مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 22/06/2012

فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ

تاريخ الخطبة


‏‏‏الجمعة‏، 03‏ شعبان‏، 1433 الموافق ‏22‏/06‏/2012‏

(فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ)

الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك. سبحانك اللهم لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله. خير نبي أرسله. أرسله الله إلى العالم كلِّهِ بشيراً ونذيراً. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين. وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى. أما بعد فيا عباد الله:

أرأيتم إلى سفينة عملاقة تمخر بركابها الكثيرين المتنوعين عباب بحر هائج متلاطم الأمواج مما يجعلها تميد آناً ذات اليمن وآناً ذات الشمال مما يجعل مقدمتها تتنكس آناً لتغيب في مياه البحر وترتفع آناً آخر لتدنو إلى الوضع العمودي بكل من فيها، وهكذا تنقطع آمال الجميع عن أسباب الحياة والنجاة وتتقطع عنهم السبل الكونية والمادية كلها ويدنو منهم شبح الموت المخيف المرعب، عندئذٍ تستيقظ مشاعر الفطرة الإيمانية بين جوانح كل منهم أياً كانت العقائد التي كانوا يعتنقونها، وعندئذٍ يتجه الجميع إلى إلههم الذي تذكروه بعد نسيان وعندئذٍ يتعاملون مع حقيقة عبوديتهم لله سبحانه وتعالى بعد طول إهمال، هذه حقيقة نعرفها، وصدق الله القائل:

(وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ) [الإسراء: 67].

أيها الناس، يا عباد الله: تلك هي حالنا اليوم، تلك هي حالنا التي نمر بها اليوم. أما السفينة فهي هذه الأرض المقدسة التي أقامنا الله عز وجل عليها، وأما الأمواج المتلاطمة عن يمين وشمال فإنما هي الفتن التي تُصَدَّرُ إلينا أسبابها من كل حدب وصوب دون أن نرتكب جريمة اقترفناها ودون أن نرتكب موبقة اقتطفناها، وأما الانقطاع عن الآمال، وأما السبل التي تقطعت بنا عن الأسباب المادية المختلفة التي كنا نمارسها فتتمثل في إخوة لنا كنا نحسب أنهم يمارسون الأخوة في سبيل الله عز وجل بيننا وبينهم ويمارسون في سبيل ذلك الإصلاح ولكنا نظرنا فوجدنا أنهم يمارسون بدلاً من هذه الأخوة في سبيل الله العداوة والبغضاء في سبيل الشيطان، ورأيناهم بدلاً من أن ينفذوا أمر الله القائل: (وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ) [الأنفال: 1] رأيناهم يؤثرون أن يفسدوا بدلاً من أن يصلحوا، وأن يرسلوا صواعق الإفساد ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، ونظرنا إلى جيرانٍ لنا حسبنا أنهم أو كبيرهم سمع ووعى قول رسول الله r: (مازال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه) والحديث متفق عليه، ونظرنا وإذا بهؤلاء الجيران لا يفتؤون يرسلون إلينا أسباب الدمار وأسباب الهلاك دون أي جريمة كما قلت لكم اقترفناها، دون أي موبقة ارتكبناها، وننظر إلى العالم البعيد البعيد وإذا بالجميع يكيدون لنا، وإذا بالجميع يرسلون سهام عداوتهم من قوسٍ واحدة، وهكذا فأنا نجد السبل المادية التي يمكن أن نتمسك بواحد منها، ها هي ذي السبل كلها تقطعت، وها هي ذي الأسباب المادية كلها تحولت إلى بلاء وإلى نكال ضدنا بدلاً من أن تكون عوناً لنا. إذاً فها نحن ننظر يميناً وشمالاً، ننظر إلى كل حدب وصوب وإذا بالكون كله قد تحول إلى عدو، وإذا بالأسباب المادية العلمية المتنوعة التي كنا نستأنس بها ونعتمد عليها قد انمحت وزالت. من هو الصاحب الذي بقي لنا؟ إنه واحد لا ثاني له يا أيها الناس، إنه الصاحب الذي لا يتركنا سواء أقبلنا إليه أو أعرضنا عنه، إنه صاحبنا الذي سنرحل عن هذه الحياة الدنيا ونخوض غمار الإقبال على الآخرة وهو يظل معنا، إنه الله سبحانه وتعالى، إنه الإله الذي يقول لنا لاسيما في مثل هذه الحال:

(فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ) [الذاريات: 50].

يقول لنا:

(بَلِ اللّهُ مَوْلاَكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ) [آل عمران: 150].

يقول لنا:

(وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ) [العنكبوت: 22].

يقول لنا:

(إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ) [الأنفال: 9].

يقول لنا:

(فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَـكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ) [الأنعام: 43].

