مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 18/05/2012

نصيحة بين يدي شهر رجب

تاريخ الخطبة


‏‏‏الجمعة‏، 27‏ جمادى الثانية‏، 1433 الموافق ‏18‏/05‏/2012‏

نصيحة بين يدي شهر رجب

الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك. سبحانك اللهم لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله. خير نبي أرسله. أرسله الله إلى العالم كلِّهِ بشيراً ونذيراً. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين. وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى. أما بعد فيا عباد الله:

إن الإسلام لا يتحقق وجوده فعالاً راسخاً إلا إذا انطلق أوله من جذعٍ راسخٍ يستقر في طوايا القلب وانتهى آخره إلا سلوكات مما شرع الله عز وجل وأمر به وحراسة للمبادئ والقيم، وتلك سنة من سنن الله سبحانه وتعالى في كونه. ما من حقيقة تستطع ظاهرة للأعين راسخة ثابتة إلا ولها جذور باطنة خفية. الجبل الأشم الذي يقاوم الرياح العاتية والزعازع والزلازل ما الذي يجعله راسخاً بهذا الشكل المتغلب؟ إن الذي يجعله راسخاً إنما هو هذا القدر الذي نراه على ظاهر الأرض إذ يكون مبثوثاً بشكل مخروطي في داخل الأرض، فذلك الجزء الخفي من الجبل هو الذي يبعث فيما نراه من مظاهر الجبال الاستقرار والثبات. والشجرة المعطاءة الوارفة الظلال ما الذي يجعلها تتنامى وتعطي ثمارها الشهية؟ إن الذي يجعلها كذلك إنما هو الجذور إذ تتشابك في تربة الأرض وتسري في أغواره. والبناء الباسق العظيم الذي يزدحم بسكانه في الأعلى وفي الأوسط والأدنى ما الذي يجعلهم يستقرون فيه آمنين مطمئنين؟ إن الأساس الخفي الراسخ الذي يبعث في ذلك البناء القوة وسر الثبات، أجل تلك هي سنة من سنن رب العالمين سبحانه وتعالى، ما من ظاهر تراه العين إلا وله باطن يحمله، والظاهر محمول وليس حاملاً، أقول هذا بين يدي ما أريد أن أقوله لكل واحد منكم بل ما ينبغي أن أقوله لنفسي، من كان يريد أن يتبين مدى رسوخ الإسلام في كيانه الظاهري فليعد إلى الباطن وليعد إلى طوايا قلبه وليبحث عن جذور ذلك الإسلام الذي يتبدى ظاهراً من السلوك والأعمال العضوية فإن وجد هذه الجذور راسخة في طوايا القلب فليحمد الله عز وجل على أن إسلامه حقيقة، مظهر وروح، شكل ومضمون، أما إن عاد فبحث عن جذور هذا الإسلام في طوايا قلبه ولم يجد في فؤاده إلا التعلق بالأهواء والشهوات، إلا الرعونات، إلا العصبيات، إلا حظوظ النفس والهوى فليعلم أنه ليس من الإسلام الذي أمر الله عز وجل به في شيء، إن إسلامه أشبه ما يكون بشجرة أثبتت على ظاهر من الأرض دون أن يكون لجذورها نصيب من باطنها، ماذا تنتظر بهذه الشجرة التي أثبتت شكلاً على ظاهر الأرض إلا أن تسفيها الرياح ذات اليمين أو ذات الشمال، كذلكم الإسلام. ولاشك أن فينا من قد يسأل أيها الإخوة ما هو الباطن الذي ينبغي أن نضمنه لإسلامنا الظاهري؟ كيف يمكن أن نحصل على جذور خفية تستقر في بواطن أفئدتنا لتبعث في إسلامنا الظاهري حقيقته وروحه وفاعليته؟ الجواب عن هذا أيها الإخوة – وينبغي أن أختصر القول جهد الاستطاعة – إن السبيل إلى حصول هذا الباطن يتمثل في خطوتين اثنتين، أن يعرف المسلم ربه فالمسلم الذي لم يعرف بعد ربه ليس مسلماً حقيقة، لمن هو مسلم؟ المسلم الذي لا يعرف ربه هو مسلم في الحقيقة لأهوائه، لرعوناته، لملاذه، إذاً الخطوة الأولى أن يعرف المسلم ربه، يعرفه بصفاته، يعرفه بأسمائه الحسنى، يعرفه بنعمه التي تتوالى إليه، يعرفه برسائل الحب التي لا تنقطع سلسلتها عنه، يعرفه بذلك، فإذا عرفه وتبينه انقدحت له من هذه المعرفة مشاعر الحب لهذا الإله جل جلاله، ولقد قلت بالأمس كلاماً أعيد طرفاً منه اليوم، من ربط نعم الله عز وجل بذاته العلية لابد أن يعشق الله سبحانه وتعالى، ذلك لأن الإنسان في كل دقيقة يستقبل نعمة جديدة من عند الله سبحانه وتعالى، فإذا أتيح له أن يكون يقظاً يربط هذه النعم بالمنعم، يربط رسائل الحب بمرسلها كيف تتصور أن يؤول حال هذا الإنسان وإلام سيتحول قلبه؟ لاشك أن المحبة التي فطر اللهُ الإنسانَ عليها لخالقه عز وجل ستستيقظ وسينقدح زنادها يا عباد الله، وأقول لكم شيئاً آخر: إن عوامل الحب في حياة الإنسان لا تزيد على ثلاثة عوامل، أحدها الجمال، وهل في الكون أجمل ممن خلق الجمال؟ ثانيها الإحسان، وهل في الكون من يحسن إليك غيره؟ ثالثها العظمة، وهل ينبهر الإنسان بعظمة مخلوق مع وجود هذا الخالق الذي خلق فأبدع فصور؟ هذه هي عوامل الحب، وكلها مجمتعة بل محصورة في ذات الله سبحانه وتعالى، فإذا ربطت نعم الله عز وجل الوافدة إليك بالمنعم – ولا أريد أن أعدد هذه النعم، وهل يتسع الزمن لتعدادها؟ هل يتسع العمر لبيانها – أجل إن ربطت هذه النعم بالمنعم عشقت الله سبحانه وتعالى، فضلاً عن صور الجمال التي أكرمك الله عز وجل بها، منها ما أكرم عينيك بها، ومنها ما أكرم فمك به، ومنها ما أكرم شمك وأنفك به، ومنها ما أكرم سمعك به، كل ذلك صور من الجمال يمتعك الله سبحانه وتعالى بها، وكلكم يعلم ذلك، فإذا عرفت الله عز وجل إذاً بصفاته ولطفه ونعمه التي تفد إليك لابد أن تحبه، وإذا أحببته طردت محبتك له محبة الأغيار كلها، طردت محبتك للخالق سبحانه وتعالى محبة الدرهم والدينار، محبة الدنيا بكل ما فيها، محبة الذات، محبة العصبية والأهواء، نعم ويصبح عندئذٍ قلبك وعاءً قدسياً لحب واحد لا ثاني له ألا وهو حبك لله سبحانه وتعالى، عندئذٍ يسري سر هذا الجذع الذي هيمن على قلبك إلى السلوكات الظاهرة في كيانك، عندئذٍ يكون انقيادك لأمر الله عز وجل انقياداً في الظاهر والباطن، ولكأنك تقول ما قاله موسى الكليم

(وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى) [طه: 84].

عندئذٍ يكون انقيادك لأوامره، حراستك للقيم وللمبادئ، كل ذلك منبعثاً من حرقة في فؤادك، من شوقٍ إلى مولاك وخالقك سبحانه وتعالى، هذا هو الجواب عن هذا السؤال يا عباد الله. وإذا كان هذا الكلام واضحاً فما أحوج إخوة لنا من بعيد أو قريب أن يتبينوه. وأنا عندما أقول ما أحوج إخوة لنا والله يعلم أن هذا الشعور الذي أعبر عنه بهذه الكلمة لا ينبثق إلا من إشفاق، لا ينبثق إلا من تحنان، هؤلاء الإخوة الذين حُجِبُوا عن محبوبهم الحقيقي، هؤلاء الإخوة الذين هيمنت الدنيا على أفئدتهم أشكالاً وألواناً، من عصبية، من استكبار، من تعشق للمال، من حقد وضغينة يهتاجان في الفؤاد، مرض أسأل الله سبحانه وتعالى أن يعافيني ويعافيكم ويعافي هؤلاء الإخوة من ذلك، هذا الداء هو الذي يجعلهم يمعنون في القتل، هو الذي يجعلهم يمعنون بسفك الدماء، دماء من؟ برآء آمنين، كم وكم فكرت وفكر غيري ترى ما الفائدة التي يعود بها هؤلاء الإخوة إذ يرون أن الثكل قد داهم نساءً ما كُنَّ ثاكلات، كُنَّ سعيدات في بيوتهم مع أزواجهن وأهلهن، ماذا استفادوا عندما جعلوا اليتم يفَاجّئ به أطفال صغار كانوا آمنين في حجور آبائهم وأماتهم وإذا بهم ينظرون ليجدوا أنفسهم يتقلبون في بيداء موحشة من اليتم لا حد لها. أنا أسأل بم رجع هؤلاء الإخوة؟ ما الربح الذي رجعوا به؟ إن كانت هنالك فائدة رجعوا بها تتسامى وتعلو على هذا الأسى الذي تسببوه لأناسٍ برآء آمنين فلعل المنطق بشكل ما يدافع عنهم، ولكن أعود فأسأل ما الربح المالي الذي عادوا به من وراء هذا الأمر؟ قيل لي إنها مخدرات أخذوها فهيجت أعصابهم وجعلتهم يشمئزون من الحياة وجعلتهم يعشقون الدم ورؤيته والقتل ومظاهره، قلت: لا، الإنسان إنسان ولا يمكن أن تُمْسَخَ إنسانية الإنسان بهذا الشكل العجيب له. إذاً السؤال وارد، وأنا أقول: إن هؤلاء الإخوة مؤمنون بالله وإن لم يكونوا كذلك فبوسعهم أن يقولوا لسنا من الله ومن دينه في شيء، لكننا لا نقول هذا، نقول إنهم مؤمنون بالله، كيف إذاً يمزقون حرمات الله، يقول لهم مولاهم وخالقهم:

(وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً) [النساء: 93].

