مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 13/04/2012

مَعين حرية الإنسان عبوديته لله

تاريخ الخطبة


‏‏‏الجمعة‏، 22‏ جمادى الأولى‏، 1433 الموافق ‏13‏/04‏/2012‏

مَعين حرية الإنسان عبوديته لله

الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك. سبحانك اللهم لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله. خير نبي أرسله. أرسله الله إلى العالم كلِّهِ بشيراً ونذيراً. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين. وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى. أما بعد فيا عباد الله:

كما أن الحنطة لا تستحصد سنابل إلا بعد أن تبذر حباً في طوايا التراب وكما أن الثمار لا يتم الحصول عليها إلا بعد أن تبذر شتلاً فشجراً في عالم الحقول والبساتين وكما أن الفرع لا يمكن أن يوجد إلا من أصله وكذلكم الحرية التي متع الله سبحانه وتعالى الإنسان بها لا تتحقق إلا في ينبوع العبودية لله سبحانه وتعالى، لا تتحقق إلا في أصلٍ بينه وبين الحرية منتهى التلازم ألا وهو عبودية الإنسان لله عز وجل. ولعل فينا من يتساءل أهي حقيقة عبودية الإنسان لله حتى نفهم هذا التلازم بين العبودية أصلاً وحرية الإنسان فرعاً لها؟ نعم يا عباد الله، وخير دليل وأخصر دليل على أن الإنسان عبدٌ أياً كان لله عز وجل أن الله عز وجل متعه بنعم شتى متنوعة ومختلفة ولكنه لا يملك استقداماً لها كما أنه لا يملك استبقاءً لها، إنه ينفعل بها ولا يفعل شيئاً منها باختياره، هذا ينطبق على نعمة الفكر، أنت تنفعل بالفكر ولا تفعله، لا تعلم كيف أقبلت إليك هذه النعمة ولا تستطيع أن تستبقيها عندما تودعك، كذلكم نعمة النطق، نعمة السمع، نعمة البصر، نعمة الرقاد، نعمة اليقظة بعد الرقاد، كل ذلك متع يتمتع بها الإنسان منفعلاً بها ولكنه لا يملك أن يكون الفاعل لشيء منها، علام تدل هذه الظاهرة يا عباد الله؟ إنها تدل على أن الإنسان جهاز استقبال فليسأل هذا الإنسان من أين يأتيه الإرسال. أنت مجرد جهاز استقبال، وإذا تأملت وجدت أن الإرسال يأتيك من لدن واحد لا ثاني له ألا وهو الخالق الأوحد سبحانه وتعالى، أليست هذه الظاهر كافية دليلاً على أن العبد الإنسان مصطبغ بحقيقة العبودية لله سبحانه وتعالى؟ إذاً فتعالوا نعود فنقول إن الإنسان لا يملك حريته التي ينبغي أن يعتز بها إلا بعد أن يغرس في طوايا قلبه شجرة العبودية لله عز وجل وإلا بعد أن يصطبغ بهذه العبودية كيانه وتهيمن على شعوره عندئذٍ تثمر هذه الشجرة – شجرة العبودية لله – ثمار العبودية الحقيقية. ومن أراد أن يبحث عن الحرية فليبحث عنها في طوايا عبودية الإنسان لله، إن تاه عن هذا المعين لن يعثر عن هذه الحرية قط. إذا علم الإنسان أنه عبد مملوك لله وإذا تحققت هذه المعرفة يقيناً في عقله ثم هيمنت وجداناً على قلبه وكيانه فإنه يملك حرية حقيقية تامة لا يملكها أحد غيره إلا من اتصف بالصفة التي متعه الله عز وجل بها. الإنسان الذي دان بالعبودية لله، هيمنت العبودية ثقة بالله على كيانه ويقيناً بأنه وحده النافع والضار وبأن منطلقه إلى الحياة منه وأن مرده بعد الحياة إليه لا يمكن أن يهون لطاغية ولا لباغٍ قط، ذلك لأن عبوديته إنما هي لله سبحانه وحده، لا يمكن أن يمارس طغياناً ولا بغياً في جنبات الأرض لأن عبوديته لله تصده عن ذلك فهو يتطامن وينزل عن مستوى الطغاة والبغاة والظالمين إلى مستوى الإنسانية إن كانت لديه قوة تدفعه إلى ذلك العلو، وهو يتسامى من وهدة الذل والضعة إلى مستوى الإنسانية الباسقة إن كان قد ابتلي بضعف في كيانه أو فقر في امتلاكه. وهكذا فإن العبودية لله عز وجل تنزل بالمتألهين إلى مستوى الإنسانية وترفع النازلين والواقعين في وهدة الذل إلى مستوى هذه الإنسانية ذاتها. هذا ما تفعله العبودية إذا ترسخت جذورها في قلب الإنسان وإذا هيمنت على كيانه كما قلت لكم وجداناً أيها الإخوة. هذا الإنسان الذي اصطبغ كيانه بذل العبودية لله لا يمكن أن يصبح عبداً لشهواته وأهوائه، يتحرر منها، لا يمكن أن يصبح عبداً لنفسه الأمارة بالسوء، لا يمكن أن تقوده إلى مهاوي الذل، لا يمكن للأطماع أن تنزل به عن مستوى الإنسانية الكريمة إلى مستوى الذل والمهانة استجابة لطمعه، استجابة لرغباته، لا يمكن للإنسان الذي هيمنت مشاعر العبودية لله عز وجل على كيانه لا يمكن أن ينقاد لمعصية حرمها الله سبحانه وتعالى عليه، يتصارعان كل من عقله ورعوناته ولكن حريته تجعله يتغلب على رعوناته لمصلحة عقله، والحر هو من يستجيب دائماً لنداء العقل ويتسامى فوق نداء الشهوات والأهواء دائماً. هذه حقيقة أيها الإخوة والواقع خير شاهد على ذلك. وكم في القرآن من شواهد عجيبة وبليغة يضعنا بيان الله عز وجل أمامها لنعلم أن أول ثمرة من ثمار العبودية لله عز وجل هي الحرية، هي الكرامة التي تأبى على صاحبها أن يهون للطغاة وأن يهون للظالمين أياً كانوا. انظروا إلى هذا المشهد، مشهد سحرة فرعون عندما كانوا تائهين عن الحق، عندما كانوا تائهين عن هوياتهم عبيداً لله عز وجل، كانوا يعيشون أذلاء مهينين تحت سلطان فرعون، ولما استدعاهم فرعون لمباراة بينهم وبين معجزات سيدنا موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام بدؤوا أعمالهم السحرية قائلين: (بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ) [الشعراء: 44].

