مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 11/05/2012

الإنسان أعتى حيوان لولا لجام الدين

تاريخ الخطبة


‏‏‏الجمعة‏، 20‏ جمادى الثانية‏، 1433 الموافق ‏11‏/05‏/2012‏

الإنسان أعتى حيوان لولا لجام الدين

الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك. سبحانك اللهم لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله. خير نبي أرسله. أرسله الله إلى العالم كلِّهِ بشيراً ونذيراً. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين. وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى. أما بعد فيا عباد الله:

لم تجمع الأسرة الإنسانية على شيء قديماً وحديثاً كما أجمعت على أن الأخلاق الإنسانية الفاضلة هي الضمانة الكبرى الوحيدة لسعادة المجتمع الإنساني، ولكن ما هي الأخلاق الإنسانية الفاضلة؟ لعل أيسر وأبسط تعريف لها يا عباد الله أن نقول: إنها جنوح الإنسان إلى الإيثار بدلاً من الأثرة والأنانية، جنوح الإنسان إلى العدل مع الآخرين بدلاً من أن ينحط في الظلم معهم، هو أن يجنح إلى الرحمة بالآخرين بدلاً من أن يجنح إلى القسوة والغلظة في التعامل معهم، هو أن يجنح إلى التعاون مع الآخرين بدلاً من أن يركب رأسه في المنابذة والخصام مع الآخرين، هذه الصفات ببساطة هي التي تسمى الأخلاق الإنسانية المثلى أو الأخلاق الإنسانية الفاضلة. ولقد تساءل العلماء – علماء الأخلاق وعلماء المجتمع – قديماً وحديثاً عن المصدر الذي يمكن أن تنبثق منه هذه الأخلاق الإنسانية المثلى فلم يتبين لهم إلا مصدر واحد لا ثاني له ألا وهو الدينونة لله سبحانه وتعالى بعد معرفته والخضوع الصادق لسلطانه. هذا هو المصدر الوحيد الذي تنبثق منه الأخلاق الإنسانية الفاضلة المثلى. ولابد من أن أوضح لكم يا عباد الله حقيقة لابد من رفع اللثام عنها بهذه المناسبة وهي أن أشرس مخلوق يمشي على الأرض إنما هو الإنسان، وذلك للصفات التي ركبها الله عز وجل فيه والتي سماها الأمانة، كصفات حب التملك والأثرة كصفة القدرة، كصفة الأنانية، كصفة العلم، كصفة تسخير كثير من الظواهر الكونية للإنسان، هذه الصفات هي مصدر شراسة الإنسان، وهي تلك التي قال عنها الله عز وجل:

(إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً) [الأحزاب: 72].

ومن ثم فليس هنالك شيء يلجم كيان الإنسان إلا الدين، إلا الانضباط الحقيقي بتعاليم الله سبحانه وتعالى، إلا هيمنة الرهبة والتعظيم لله سبحانه وتعالى على كيان الإنسان. وإننا لنظلم الحيوانات التي نتحدث عنها بالسباع الضارية عندما نجعل منها أمثلة نضرب بها للفظاظة والغلظة والظلم والقتل والسفك، إننا نظلم هذه السباع. الصفات التي بها تفترس السباع إنما هي صفات غريزية قانونية أقامها الله عز وجل في هذه الحيوانات لإبقائها، لكي تستطيع أن تبقي على حياتها من خلال هذه الصفات، ولذلك فإن السبع الضاري إذا شعر بالشبع بعد الجوع أغمض عينيه وركن إلى الراحة وأعرض عن كل ما حوله، أما الإنسان فإن جاع أو شبع، إن افتقر أو استغنى، إن قوي أو ضعف لا تزايله الشراسة، لا يزايله العتو للسبب الذي ذكرته لكم، وإنما يقلم أظفار عتوه شيء واحد؛ هو الدينونة لله سبحانه وتعالى والخضوع لسلطان الله عز وجل. وإذا استشرى في الإنسان هذا المعنى الذي أقوله لكم، إذا استشرت في كيان الإنسان شراسته وانحطت به شراسته إلى الدون وإلى أحط درجات الشراسة والعتو فإنه سرعان ما يتخذ من لجام الدين نفسه سلاحاً يستعين به لمزيد من الشراسة والعتو، هذه حقائق علمية يا عباد الله أضعها بين أيديكم.