كيف يمكن أن أكون مؤمناً بالله وأتحمل هذا التهديد وهذا الوعيد وهذا الغضب الذي يترائى من خلال ألفاظ هذه الآية؟ هذا شيء، شيءٌ آخر، شهر رجب يطل وعما قريب سيهل، وشهر رجب واحد من الأشهر الحرم التي حرم الله سبحانه وتعالى في آيات متعددة ابتداء القتل فيها ولو كان بحق، ولكن من قوتل له أن يدافع عن ذلك

(إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ) [التوبة: 36].

أي لا يقتلن الواحد منكم أخاه فإن قتله لأخيه بمثابة قتله لنفسه وإنما ظلم نفسه بذلك.

ذكر الباري سبحانه وتعالى:

(يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ) [البقرة: 217].

أي من أكبر الكبائر أن يقتل إنسان إنساناً بحق أو بدون حق، أن يبدأ قتالاً بهذا الشهر

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ اللّهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ) [المائدة: 2].

الآيات كثيرة. أقول من منطلق الشفقة لهؤلاء الإخوة الذين غُرِّرَ بهم: ها أنتم تورطتم ولكن الفرصة لا تزال سانحة، وشهر رجب يطل وبعد ثلاثة أيام أو أقل سيهل، ما موقفكم؟ ألسوف تظلون تحادون الله عز وجل، ألسوف تستخفون بأمر الله عز وجل؟ ما أعتقد، ألسوف تظلون تستهترون بهذا التحذير الرباني وفي سبيل ماذا استهترتم؟ ما الفائدة التي عدتم بها؟ لا يا أيها الإخوة، اصطلحوا مع الله مع افتتاح هذا الشهر المبارك أول الأشهر الحرم، عودوا إلى الله، اصطلحوا مع الله، إن كنتم تبحثون عن رزق فابتغوا عند الله الرزق وأنا الكفيل بأن الله سيرزقكم مع الإسعاد بدلاً من أن يرزقكم فتختنقوا بذلك الرزق. إن كنتم تريدون المتعة فلسوف يكرمكم بالمتعة المباحة المشروعة من سبلها التي تسعدكم في العاجلة والآجلة، نعم، أما أولئك الأباعد الذين ينفخون في نيران هذه المقتلة غير عابئين لا بالأشهر الحرم، غير عابئين بالبرآء، غير عابئين بالدماء الزكية البريئة التي تراق أقول لهؤلاء: اصطلحوا مع الله وأعتقد أن بينكم وبين الله ربما لا أقول خيطاً بل إن بينكم وبين الله خيوطاً تستطيعون أن تتمسكوا بها فتعودوا إلى صلح فعالٍ حقيقي مع الله سبحانه وتعالى، ما لكم ولأناس برآء، لماذا ترسلون إليهم نيران القتل؟ لماذا تنفخون وأنتم في دياركم البعيدة أو القريبة تنفخون في نيران الفتنة عن طريق المال الذي ترسلونه، عن طريق الأسلحة التي تحشدون؟ لماذا؟ ما الفائدة التي ستعودون بها؟ أما إن كان هذا الكلام لا يسري إلى أفئدتكم فأنا أحذركم أيها الإخوة أحذركم من سهام الأسحار، سهام الأسحار لا تخطئ، سهام الأسحار مسمومة، سهام الأسحار تتعالى من أفواه الباكيات المحزونات المظلومات الثكلى، سهام الأسحار تتعالى من أفواه اليتامى صغاراً وكباراً، سهام الأسحار – افتحوا آذانكم جيداً – ستسمعون في ساعات السحر كيف تتعالى الصيحات إلى الله، صيحات المظلومين، صيحات المنكوبين.

أيها الإخوة خذوها كلمة فيها كثير من العبرة: إنكم لا تستطيعون أن تنطحوا بهذا الذي تفعلون جدران نظام ولكنكم إنما تفعلون بهذا الذي تفعلون هدر الدماء الزكية، قتل البرآء، قتل الأطفال، قتل الأمهات، ما أبعد هذا عن ذاك.

أسأل الله سبحانه وتعالى أن يكرمنا عوداً صادقاً إلى دينه القويم. اللهم اشهد أني ما أقول هذا إلا من منطلق الشفقة على عبادك التائهين والمستقيمين، لا أقول هذا إلا من منطلق الرحمة بهم وهكذا ربيتني يا مولاي، هكذا نشأتني، أقول هذا من منطلق الرحمة، فيا ذا الجلال والإكرام اهدنا واهدهم إلى سواء صراطك المستقيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.



تشغيل

صوتي
مشاهدة