
العلّامة الشهيد محمد سعيد رمضان البوطي


تذكرة من أمير المؤمنين عمر للجيش السوري
تاريخ الخطبة
الجمعة، 13 ذو القعدة، 1433 الموافق 28/09/2012
تذكرة من أمير المؤمنين عمر إلى جيشنا السوري
الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك. سبحانك اللهم لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله. خير نبي أرسله. أرسله الله إلى العالم كلِّهِ بشيراً ونذيراً. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين. وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى. أما بعد فيا عباد الله:
إليكم هذا البيان الوارد إليكم من الله سبحانه وتعالى من خلال قرآنه القديم الجديد، الجديد الذي لا تتقادم جدته، والقديم الذي لا ينسخ قدمه، بيان يخاطب الله سبحانه وتعالى عباده به في كل عصر في كل زمان ومكان، يخاطبهم بما يمر بهم من أحداث ويعالج ما قد يعانونه من مشكلات، تلك هي ظاهرة من ظواهر إعجاز كتاب الله سبحانه وتعالى، اسمعوا هذا البيان الإلهي المتجه إليكم بآذان قلوبكم، يقول الله عز وجل:
(هَـذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ * وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ) [آل عمران: 138 - 141]
هل وعيتم يا عباد الله هذا البيان الجديد القديم المتجه إلينا جميعاً ؟ إنه يتضمن ثلاث حقائق، يتضمن البشارة ويتضمن الشرط ويتضمن التحذير:
أما البشارة فهي قول الله سبحانه وتعالى:
(وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ)
هل من ريب في هذه البشارة الباهرة بدلالتها القاطعة بما تتحمله من المعنى ؟!
وأما الشرط فهو قوله سبحانه وتعالى:
(إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ)
وهو شرط تكرر مرتين أو اكثر في هذا البيان.
وأما التحذير فهو قوله سبحانه وتعالى:
(وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ)
فتعالوا نتدبر هذه النقاط الثلاث التي يتضمنها بيان الله المنزل إليكم، البشارة حقيقة لا ريب فيها والأيام القادمات ستؤكد ما ينبغي أن نعلمه وأن لا نرتاب فيه منذ الآن، ولكن فلنعلم جميعاً أن البشارة منوطة بشرطها وهذه حقيقة لا ينبغي أن تغيب عنا، لا البشارة ينبغي أن تنسينا فرحتها الشرط ولا الشرط وصعوبته ينبغي أن ينسينا أحد منها نعمة البشارة، هنا أمران اثنان، البشارة حقيقة آتية ولكن الشرط لا بد منه (إن كنتم مؤمنين) كثيرون هم الذين يتصورون أن الإيمان كلمة تدور على اللسان، فإذا نطق بها الإنسان قائلاً آمنت بالله فقد أحرز الشرط وتحقق في كيانه المطلوب، لا يا عباد الله الإيمان أدق من ذلك، بل أقول أصعب من ذلك، الإيمان شجرة باسقة وقد ضرب الله عز وجل المثل للإيمان بها، أما جذورها فمكانها القلب متمثلةً في ذل العبودية لله، متمثلةً في صدق الالتجاء والتضرع إلى الله، متمثلةً في اليقين بأن لا نافع ولا ضار في الكون إلا الله، تلك هي جذور شجرة الإيمان، وأما جذعها الصاعد الذي تتفرع منه الأغصان من شتى جهاته فذلك هو السلوك الإيماني المتمثل في الانقياد لأوامر الله والابتعاد عن نواهيه، ومن ثم فإن ثمرة هذه الشجرة هي البشارة التي وعدنا الله عز وجل بها قائلاً (وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ)، فليتلمس كل واحد منا مكان جذور الإيمان في طوايا قلبه فإن رأى هذه النعمة مهيمنة عليه فليحمد الله وليغذي إيمانه بالمزيد من ذكر الله والالتزام بأوامره، وإن وجد نفسه تائهاً بعيداً ورأى أن حظه من الإيمان إنما يتمثل في تكرير هذه الكلمة فليصطلح مع الله من جديد وليحاول أن يستولد نفسه في كون الله عز وجل من جديد مبايعاً متجهاً تائباً إلى الله عز وجل.