تأملوا المهانة، هم الذين يمارسوها ومع ذلك يقول أحدهم (بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ). لكن ماذا كانت العاقبة؟ بعد أن تبينوا شخصية موسى وبعد أن تبينوا الفرق بين السحر الوهمي الخادع وبين المعجزة الربانية الهابطة من السماء وبعد أن عرفوا صدق سيدنا موسى تنبهوا إلى هوياتهم وعرفوا أنفسهم وتبينوا أنهم عبيدٌ لله وليسوا عبيداً لفرعون. انظروا إلى الوضع الجديد الذي آل إليه هؤلاء السحرة

(فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً) [طه: 70]

بعد أن تبينوا الحقيقة

(فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى) [طه: 70].

(قَالَ) أي فرعون:

(قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى * قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى) [طه: 71-73].

تأملوا في موقف هؤلاء السحرة قبل أن يكتشفوا هوياتهم عبيداً مملوكين لله الواحد الأحد وكيف كانوا يقولون (بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ) ثم إلام آل أمرهم وكيف تفجرت الحرية من كياناتهم وكيف تفجرت الكرامة من مشاعرهم عندما عرفوا أنفسهم مملوكين لله لا لهذا الوغد، عندما عرفوا أنفسهم عبيداً لمن خلقهم، لم يؤثر فيهم التهديد، لم يؤثر فيهم الوعيد قط (فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى).

