مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 06/07/2012

وَمَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ

تاريخ الخطبة


‏‏‏الجمعة‏، 17‏ شعبان‏، 1433 الموافق ‏06‏/07‏/2012‏

(وَمَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ)

الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك. سبحانك اللهم لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله. خير نبي أرسله. أرسله الله إلى العالم كلِّهِ بشيراً ونذيراً. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين. وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى. أما بعد فيا عباد الله:

آيةٌ في كتاب الله سبحانه وتعالى تدخل وخزاتٍ أليمةً من العتاب الرباني إلى قلب الإنسان لو كان هذا الإنسان يتمتع من الدينونة لله عز وجل بمثل ما تتمتع به الحيتان في البحار والحيوانات في الأدغال والنباتات في الحدائق والمروج، هذه الآية هي آية سجدة يسن السجود عن تلاوتها ولكننا سنقرؤها ونترخص ألا نسجد في هذا المقام عند تلاوتها، يقول الله عز وجل:

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ) [الحج: 18].

أرأيتم إلى هذا البيان الإلهي العجيب، قرار يدلي به الله عز وجل، وصدق الله فيما قرر، أن كل المكونات التي أقامها الله عز وجل مسخرة خادمة لسيدها وهو الإنسان، ماضية في السجود لربها، ماضية في التسبيح لمولاها، ماضية في الخضوع لأوامرها، أما الإنسان ففيهم المستجيب وفيهم المعرض، فيهم من أصغى إلى بيان الله وعاهد الله أن يلتزم بأمره وفيهم من أعرض، أليس هذا عجيباً يا عباد الله؟! ألا يدخل هذا الكلام الذي سمعتموه وخزات أليمة فعلاً من العتب الرباني سبحانه وتعالى إلى فؤاد الإنسان لكن لو كان الإنسان فعلاً يتمتع بمثل ما تتمتع به الحيوانات والمكوَّنات الأخرى من الدينونة لله عز وجل. يا ابن آدم أقامك الله سيداً بين مكوَّناته، كرَّمَك الله عز وجل، أورثك ما لم يورِثْه أياً من المكوَّنات الأخرى، العقل الهادي والقلب النابض بالعواطف وكان المفروض أن تكون في مقدمة المنقادين لأمر الله، وكان المفروض أن تكون في مقدمة المستجيبين لقرار الله سبحانه وتعالى، فلماذا يكون الأمر على هذا النحو؟ قبل أن أجيبكم عن هذا السؤال أيها الإخوة لابد أن أجيب عن سؤال قد يخطر في بال المرتابين في قدرة الله عز وجل وسلطانه ونظام ملكه وملكوته، يقول: النباتات تسجد لله؟ الجمادات تسبح بحمد الله؟ الحيوانات تسبح بحمد الله؟ كيف يتأتى ذلك؟ ولقد أجاب الله عز وجل عن هذا التساؤل المعترض إجابة ملخصة سريعة لكنها علمية وقوية إذ قال:

(وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) [الإسراء:44]

مشكلتكم الجهل، لا تفقهون السبل الخاصة بالمكونات الأخرى والتي بها يسبح كل منها ربه وبها يسجد لمولاه ويعكف على تنفيذ أوامره، وما كان الجهل يوماً ما حجة يعتمد عليها مجادل، كثيرون هم الذين يجعلون من جهالتهم حجة لدحض ما يسمعون وما يقال لهم، هذا هو الجواب باختصار، ولكني أشرح في هذا الموقف بالقدر الذي يسمح به المقام هذا الذي يقوله بيان الله سبحانه وتعالى. إن كانت أداة السجود لله في حياة الإنسان العقل الواعي والإدراك الذي متعه به والروح السارية في كيانه فإن الله عز وجل قد أورث المكوَّنات الأخرى وسائل أخرى بها تسبح الله وبها تسجد لذاته وبها تخضع لسلطانه. أذكر أني أنبأتكم منذ حين بأن على مقربة من غرفة نومي في المكان الذي أسكن فيه شجرة عظيمة، ما من صباح إلا وتجتمع في هذه الشجرة الطيور والعصافير المتنوعة وتبدأ بترنيمة جماعية وأوراد لا تفتأ تقوم بوردها في ذلك إلى أن تطلع الشمس، فإذا طلعت الشمس تفرقت هذه الطيور كلٌّ إلى شأنها، ذكرت ذلك لكم، ولعلكم تعلمون أن المصطفى r كان يخطب يوم الجمعة مستنداً إلى جذع في مسجده ثم أقيم له المنبر فأقصي ذلك الجذع إلى مكان بعيد في إحدى زوايا المسجد، ولما كان رسول الله r يخطب أول جمعة على المنبر الذي نصب له سمع كل من في المسجد أزيزاً ينبعث من ذلك الجذع وصفه الصحابة بأنه يشبه الناقة العشراء، الصوت الذي ينبعث من الناقة العشراء التي على وشك الولادة مما اضطر المصطفى r أن ينزل ويقطع خطبته فيستلم ذلك الجذع ويعتنقه إلى أن صمت، نعم

(وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) [الإسراء:44].