وأما التحذير المتمثل في قول الله عز وجل: (وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) ولقد كرر البيان الإلهي هذا التحذير في هذا البيان، ما علاقة هذه البشارة بل ما علاقة هذه المصيبة التي يعالجها بيان الله عز وجل لنا بالتحذير من الظلم؟
عباد الله ينبغي أن تعلموا أن آفة الفتنة أياً كانت أنها تفتح أبواب الفوضى في المجتمع الذي تتسرب إليه، وإذا وجدت الفوضى فإن أصحاب الثأر يرون أن قد حان لهم أن يشفوا غليلهم الراقد فيما مضى بين جوانحهم، الفسقة الفجرة الطامعون بحقوق الآخرين يرون أن الفرصة قد سنحت لهم وأن الفرصة قد تهيأت للانقضاض على حقوق الآخرين، وأصحاب الرعونات المنحطة يلتفتون عندما تدلهم الفتن فيجدون أن الرقباء لم يعودوا ينظرون إليهم بل لم يعودوا يفرغون للنظر في شؤونهم ومن ثم فإنهم ينقضون إلى أحلامهم التي كانوا في ظمأٍ شديد إليها، من أجل هذا يبشرنا الله عز وجل ببشارة النصر والعلو والغلبة ولكنه في الوقت ذاته يحذرنا من الآفة يحذرنا من هذه الآفة المدلهمة التي ينبغي أن نقاومها بالقدر الذي نقاوم الفتنة ذاتها، من أجل هذا يقول الله عز وجل في هذا الصدد ذاته: (وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ)، والظلم كما قال المصطفى ظلمات إذا غاب الظلم هيمنت العدالة واستقرت الأمور وساد السلم وإذا ساد الظلم غابت العدالة وتحول واقع الأمة إلى أنكاث.
دعوني يا عباد الله أختصر الكلام وأوجز الحديث وأكثفه في هذه الوصية الباقية بل التي أكاد أقول عنها خالدة التي أوصى بها أمير المؤمنين عمر بن الخطاب سعد بن أبي وقاص يوم أرسله قائداً في جيش القادسية ودّعه إلى خارج المدينة وخاطبه بهذه الوصية، اسمعوها هي أيضاً بآذان قلوبكم وتأملوا فيها فما أحرانا نحن في هذا المنعطف الذي نمر به أن نصغي إليها وأن ننفذ كل بند من بنودها، قال له:
"يا سعد ابن أم سعد لا يغرنك من الله أن يقال عنك خال رسول الله وصاحب رسول الله، فإن الله لا يمحو السيء بالسيء ولكنه يمحو السيء بالحسن، الناس في دين الله سواء هم عباد لله سبحانه وتعالى وإنما يتفاضلون عنده جل جلاله في العاقبة، وإنما يدركون ما عنده بالطاعة، انظر إلى الأمر الذي رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلزمه فالزمه آمرك والأجناد الذين معك بتقوى الله على كل حال فإن تقوى الله خير عدّة على العدو -أجل تقوى الله خير عدة على العدو- وإنه أقوى مكيدة في الحرب -أجل إنه أقوى مكيدة في الحرب- آمرك ومن معك أن تكونوا أشدَّ احتراساً منكم من عدوكم فإن ذنوب الجيش أخوف عليكم من العدو، وإنما ينصر الله المسلمين بمعاصي عدوهم لله سبحانه وتعالى، عددنا ليس كعددهم وعدتنا ليست كعدتهم، فإن تساوينا معهم في المعصية كانوا أفضل منا في القوة، واعلموا أن عليكم حفظةً من عند الله يسيرون معكم يعلمون ما تفعلون فاستحيوا منهم، لا تنابزوا نعمة الله سبحانه وتعالى بالعصيان، لا تسيروا في سبيل الله سبحانه وتعالى بعمل المعاصي، ولا تقولوا إن عدونا شرّ منا فلن يسلط علينا فرب قوم سلّط الله عليهم من هو شرٌّ منهم كما سلّط على بني إسرائيل عندما عملوا بمعاصي الله بختنصر وقومه فجاثوا خلال الديار وكان وعداً مفعولاً، سلوا الله العون على أنفسكم كما تسألونه النصر على عدوكم، سلوا الله العون على أنفسكم كما تسألونه النصر على عدوكم وأنا أسأل الله لي ولكم ذلك كله والله المستعان".