هذا مشهد من المشاهد الكثيرة التي يبرز البيان الإلهي من خلالها ما تفعله عبودية الإنسان لله عز وجل، هذا مشهد من المشاهد الكثيرة التي يخاطب البيان الإلهي من خلالها عباده قائلاً إذا أردتم أن تبحثوا عن الحرية فابحثوا عنها في معين عبوديتكم لي، ابحثوا عنها في كنز هذه العبودية، لن تعثروا عليها إلا إذا عرفتم هوياتكم وأدركتم مملوكيتكم لواحد لا لغيره، عندئذٍ تعلمون أنه هو النافع وهو الضار وهو المعطي وهو المانع وهو المحيي وهو المميت، لماذا أهون ولماذا أُذَلُّ لمن هو عبد مثلي.

أيها الإخوة: في الناس من يهتفون اليوم بالحرية، وفي الناس – ويا للعجب – من يريدون أن يضيفوا أصلاً إلى شريعة الله عز وجل بعنوان الحرية وكأن هؤلاء الناس لا يعلمون أن الفرع لا يُستولَد إلا من أصله، وأصل الحرية الحقيقية إنما يكمن في عبودية الإنسان لله سبحانه وتعالى، فمن عرف نفسه عبداً لله وأيقن ذلك وهيمنت هذه العبودية وجداناً على كيانه وقلبه امتلك ناصية الحرية بكل معنى الكلمة في كل ما يتعلق في شؤونه وأحواله. دعوني أضع أمامكم هذا المشهد الآخر: واحد من العلماء الربانيين الذين كانوا في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، اشترك بالحرب العالمية الأولى وسيق أسيراً إلى معسكرات القياصرة الروس، في يوم من الأيام دخل ضابط إلى معسكر هؤلاء الأسرى وأخذ يجوب فيما بينهم، كان كلما مر بفئة قاموا احتراماً له، لما وصل إلى هذا العالم الرباني الجليل الذي كان يُلقب ببديع الزمان لم يتحرك ولم يقم له، التفت إليه قائلاً: لعلك لا تعرفني، قال: بل أنا أعرفك، أنت ذاك الذي يُقال له نيقولا، قال: فأنت تستهين إذاً روسيا، قال: لا أنا لا أستهين ولكن الإله الذي أنا عبده يمنعني أن أهون لغيره، حكمت عليه المحكمة الميدانية بالقتل، ولما جيء به لتنفيذ الحكم نظر إليه ملياً ثم دنا إليه وربت على كتفه قائلاً: إنني معجب كل الإعجاب بدين أعزك إلى هذا الحد.

عباد الله كم هي جليلة نعمة الله علينا، كم هي جليلة نعمة كنز العبودية لله، كم هي جليلة نعمة مملوكيتنا لله عز وجل، عبوديتنا لله هي عنوان حريتنا بالنسبة لغير الله عز وجل، من هذا الذي يستطيع أن يذلك وأنت واقف بباب الله عز وجل معتز بعبوديتك لله سبحانه وتعالى، فليعلم هذا الذي يبحث ثم يبحث ثم يبحث في طوايا الشريعة الإنسانية عن كلمة الحرية فليعلم أنها مطوية في كنز العبودية لله سبحانه وتعالى، فلا يطيلن البحث في ذلك. ونحن عندما نعالج قضايانا على اختلافها إنما ننطلق في معالجتها من يقيننا بعبوديتنا لله عز وجل، ذلك هو كنزنا وذلك هو سلم الرقي في حياتينا الأولى والثانية علم ذلك من علم وجهله من جهل، أما أولئك الذين تاهوا عن عبوديتهم لله فانظر إليهم تجد أن كل واحد منهم عبدٌ للدرهم، عبدٌ للدينار، عبدٌ لبنائه الذي يشيده، عبدٌ لسيارته، عبدٌ لأهوائه، عبدٌ لمركزه، أليس كذلك، صدق رسول الله القائل: (تعس عبد الدرهم، تعس عبد الدينار، تعس عبد الخميصة، تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش) أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.



تشغيل

صوتي
مشاهدة