تأملوا في الذرة بل في جزيئات الذرة التي لا تراها إلا بالمجهر المكبر المكبر ماذا تجد؟ تجد نظاماً قائماً لا يتخلف لا تشوبه شائبة، نترونات وإلكترونات تدور وتتحرك ضمن نظام لا يتخلف قط وفي ضمن ذلك ما يسمى الوسيط الساكن منذ أن خلق الله عز وجل المكوَّنات وهذه الوظيفة قائمة بها، أليس هذا تسبيحاً؟ أليس هذا تنفيذاً لقرار الله عز وجل وأمره؟ والشمس والقمر ودوران الأرض والجبال والأشجار انظر، كل ذلك عاكف على تسبيح الله عز وجل

(كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ) [النور: 41].

فلا يرتابنَّ أيٌّ منكم أيها الإخوة في هذا الذي يقوله الله سبحانه وتعالى، ولكن تعالوا إلى الجواب عن السؤال الآخر، فما بال الإنسان وهو المكرم على عين الله عز وجل

(وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ) [الإسراء: 70]

ما بال الإنسان وهو الذي يتمتع من دون سائر الحيوانات بعقل وإدراك، ما بال الإنسان وهو الكائن الذي سخر الله له كل ما حوله من أجرام علوية وسفلية، أجرام السموات والأرض، ما باله أعرض عن الله عز وجل حتى رأيناه يقول عن الإنسان

(وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ) [الحج: 18].

إنه الاستكبار يا عباد الله وليس الجهل، لما متع اللهُ الإنسانَ بالعقل وهو ينبوع العلم ومتعه الله عز وجل بالشعور بالذات الأنا وهو ينبوع الاستكبار وكل ذلك تعبير عن الأمانة التي استودعها الله عز وجل لديه، وهو السبب في أن الملائكة قالوا لله:

(أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء) [البقرة: 30].

لما كان الإنسان يتمتع بهذه النعمة كان من آفاتها إعراض الكثيرين منهم عن الله عز وجل. العلم يطغي إلا إن أخضعه صاحبه لمعرفة الله عز وجل، والأنانية تطغي، تقود صاحبها إلى الاستكبار إلا إن كان كثير الذكر لله، كثير الوقوف أمام مرآة الذات، هذا هو السبب يا عباد الله. ومن هنا فليس هنالك من يحيق به غضب الله عز وجل من ذلك الذي نسي كينونته عبداً مملوكاً لله عز وجل وأسكرته النعمة التي أضفاها الله عز وجل عليه، أسكره العلم، أسكرته القدرة، أسكرته هذه المزايا، وإذا بأحدهم يقول: إنه حتى الله لا يستطيع أن ينال مني منالاً أو أن يفعل نقيض ما قد قررته، ألا تسمعون من يهذي بمثل هذا الكلام؟ ومن ثم فإنك تسمع من يقول: إن سبب تخلف المسلمين أنهم أحالوا أمر القضاء والقدر إلى الله ولو أنهم علموا أنهم هم الذين يقودون أقدارهم وهم الذين يقودون القضاء كما يحبون لانعتقوا من هذا التخلف.

نعم يا عباد الله، أذكر أحدهم وكان ذا مرتبة عالية كتب كلاماً من هذا القبيل في جريدة سيارة، أن الإنسان عندما يعلم أنه هو سيد قدره عندئذٍ يتخلص من التخلف، فماذا كانت عاقبته؟ كان هذا ممن أحبهم الله، بينما هو يمارس عمله الوظيفي وكان كامل الصحة والعافية، وكان وجهه يتضرج عافية وقوة وحمرة دليل القوة والصحة إذا به يقع أرضاً أمام الناس جميعاً وقد زايله الشعور، أُخِذَ إلى المشفى وبقي فيه عدة أسابيع، رأيته بعد ذلك ذاوي الوجه، نحيل الجسم وقد عاد إلى نصف الوزن الذي كان يتمتع به، ثم إنه غاب عني ورأيته بعد حين وقد تماثل للشفاء، سألته: كيف حالك؟ هنا تأملوا في الجواب يا عباد الله، قال: قد مَنَّ الله عز وجل عليَّ فجبر الخاطر مني وأكرمني بالتوبة وذهبت معتمراً إلى بيت الله الحرام وتبرأت من الأوهام التي طافت برأسي، نظرت وتأملت في الصفحة الأولى من حياته وشأنه وفي الصفحة الثانية التي آل إليها أمره عبداً عائداً إلى الله سبحانه وتعالى.

