله عز وجل تم في لقاءاتنا وعلاقاتنا ومجتمعاتنا وعلاقتنا مع الجوار إذاً لغابت هذه المصيبة قط، ألا ترون أننا نُغْزَى اليوم باسم الجهاد في سبيل الله، ألا ترون أن هذه الكلمة تتكرر على أسماعكم كثيراً، جهادٌ في سبيل الله وحصيلته أن القتل يُسْتَحَر بالمؤمنين بالله، أن القتل يستحر بعباد الله عز وجل البرآء الآمنين، جهاد في سبيل الله وحصاده الدمار والإفساد وقد أمر الله عز وجل بإصلاح الفساد، ترى لماذا نرى مظهر هذا التلاعب بالقيم الإسلامية ومبادئ هذا الدين، أين الاسم من المسمى؟ لماذا؟ لأن الإخلاص غائب ولأن التعامل إنما هو مع العناوين ولأن المبتغى من التعامل مع العناوين أمور دنيوية، تغذية لأحقاد، تغذية لعصبيات، تحقيق لسياسات، هذه هي الحقيقة ولكن أفكان لذلك كله أن يوجد لو أن حقيقة الإخلاص الذي تدل عليه هذه الكلمة القدسية لو وجدت هذه الحقيقة في طوايا القلوب؟! لا يا عباد الله.

والآن تعالوا نتساءل: ما السبيل إلى أن نغرس في كينونتنا ووجودنا نعمة الإخلاص لله عز وجل وقد عرفتم معناها؟ لكي أجيب عن هذا السؤال أذكركم بما قد قلت في تعريفه: الإخلاص هو صدق التعامل مع الله أو هو أن لا تبتغي في طاعاتكم التي تنفذ بها أمر الله عز وجل إلا غاية واحدة ألا وهي استنزال رضوان الله عز وجل لك، إذاً مكان الإخلاص إنما هو القلب، لأن القصد لا يستكن إلا في القلب وإن الصدق لا يوجد إلا في طوايا الفؤاد، ولكن القلب تتسابق إليه نوازع وشرور كثيرة شتى، القلب مطمع للشهوات والأهواء، القلب مطمع للعصبيات والرعونات، القلب مطمع للأحقاد والضغائن كل ذلك يحاول أن يستعمر القلب ويحتل جنباته، فإذا سبقت هذه الأسباب واحتلت زوايا القلب لم يبق فيه مكان للقصد الذي يبتغى به وجه الله، لم يبق في القلب مكان للصدق مع الله عز وجل لأن القلب استُعْمِرَ ومن ثم تتحقق الطاعات مظاهر وأشكالاً ولكن الذي يقودها هذا الذي استَعْمَرَ الفؤاد والقلب، الذي يقودها الأحقاد، الذي يقودها الضغائن، الذي يقودها الشهوات والأهواء، أما كتاب الله الذي ينادي ثم ينادي ويكرر يلفت النظر إلى ضرورة أن نجعل من الإخلاص مضموناً لطاعاتنا، روحاً لعباداتنا فالناس في شعل شاغل عن ذلك

(وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) [البينة: 5].

فاعبد الله ولا تشرك به شيئاً، الباري سبحانه وتعالى ترجم هذا الإخلاص بقوله:

(قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) [الكهف: 110].

الناس في شغل شاغل عن هذا النداء، لو كان الإخلاص موجوداً إذاً لتلاقت الصور مع المضمون ومن ثم لتحقق المطلوب ولتجلى الله سبحانه وتعالى علينا بالرحمة، أعود فأقول: كيف السبيل إلى أن نتحقق بالإخلاص؟ قلت أن المشكلة هي أن الشهوات والأهواء والعصبيات والرعونات تكون في كثير من الأحيان هي السباقة إلى احتلال القلب، فإذا أردت أن تجعل الصدق مع الله جعل له مكاناً في القلب لا تجد، وإذا أردت أن تجعل من قصدك السليم في طاعاتك مكاناً في قلبك لا تجد، ما السبيل؟ السبيل يا عباد الله هو شيء واحد، أن تلجأ إلى وسيلة لا ثاني لها، تطرد بها هذه الآفات التي استعمرت فؤادك، أتعلمون ما هي هذه الوسيلة التي تستطيع بها أن تنقي قلبك من هذه الآفات وأن تطهره لاستقبال مقاصد الإخلاص؟ إنه الحب، محبة الله سبحانه وتعالى، ولكنك ستسأل فمن أين أستطيع أن آتي بمحبة الله عز وجل؟ الوقت يضيق عن إجابة مفصلة ولكني أضعكم أمام ثلاثة أسباب إن تحققنا بها فاضت أفئدتنا حباً لله سبحانه وتعالى، السبب الأول أن نتذكر أن المحسن الأوحد في حياتك يا ابن آدم إنما هو الله، تذكَّر هذه الحقيقة وتفاعل معها دائماً، سائل نفسك من الذي يجعل الأنفاس الصاعدة والهابطة مستمرة على نهجها السليم، سائل نفسك من الذي يطعمك ويسقيك، يجعلك لا تغص باللقمة تضعها في فيك، يجعلك لا تغص بالجرعة من الشراب تضعها في فمك، من ذا الذي ينيمك إذا اضطجعت، من ذا الذي يوقظك إذا انتهت حاجتك إلى الرقاد، من ذا الذي يطهرك من الآفات إذ تدخل الحمام، من الذي سخر لك سماءه وأرضه وأنعامه، من الذي ذلل لك الحيوانات ولولا أنه ذللها لما استطاعت قرية واحدة أن تروض حيواناً من هذه الحيوانات