وما قصة التكفير الكيفي الذي تم الحكم به في أقبية الظلام إلا أداة لتحويل الإسلام إلى منجل لحصد الرقاب، إلا أداة لتحويل الإسلام إلى متعة تزدهي بها الأعين وتنتشي بها الأبصار إذ ترى أنهار الدماء تتدفق متعرجة بلونها الأحمر القاني بين عشرات الأشلاء ذات اليمين وذات الشمال، نعم. إن هذا التكفير الكيفي الذي لا عهد للإسلام به والذي تم الحكم به في أقبية الظلام إنما أريد من ذلك تحويل الإسلام – كما قلت لكم – إلى منجل لحصد الرقاب الآمنة البريئة.

ألا فاسألوا أولئك الناس الذي مُسِخُوا ولا مسخ القردة والخنازير الذي أنبأنا عنه بيان الله عز وجل، سلوا هؤلاء الذين مُسِخُوا من أي مصدر حاقد على الله وحاقد على إسلام الله وحاقد على رسول الله ابتدعوا إسلامهم الذي جعلوه أعتى سلاح لتدمير الإنسان لا لشيء إلا لإشباع الغريزة التي حدثتكم عنها، غريزة العتو التي يتمتع بها الإنسان دون أن يكون في ذلك له شبيه في عالم الحيوانات المفترسة قط، سلوهم من أي مصدر من المصادر الحاقدة على الله والحاقدة على رسول الله r قضوا قضاءهم المبرم بأن تدور رحى الموت على الناس الذين شرفهم الله عز وجل بالمقام فوق هذه الأرض المباركة، أولئك الذين شهد لهم رسول الله بالخيرية، ألم يقل رسول الله في الصحيح لذلك الذي سأله – وهو عبد الله بن حوالة – إلى أي جهة تنصحني أن أذهب إذا ادلهمت الفتن، قال: (عليك بالشام فإنها خيرة الله من أرضه يجتبي إليها خيرته من عباده).

من أي مصدر حاقد على الله وعلى إسلامه قتل هؤلاء الذين شهد لهم رسول الله r بأنهم خيرة الله من عباده لا لشيء إلا لأن الله شرفهم بالسكنى في بلاد الشام، فكيف وهم مؤمنون، كيف وهم مسلمون، كيف وهم قانتون، كيف وإن الواحد منهم ظل يلفظ كلمة التوحيد حتى فاضت روحه مع هذه الكلمة؟! ألا فاسألوا هؤلاء الناس كيف يكون إسلاماً ذاك الذي يخاصم رسول الله – أجل يخاصم رسول الله – إذ يقول: (من خرج من أمتي على أمتي يضرب برها وفاجرها ولا يتحاشى مؤمنها ولا يفي بذي عهدها فليس مني)، ألا فاسألوهم كيف يكون إسلاماً ذاك الذي يسفه قرار رسول الله r القاضي بألا يُعَامَل الناس في الدنيا إلا على ما يظهر منهم وأن تحال بواطنهم إلى محكمة الله التي ستنعقد غداً إذا قام الناس لرب العالمين، ألا فاسألوهم كيف يكون إسلاماً ذاك الذي يسفه من خلاله رسول الله r عندما أوتي بعبد الله بن أبي بن سلول وهو أول من كان يُتَّهَمُ بالنفاق، أقبل رسول الله فصلى عليه، لم يكفره، ولو كان هنالك من يستأهل التكفير منذ عهد رسول الله إلى اليوم ممن يعيشون في العالم الإسلامي لكان أول من ينبغي أن يُكَفَّرَ عبدَ الله بن أبي بن سلول ذاك الذي آذى رسول الله في أهله، ذلك الذي آذى رسول r في شخصه، ألا فاسألوهم كيف يكون إسلاماً ذلك الذي يخاصم السلف الصالح المتمثل في التابعين وتابعيهم وبقايا الصحابة الذين كانوا باقين معهم، هذا هو سلفنا، وباتباعهم نعتز وعلى خطاهم نسير، سلوهم كيف يكون إسلاماً ذاك الذي يخاصم هذا السلف، كيف. لقد ظهرت الفرق الإسلامية الجانحة، نعم، الشاذة في بعضٍ من معتقداتها كالجهمية والمرجئة والحشوية والقدرية والمعتزلة والخوارج، هل في السلف الصالح من كفَّرَ فيهم واحداً؟ هل في السلف الصالح من حرَّك لسانه بتكفير خارجي أو جهمي أو مرجئي؟ ألم يُسأل علي بن أبي طالب كرم الله وجهه عن هؤلاء الخوارج الذين يقاتلونه وحكمهم فقال عنهم: إخواننا بغوا علينا، سلوهم يا عباد الله: إن كنتم لا تزالون بخيط ولو كان واهياً مع الله عز وجل يتمثل في الإسلام فأجيبوا عن هذا السؤال.

