مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 24/08/2012

في كل محنة منحة

تاريخ الخطبة


‏‏‏الجمعة‏، 06‏ شوال‏، 1433 الموافق ‏24‏/08‏/2012‏

في كل محنة منحة

الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك. سبحانك اللهم لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله. خير نبي أرسله. أرسله الله إلى العالم كلِّهِ بشيراً ونذيراً. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين. وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى. أما بعد فيا عباد الله:

لعل من الخير أن أعيد الحديث الذي ذكرته لكم صباح العيد بالأمس في هذا المكان وذلك لسببين اثنين، أولهما الأهمية، ثانياً لأن الذين سمعوا هذا الحديث على أهميته آنذاك قلة من الناس. قلت: إننا دعونا الله سبحانه وتعالى وتضرعنا إليه خلال شهر رمضان المعظم ثم خلال الأيام الأخيرة منه أن يكرمنا الله عز وجل بالقبول وأن يكرمنا بهدية هذا الشهر، بل بهديتي الشهر والعيد معاً، ونحن لا نفتأ ندعو الله سبحانه وتعالى ولا نحصر دعاءنا لا في ميقات ولا في موسم ولكن في الناس من قد يتصور أن هذه الهدية التي ننتظرها في خواتيم شهر رمضان المبارك إنما هي جزاء نستحقه على عمل طُلِبَ منا فقمنا به، هذا التصور تصور خاطئ يا عباد الله، ليس بيننا وبين الله عقد كالذي يتم بين الناس بعضهم مع بعض، هذا يستأجر فلاناً وذاك يتعاقد معه أجيراً على عمل، ثم إن الأجير يستحق الأجرة والمستأجر ينقده إياها، هذا يتم بين الناس، عقدٌ ذو طرفين أما بيننا وبين الله سبحانه وتعالى فهذا لا يتم، والأجر الذي ينص عليه بيان الله عز وجل في مثل قوله: (وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) [آل عمران: 185] إنما هو بموجب عقد من طرف واحد ألا وهو الله سبحانه وتعالى، فقد تفضل الله عز وجل علينا إذ أمرنا بما أمرنا به من طاعات وعبادات، هو الموفق لنا إليها وهو الميسر لتنفيذها ثم إنه جل جلاله أعلن أننا نستحق على ذلك أجراً وأنه يعطينا الأجر على ذلك إن كان صياماً، إن كان صلاة أو أي شيء آخر، ذلك عقد جرى من طرف واحد بتفضل منه وهو الله عز وجل، أما نحن فنحن عبيد مملوكون لله سبحانه وتعالى، لم يجر بيننا وبينه عقد أن يطلب منا عملاً فنعلن قبولنا لذلك العمل ونطالب على ذلك أجراً ثم يتم ذلك عقداً بيننا وبينه معاذ الله. هذه النقطة ينبغي أن نتبينها يا عباد الله سبحانه وتعالى. أما الدعاء الذي نبتهل به إلى عز وجل قائلين اللهم أكرمنا بهدية هذا الشهر المبارك بل أكرمنا بهدية هذا العيد الذي يأتي على أعقابه فهذا الدعاء ليس طلباً لحقٍّ أصبحنا نستحقه من الله عز وجل، هذا الدعاء ليس تذكيراً منا بحق أصبحنا مالكين له فنحن نلاحق مولانا وخالقنا به والعياذ بالله، إذاً ما الدعاء؟ الدعاء في حياة الإنسان تعبير عن عبودية الإنسان لله سبحانه وتعالى، نحن عبيد مملوكون لله عز وجل من نواصينا إلى فرق أقدامنا، مملوكون لله والمملوك لا يملك شيئاً، دعاؤنا الواجف لله عز وجل هو إعلان عن هذه العبودية، إعلان عن عجزنا بين يدي الله سبحانه وتعالى، إعلان عن مملوكيتنا لله سبحانه وتعالى، أعطى أو لم يعط، حرم أو أكرم، نظل ندعو الله سبحانه وتعالى بقطع النظر عن كل شيء، ندعوه لأننا بذلك نقدم هويتنا لله سبحانه وتعالى عباداً مملوكين له، والإنسان يا عباد الله عاجزٌ في كل الأحوال في السراء وفي الضراء، عندما يبتلى الإنسان بالضراء كالحالة التي نمر بها اليوم لابد أن نطرق باب الله عز وجل ونعلن عن حاجتنا إلى أن يكشف عنا هذه الضراء، فإذا انجابت الضراء وأقبلت بعدها السراء نعماً في الأبدان، في البلدة، في تقلباتنا نحن بظل إلى حاجة إلى أن نسأل الله عز وجل أن يديم علينا نعمة السراء، هل يستطيع الإنسان أن يدفع عنه الضراء بدون عون من الله؟ لا، هل يستطيع الإنسان أن يبقي نعمة السراء بدون عون من الله سبحانه وتعالى؟ لا يا عباد الله. إذا تبين هذا فلنعلم أننا إذ نسأل الله سبحانه وتعالى أن يكرمنا بالأجر على عمل عملناه وأن يكرمنا بالمثوبة على طاعة وُفِّقْنا إليها فلنعلم أن المثوبة ليست على طاعتنا، ولنعلم أن المثوبة ليست على جهودنا، وهل لنا جهود من غير توفيق من الله؟ هل لنا من قربات نؤديها بدون توفيق من الله سبحانه وتعالى؟ الأجر الذي يَرِدُنا إنما هو تفضل من الله، والمثوبة التي تردنا لا نستحقها وإنما هي تفضل من الله، وصدق رسول الله القائل في الحديث الصحيح: (لن يدخل أحدكم الجنة عمله) قالوا ولا أنت يا رسول الله، قال: (ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته). أرأيتم إلى منطق العبودية، هذا الذي أقوله لكم يا عباد الله يقتضي منا إذ ندعو الله عز وجل أن نظل راضين، إن أعطى أو لم يعط، إن أكرم أو حرم، هذا منطق العبودية فلا يقولن قائل: لقد دعوت الله فلم يُسْتَجَبْ دعائي، أين هو منطق عقد الاستئجار بيننا وبين الله؟ لا، لا يقولن أحد ذلك، أنا عبد لله أدعوه أن يكشف عني الضراء، أدعوه أن يكشف عني الضيم، فإن فعل شكرته، وإن لم يفعل صبرت، وهذا ينبغي أن يفعله من كان عبداً لله عز وجل، بل أقول شيئاً آخر: ينبغي بالإضافة إلى الصبر أن أعلن عن الرضا عما قد قضى الله عز وجل، نعم، أياً كانت المحنة التي قد ترد إليَّ من الله - وأسأل الله العافية لي ولكم - ينبغي أن أعلم أن هذه المحنة تستبطن منحة من الله، إنها نعمة لكنها مقنعة ومن ثم ينبغي لا أن أقابلها بالصبر فقط بل يجب أن أقابلها بالرضا أيضاً. ولعل فينا من يقول: أما الصبر فربما كان أمره يسيراً ولكن من أين آتي بالرضا؟ عندما أجد هذه المحنة التي تجتاحنا كيف أستطيع أن أضيف إلى الصبر الرضا عن المصيبة التي تفد إلينا؟ سبيل ذلك يا عباد الله هو الحب، وإنني أقولها لكم حقيقة: هما أمران اثنان لابد منهما، جناحان لا يصعد الإنسان إلى رضا الله إلا بهما معاً، العبودية والحب لله سبحانه وتعالى، فعندما يفيض القلب حباً لله عز وجل لا يمكن أن تجد شيئاً مما يفد إليك من عند الله سبحانه وتعالى اسمه عذاب، لا يمكن أن تجد شيئاً مما يفد إليك من عند الله سبحانه وتعالى اسمه بلاء، كلما يفد من المحبوب محبوب عباد الله، ولكنكم لابد أن تقولوا فكيف السبيل إلى أن تفيض أفئدتنا حباً لله عز وجل؟ والله الذي لا إله إلا هو إنه لسبيل معبد وإنه لسبيل قصير ويسير ولكن الأمر يحتاج إلى أن يستيقظ الإنسان إلى حقيقة ما بينه وبين الله. يا أخي الإنسان: عافيتك التي تتمتع بها من أين تفد إليك لحظة فلحظة، سمعك الذي تتمتع به من أين تفد إليك نعمته لحظة فلحظة، عيناك اللتان بهما تبصر من أين تفد إليك نعمة كل منهما، عقلك الذي به تدرك، عندما تتمدد على فراشك في المساء لترقد من ذا الذي يكرمك بنعمة الرقاد، وإذا أخذت قسطك من الرقاد من ذا الذي يعيد إليك صحوك ويقظتك مرة أخرى، من ذا الذي يجعلك إذا وضعت اللقمة في فمك تزدردها بسهولة ولا تمضغ لسانك مع قطعة اللحم التي في فمك من هو؟ أليس هو الله؟ إذا علمت ذلك فهل يمكن أن تعشق كائناً غير الله سبحانه وتعالى؟ هل يمكن أن يكون في قلبك محبوب غير الله سبحانه وتعالى؟ يا هذا إذا كان هنالك إنساناً لم تره ما من محنة تقع فيها إلا وينجيك منها على البعد بوسائله المختلفة، يدفع عنك الفقر، يدفع عنك العاهات، يدفع عنك الأخطار وأنت لم تره، أنت في تلك الحالة لابد أن يفيض قلبك تعظيماً لهذا الإنسان وحباً له، وإنك لتنتظر سوانح الأوقات لكي تحج إليه فتراه وتكتحل عيناك برؤيته وهذا إنسان مثلك فكيف بالله سبحانه وتعالى (وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ) [النحل: 53] أليس الأمر كذلك؟ إذا تبين هذا فلنذكر هذه الحقيقة ولا نحجب أنفسنا عنها بالنسيان عندئذٍ ستجد أن قلبك التهب بمحبة الله، ولقد جُبِلَت النفوس على حب من أحسن إليها، فإذا أحببت الله فإنك ستستيقن أنه لن يأتيك من عند الله إلا الخير ولكن إما أن يكون خيراً ظاهراً وإما أن يكون خيراً مقنعاً، وأنت تعلم أن كل هذا الذي يأتيك من عند الله خير لأنك تعلم أن الله عز وجل ما ابتلاك مرة في حياتك إلا بخير ظاهر أو بخير باطن، هذه السموات العلا، هذه الأرض وما عليها وما فيها كل ذلك مسخرات لك، هذه الأنعام مذللة لك (وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ) [يس: 72] نعم، عندئذٍ ستتمتع بكلا الصفتين الصبر والرضا، على أن الإنسان ينبغي أن يدعو لأن الدعاء ليس وسيلة إلى غاية، إنما هي غاية بحد ذاتها، على الرغم من أنك تستقبل كل ما يفد إليك من عند الله من المحن والابتلاءات بالصبر والرضا معاً ولكن في الوقت ذاته تدعو الله لأنه أمرك أن تدعوه، وها نحن ندعوه مرة أخرى، ندعوه أن يرفع عنا الضيم وأن يرفع عنا البلاء، ندعوه أن يقلب محننا منحاً، ولكنه ربنا له العتبى حتى يرضى، هذه هي الحقيقة التي ينبغي أن ندركها. أعود فأقول يا عباد الله لن نرقى إلى مرضاة الله إلا بجناحين اثنين أولهما ذلك العبودية والمسكنة لله ثانيهما الحب لله سبحانه وتعالى، هذه الحقيقة ينبغي أن نتبينها، أما هذه المحنة التي نمر بها فانطلاقاً من الكلام الذي ذكرته لكم أقول: إنها محنة في الظاهر والله إنها لمنحة في الباطن، هي نعمة ولكنها باطنة كما قال الله عز وجل: (وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً) [لقمان: 20]. ومن معاني هذه النعمة داخل هذه المحنة أن الله يوقظنا إلى أن نسير مرة أخرى على صراطه، إلى أن نتوب ونؤوب، يوقظ الشاردين إلى أن نعود إلى صراطه، يوقظ الفسقة والفاجرين إلى أن يتوبوا إليه، يقول لهم: عودوا والعود أحمد، هذا معنى من معنى المنح في هذا الابتلاء الذي نمر به، ولذلك فأنا أقول في خاتمة حديثي هذا متجهاً إلى قادتنا قائلاً يقول لكم الله: (إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ) [محمد: 7] وأتجه إلى رجال جيشنا الأبطال أقول لهم يقول لكم الله: (إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ)، وأتجه إلى رجال الأعمال الذين يتقلبون في نعم الدرهم والدينار (إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) وأتجه إلى الموظفين في دوائرهم والعاملين في معاملهم والمزارعين في حقولهم والفلاحين في أراضيهم أقول لهم جميعاً يقول لكم الله: (إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.



تشغيل

صوتي
مشاهدة