(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ * وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ) [يس: 71-72]

من الذي أكرمك بفاكهة الشتاء التي تناسب شتاءك؟ من الذي يكرمك بفاكهة الربيع تلك التي تناسب ربيعك؟ من الذي يكرمك بفاكهة الصيف التي تتناسب مع حرارة صيفك اللاهب وتفاعله مع حاجاتك؟ من هذا الذي جعل لك من الأرض رزقاً في ظاهرها ونعمة في باطنها؟ من؟ أليس هو الله، هل من شك وريب في ذلك، سخر لك هذه المكونات كلها لك أنت، والقاعدة تقول أن الإحسان يستعبد الإنسان، ولاشك أنك إن عرفت أن الله سبحانه وتعالى هو المحسن إليك لابد أن تحبه ولابد أن يتجه قلبك بالحب له، لكن فكر وأدم هذا التفكير تجد أن فؤادك قد اتجه بالحب إلى الله.

العامل الثاني: هو حب الإنسان لنفسه، أليس هذا من الأمور البدهية، هل من ريب في أن كلاً منا يحب نفسه ويحاول أن يجمع الوسائل التي تضمن بقاءه آمناً مطمئناً معافى، أليس كذلك؟ فمن هو الذي يحقق لك هذه الأمنية، من الذي يجعلك في مأمنٍ من الرزايا، من الآفات، من هو هذا الذي يبعد الجراثيم التي تفيض بها الدنيا بل تفيض بها الأجواء التي من حولك، من هو هذا الذي أقام في كيانك سراً لا يعلمه لا الأطباء ولا غير الأطباء وإنما يعبرون عنه بلغز لا يستطيعون أن يشرحوه ألا وهو المناعة، من هو الذي غرس في كيانك المناعة؟ أليس هو الله؟ فمن أحب نفسه أحب الله الذي يحمي نفسه من الآفات.

العامل الثالث: أنك تنظر وتتأمل فتعلم يقيناً وأنت مؤمن بالله، أنت مؤمن بوحدانية الله تعلم أن الله يحبك، إن تأملت علمت ذلك، لولا أن الله أحبك ما رزقك معرفته، لولا أن الله أحبك ما شرح صدرك للتوجه إليه بالعبادة، لولا أن الله عز وجل أحبك لما آمنت به إلهاً واحداً فرداً صمداً، لولا أن الله أحبك ما سخر لك سماواته وأرضه، أليس كذلك؟ أرأيت إلى هذا الإله الذي يحبك ألا تبادله حباً بحب؟! كيف يتأتى للإنسان أن يتبين دلائل محبة الله له – وما أكثرها وما أجلَّها - ثم يعرض عن هذا الإله الذي أحبه فلا يبادله حباً بحب؟ لا يتأتى ذلك. وحب الله لنا يا عباد الله أسبق من حبنا له، نعم أسبق من حبنا له، ولقد رووا أن امرأة متعبدة كانت تخدم في منزل، استيقظ صاحب المنزل على صوتها وهي تدعو ربها في السجود في جوف الليل قائلة: اللهم إني أسألك بحبك لي أن تكرمني وأن تغفر لي إلى آخر ما كانت تدعو به، فاستعظم الرجل كلامها هذا وانتظر حتى إذا انتهت من صلاتها قال لها: لا يا ابنتي، قولي أسألك بحب لك، وما أدراك أنه يحبك، قالت له يا سيدي لولا حبه لي ما أيقظني في هذه الساعة، لولا حبه لي ما أوقفني بين يديه، لولا حبه لي ما أنطقني بهذه النجوى، نعم ونحن نقول: اللهم لولا حبك لنا ما جمعتنا في رحابك، لولا حبك لنا ما حببت إلينا الإيمان، ما زينته في قلوبنا، ما كرهت إلينا الكفر والفسوق والعصيان، أفلا نبادل الله عز وجل حباً بحب يا عباد الله، هذا هو العلاج الثالث. وسائل ثلاث إذا تعاملنا معها استطعنا أن نطرد بهذا الحب وأن نكنس كل ما قد احتل قلبنا من الأهواء والشهوات والعصبيات والرعونات ونحو ذلك، وإذا القلب نقي طاهر وإذا القلب وعاء طاهر لأقدس حب ألا وهو حب الله سبحانه وتعالى، وإذا أحببت الله بعد أن أحبك فأنا أهنئك وأبشرك بأنني وأنت مغفور لنا وأن الله عز وجل لن يحاسبنا بل سيجعلنا داخلين في شفاعة حبه لنا وحبنا له. يقول الإمام الغزالي: إن رجلاً من الصالحين رأى امرأة تدهش بالبكاء قائلة: والله لقد سئمت هذه الحياة ولو أني رأيت من يبيعني الموت لاشتريته شوقاً إلى الله عز وجل، قال لها الرجل: أفموقنة أنت بأن لك عملاً صالحاً تلقين به الله، قالت: لا ولكني أحبه أفرأيت أنه يعذبني وأنا أحبه؟ لا. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم فاستغفروه يغفر لكم.



تشغيل

صوتي
مشاهدة