هذا هو الصاحب الذي بقي لنا في هذه الحالة المدلهمة التي قضاها الله سبحانه وتعالى لنا ولا أقول علينا. ولكن الله عز وجل وهو صاحبنا في كل حال يريد منا أن نعلن الطلب الذي نحتاج إليه، يريد منا صاحبنا هذا – مولانا وخالقنا – أن نعلن عن احتياجنا إليه كما كنا نعلن عن احتياجنا إلى عباده، كما كنا نُهْرَع إلى الأسباب التي جندها الله عز وجل كما شاء، ينتظر الله عز وجل منا أن نلتفت إليه فنعلن عن طلب حاجتنا، ينتظر الله عز وجل منا أن نلجأ إليه فهل فعلنا؟ هل وقفنا أذلاء على بابه؟ هل مددنا يد الحاجة إلى بابه؟ هل أقبلنا إليه قائلين: ها نحن نجدد العهد معك، ها نحن نعود تائبين إليك، ها نحن مقرون بذل عبوديتنا لك وبإعراضنا الذي تطاول أمده عنك؟ لا يا أيها الإخوة، على الرغم من أن السبل كلها قد سُدَّتْ وأن الوسائل كلها قد تقطعت مما بيننا وبين ما نأمله وننتظره ولم يبق أمامنا إلا مسبب الأسباب، لم يبق أمامنا إلا ذاك الذي قلوب العباد بين إصبعيه يقلبها كما يشاء فلماذا لا نقبل إليه؟ ألم يقل: (فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ) لماذا لا نفر إليه؟ وما معنى (فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ) التجئوا إليه، فروا من المصائب التي تلاحقكم فروا من الفتن التي تحيط بكم، فروا منها إليَّ ولسوف تجدون مني خير ملاذ. أين هم الذين يفرون إلى الله.

ألم يقل (بَلِ اللّهُ مَوْلاَكُمْ) لا غيره (وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ).

أين هم الذين قالوا بملء أفواههم بعد أن أيقنوا بذلك بملء قلوبهم أنت مولانا يا رب لا مولى لنا سواك، أين؟ أين؟

أيها الناس، يا عباد الله مسافة ما بيننا وبين الفرج خطوة واحدة، إنها تتمثل في صدق الالتفات إلى الله، إنها تتمثل في صدق الرجوع إلى الله، في صدق التوبة إلى الله سبحانه وتعالى. ما الفرق بين حالنا التي أصفها وبين هؤلاء الذين أبحروا فاهتاج البحر عن يمينهم وشمالهم واهتاجت الأمواج عن يمين وشمال وعرفوا أن الأمل بالحياة قد انقطع وأن أسباب الخلاص والنجاة قد غابت ماذا يكون حالهم لو كانوا ملاحدة، لو كانوا فلاسفة، لو كانوا موابذة، لو كانوا فسقة؟ الكل يقبلون إلى الله آنذاك، ينشدون نشيداً واحداً بلغة واحدة، نعم. أقول ما الفرق بين أولئك الذين أبحروا فطافت بهم عادية الموت وبيننا نحن الذين أبحرنا داخل هذه الفتن التي وصفتها لكم ووصفت مبعثها إليكم؟ لماذا لا نعود إلى الله كما يعود أولئك؟ أولئك الذين يقول الله عنهم:

(وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ) [الإسراء: 67].

ها نحن قد أحيط بنا، ها هي الدنيا كلها قد أعلنت عن عداوتها لنا دون أن نرتكب موبقة، وبقي لنا صاحب، هذا الصاحب هو من يملكنا، هذا الصاحب هو من سيؤول إليه أمرنا، هذا الصاحب هو الذي وسعت رحمته السموات والأرض والدنيا والآخرة، ولكن هذا الإله ينتظر منا أن نطلب، أن نستغيث وكأنه يقول: أنا الموجود فاطلبني تجدني لكن إن رمت السواء فلن تجدني.

أقولها لنفسي ولكم يا عباد الله قادةً وشعباً على كل المستويات، على كل الفئات: آن لنا أن نصطلح مع ربنا، آن لنا أن نجدد التوبة بين يديه، آن لنا أن نستجيب لقوله:

(أَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) [البقرة: 40].

هل وفينا بعهد؟ لا، تأملوا وتصوروا، يقول الله عز وجل:

(إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ) [الأنفال: 45].

يقولها للجنود، يقولها للذين يقفون على الثغور، يقولها لأولئك الذين يواجهون الأعداء، يقول: إذا لقيتم فئة من الأعداء فاثبتوا واستعينوا على الثبات بالذكر، بذكري.

وذكرك لله أو ذكرهم لله يكون بالتوبة أولاً وبالاصطباغ بذل العبودية ثانياً وبالانضباط بأوامر الله جهد الاستطاعة ثالثاً.

(أَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي) [طه: 14].

لكي تظل ذاكراً لي، لكي تظل العلاقة بيني وبينك عامرة.

يا عباد الله: آن لنا أن نلتفت إلى الله، ليس من فرق بيننا اليوم وبين أولئك الذين أبحروا فرأوا الموت قد أحاط بهم ورأوا أسباب الهلاك قد نُسِجَتْ كلها لتأخذ منهم بالخناق فصاحوا مقتنعين بنشيد واحد: اللهم أنت ربنا، ها نحن قد عدنا إليك، ها نحن تائبون إليك، ها نحن نعاهدك على أن ننفذ الأوامر وننتهي عن النواهي، هلا فعلنا مثل ما يفعل أولئك؟

أقولها ثانية: مسافة ما بيننا وبين الفرج والله الذي لا إله إلا هو خطوة واحدة، هذه الخطوة هي لفتة إلى الله، لفتة صادقة إلى الله على كل المستويات، نتوب إليه، نعود إليه، نعم، نقف على بابه، نستجدي الفرج من جنابه، نفذوا وانظروا، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.



تشغيل

صوتي
مشاهدة