أعود فأقول: إن تحليل القصة يا عباد الله يتمثل فيما قد قلته لكم، ليس على وجه الأرض حيوان أشرس – في أصل خلقته ونشأته – من الإنسان، وإنما يروضه شيء واحد هو الدينونة لله سبحانه وتعالى، فإن غابت حقيقة الدينونة فإن التجمل بها لا يفيد، وإن اصطناع المظاهر لها لا يغني، وإن بناء المآذن الباسقة لا يرضي الله سبحانه وتعالى، ألا دعوني أسألكم هذا السؤال وليجبني كل واحد منكم عليه بينه وبين نفسه، أفيمكن أن تروا حيواناً من السباع الضارية مهما طالت أنيابه ومهما اخضلت بالدماء مخالبه يقدم فيقتل الفريسة الأولى ثم الثانية ثم الثالثة ثم الرابعة إلى أن يصبح عدد الفرائس خمسة وخمسين فريسة ثم إنه يقبل ذات اليمين وذات الشمال فيجرح هذه ويلطم تلك حتى يبلغ الجرحى الذين ينتشرون عنه يميناً وشمالاً المئات، أفيمكن لحيوان ضارٍ مهما بلغت به الضراوة أن يفعل هذا؟ ولكن في الناس من فعل هذا، لماذا؟ ليشفي غليله وليروي ظمأ حقده من شخص واحد، لكي يروي ظمأ حقده وليشفي غليل غيظه من هذا الشخص أقدم على قتل خمسة وخمسين بريئاً وأقدم على جرح المئات كما تعلمون، سلوه لماذا؟ ليشفي غليل حقده تجاه شخص واحد، لا أقول نظاماً واحداً بل تجاه شخص واحد، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.

وبعد: فقد حدثتكم عن المشكلة وصورت لكم أبعادها وجذورها ولكن ماذا عن الدواء الذي ينبغي أن نقف عليه وأن نأخذ أنفسنا به؟ أيها الإخوة: دعوني أجبكم عن هذا السؤال من منطلق هو الذي أتعامل معه منذ أن أقامني الله في هذا الذي أقامني فيه، من منطلق الحب، من منطلق الغيرة، من منطلق الارتباط بهذه الأرض المقدسة، من منطلق الغيرة على الآخرين، الدواء – وأتوجه به إلى هذه الأمة التي شرفها الله بسكنى هذه البلدة، الشام، وإنما قلب الشام سوريا وإنما قلب هذا القلب دمشق – أتوجه إلى القادة، أتوجه إلى الأمن، أتوجه إلى الجيش، أتوجه إلى الشعب بكل فئاته، أدعو نفسي وأدعوهم جميعاً إلى الاصطلاح مع الله، إلى التوبة إلى الله، إلى الإقلاع عن الذنوب، أولئك يضربون المثل الأعتى بالظلم فلنضرب المثل الأعلى بالرحمة فيما بيننا، أولئك يضربون المثل بالشرود عن صراط الله وإن كانوا يتجملون بأقنعته وألفاظه أما نحن فلنكن صادقين مع الله في الجذور، تعالوا نمتن جذورنا الإسلامية مع الله سبحانه وتعالى. إن نحن فعلنا ذلك فليس بيننا وبين الفرج إلا قاب قوسين، وهذه ضمانة ليست مني وإنما هي من الله:

(أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ) [البقرة: 214].

أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ، أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ، أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ، ولكن أوبوا وتوبوا، أقولها لنفسي وأقولها لسائر إخواني الذين شرفني الله معهم بالمقام فوق هذه الأرض المقدسة.



تشغيل

صوتي
مشاهدة