عباد الله سأدعكم مع أصداء هذه الكلمات فلسوف يكون في الصمت الآتي على أعقابها خير موعظة تسري إلى القلوب الصادقة في إيمانها بالله الصادقة في تحرقها على الصلاح الذي أمر الله عز وجل به، أقول قولي هذا واستغفر الله.
الحمد لله حمداً كثيراً كما أمر، وأشهد أن لا إله إلا الله إقراراً بربوبيته وإرغاماً لمن جحد به وكفر، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله خير نبي أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيراً ونذيراً، أما بعد
فيا عباد الله لا بد أن أتوجه بالتحية باسمي وباسم أمتنا جمعاء إلى الثلة التي عادت عوداً حميداً إلى مواقعها في جيشنا العزيز الذي أسأل الله له التوفيق لا بد أن أحيي في هذه الثلة العود الحميد إلى مواقعهم التي تنتظرهم لا بل التي كانت ولا تزال تتشوق إليهم، وإني لأحيي فيهم المشاعر النابضة بمعاني الإيمان بالله عز وجل والاعتزاز بالعبودية لله عز وجل والاعتزاز بالانتماء إلى هذه الأرض والعود إلى معاهدة الله سبحانه وتعالى بالذود عنه والذود عن قيم والمبادئ الراسخة التي شرفنا الله عز وجل بحمايتها، أحيي في هذه الثلة هذا العود الحميد وأحيي في هذه الثلة الكلمة التي ألقاها واحد منهم بأسمائهم جميعاً، نبضات مفعمة بكل ما كنت انتظره من معاني الإيمان بالله والاعتزاز بدين الله سبحانه وتعالى والانضواء إلى الأرض المباركة التي شرفنا الله بالمقام فيها وأقام علينا ضريبة الدفاع عنها، وإني لأهيب بإخوانهم أن يعودوا جميعاً والعود أحمد، مواقعهم تنتظرهم مواقعهم متشوقة إليهم، حرام ثم حرام وحرام أن نخسر هذه القوى وأن يربحها العدو المشترك، أن يربحها العدو المتربص بديارنا وبحقوقنا.
وإنني لأقول بهذه المناسبة كما أن بلدنا هذا يسير في طريق الإصلاح على كل المستويات فإن من أهم المستويات التي يسري فيها وإليها الإصلاح الجيش الذي ينبغي أن نعتز به دائماً ولا أكتمكم بل لا أفشي سراً إن قلت لسوف تشهد الأيام القادمة أن هذا الجيش قد ظهرت هويته الإيمانية بشكل أجلى، هويته الإيمانية بالله، هوية الاصطلاح مع الله، هوية الانضباط بالجهاد الذي أمره الله عز وجل به لسوف تتألق عما قريب أكثر مما هي ظاهرة اليوم.
وفي لقاء مشهود قبل عام تقريباً أعلن ممثل أكبر سلطة في هذه الدولة أن كل فرد في هذا الجيش لا أقول يجوز بل ينبغي أن يؤدي واجباته تجاه الله سبحانه وتعالى أياً كانت، وما ينبغي أن يجد عنتاً أو يجد مقاومةً في طريقه إلى القيام بهذا الواجب، ولئن كنتم تسمعون بين الحين والآخر أو ترون في بعض المواقع ما يذكر بأخطاء حصلت فيما مضى في الجيش فاعلموا أن هذا إنما هو سعي للاصطياد بالماء العكر، بل إنما هو سعي لتعكير الماء الصافي للاصطياد فيه، إنما هو سعي من أناس ينفخون في رماد الفتنة الطائفية أملاً أن يعود هذا الرماد ناراً، ينفخون بين الحين والآخر في هذا الرماد متأملين أن الرماد قد يعود إلى نار ملتهبة لكن الرماد لن يعود إلى نار، وأنا لا أقول الفتنة نائمة بل أقول الفتنة ميتة ولا أقول لعن الله من أيقظها بل أقول لعن الله من حاول إحياءها ودمر الله سبحانه وتعالى من حاول إحياءها.