عباد الله: الإنسان الذي يقول: أنا أملك قضاء نفسي يسخر منه العقل الذي برأسه، والإنسان الذي يقول: إنه حتى الله لا يستطيع أن ينال مني منالاً أو أن يفعل نقيض ما أريد تكذبه كل خلية في كيانه وجسمه، أقول له من على هذا المكان: تعال فصد عنك المشيب وعقابيله، إنه قضاء من قضاء الله، تعال فصد عن ذاتك الخرف إذ يغزو رأسك ودماغك، تعال فصد عن كيانك إذ امتد بك العمر النسيان بعد الذكرى والجهل بعد العلم، من أنت؟ أنت ذرة في عالم الله سبحانه وتعالى، أنت هباءة في ملكوت الله سبحانه وتعالى، واسمعوا قصة من تألَّه وجعل من نفسه إلهاً من دون الله، إنه نمرود الذي نطقت محكمته بإحراق سيدنا إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، كان يستعرض في يوم من الأيام قوته بل قواه وعساكره وجنده، ولما رأى القوة أعجبته بل أذهلته طافت برأسه سكرة الاستكبار ونطق بما نطق به من الهذيان متألهاً ثم إنه عاد إلى قصره وامتد في وقت الرقاد على فراشه وما هي إلى بعوضه اتجهت إليه ولم تخطئ أنفه، ثم إنها صعدت إلى خياشيمه ثم استقرت في دماغه وناله من ذلك مرض، لم يكن يخفف عنه مرضه إلا أن يضرب رأسه بكل ما تناله يده، وكان أعز الناس إليه هو ذاك الذي يمسك بيده أي شيء فيضرب رأسه ذات اليمين وذات الشمال وهكذا ظل هذا المتأله حتى قضى نحبه، كيف قضى نحبه؟ ببعوضة، وصدق الله القائل:

(إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ) [الحج: 73]

هذه الحقيقة أيها الإخوة ينبغي أن نتمثلها وينبغي أن نتبينها، نحن عبيدٌ مملوكون لله عز وجل وعزتنا إنما تكمن في معرفة ذلك عبوديتنا لله عز وجل، ما ينبغي أن تكون الحيوانات والنباتات الجمادات المسخرة للإنسان أقرب إلى مرضاة الله سبحانه وتعالى من الإنسان

(كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ) [النور: 41].

ليت أن الإنسان استأهل هذا القرار الذي شهد الله عز وجل به للمكوَّنات التي من حولنا، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم فاستغفروه.

أما بعد فيا عباد الله: إن سورية برئيسها وبقادتها وبجيشها وبحكومتها وبشعبها دولة تدين بالعبودية لله عز وجل، تدين بذل العبودية لله عز وجل، يؤمن أفرادها جميعاً بالله عز وجل وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر. ألا فاعلموا أن كل من يستعلن في الأوساط العامة بشعار من شعارات الكفر أو كلمة من كلماته، يحرك بها لسانه أو يخطها كتابة على معلمة أو جدار ليس مواطناً شريفاً في هذه الدولة ولكنه جرثومة تسري في كيانها لتفتك به ولتبعث في كيانه الموت والدمار، ولعلكم تعلمون أن بلاغاً صدر من أعلى سلطة في هذه البلدة أن كل من يتم القبض عليه متلبساً بترويج شعار من شعارات الكفر بالله عز وجل بكلام يردده في الأوساط أو بعبارات يرددها على الجدران لابد أن يعاقب بأقصى العقوبات، هذا بلاغ صدر ولسوف تجدون مصداق ذلك. أقول مع هذا وبعد هذا: إن كل من يريد أن يشكك في هوية أمتنا التي أقامها الله عز وجل فوق هذه الأرض المباركة، كل من يريد أن يشكك في إيمانها، في اعتزازها بذلك عبوديتها لله لاشك أنه هو المتورط في الكفر بالله وهو المتورط في البعد عن أوامر الله سبحانه وتعالى، ليست العبرة بالشعارات البراقة التي تقال، ما أكثر ما تختبئ تحت هذه الشعارات عفونة الكفر، عفونة الابتعاد عن أوامر الله سبحانه وتعالى، وليس الصمت الذي يبتعد صاحبه عن النفاق والمجاملة التي لا معنى لها دليلاً على أن هذه الأمة لا تعتنق دين الله سبحانه وتعالى ولا تظل معتنقة ذل عبوديتها لله عز وجل، هذه حقيقة ينبغي أن نتبينها أيها الإخوة، ونحن كنا ولا نزال بمهمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كلما وجدنا أن الفرصة لذلك سانحة وكلما وجدنا أن المكان هو مكان للمعروف الذي تنوسي أو للمنكر الذي قد ارتكب.



تشغيل

صوتي
مشاهدة