مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 16/03/2012

محور شرائع الإسلام إقامة العدالة التامة

تاريخ الخطبة

‏‏‏الجمعة‏، 23‏ ربيع الثاني‏، 1433 الموافق ‏16‏/03‏/2012‏

محور شرائع الإسلام إقامة العدالة التامة

الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك. سبحانك اللهم لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله. خير نبي أرسله. أرسله الله إلى العالم كلِّهِ بشيراً ونذيراً. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين. وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى. أما بعد فيا عباد الله:

إنما الإسلام في هيكله الكلي إنما يتألف من العقائد الإيمانية التي تهيمن على القلب والعقل ومن الشرائع المتنوعة التي تنظم علاقة الإنسان مع ربه وتنظم علاقة الإنسان مع أسرته وتنظم علاقة الإنسان مع مجتمعه الإسلامي وتنظم علاقة الإنسان مع مجتمعه الدولي ومع الناس غير المسلمين. وعندما يتحقق الإسلام بأركانه وكلياته هذه في أي مجتمع من المجتمعات فذلك إيذان بقيام الدولة الإسلامية، ذلك لأن أركان الدولة لا تزيد على هذه الحقائق الكلية التي يتألف منها الإسلام معتقداً وسلوكاً. ولكن في الناس الذين لم يمارسوا من الإسلام إلا رسومه ولم يفهموا منه إلا مظاهره وتقاليده – إن جاز التعبير – يتوهمون أن الدولة الإسلامية كلما قامت لابد أن ينقسم منها خصام مع غير المسلمين الذين قد يوجدون في المجتمع الذي أظلته الدولة الإسلامية، في الناس من يتوهمون هذا الأمر ويتصورون أن هنالك تلازماً بين قيام الدولة الإسلامية وبين الخصام الذي لابد أن ينبثق ما بين المسلمين وغيرهم أو ما بين الإسلام والديانات الأخرى لاسيما الكتابية. أيها الإخوة أريد أن أقول لكم أن الحقيقة تقول نقيض ذلك تماماً، ولعلي أتمكن في هذه الدقائق أن أبسط الدليل على هذه الحقيقة التي تغيب عن بال كثيرٍ من المسلمين السطحيين أو التقليديين.

شرائع الإسلام كلها على تنوعها إنما تدور على محور واحد ألا وهو إقامة العدالة التامة وأكاد أقول المطلقة، تدور على إقامة العدالة التي تتسامى فوق فوارق الدين وتتسامى فوق فوارق العرق، تتسامى فوق فوارق الإقليم واللون واللغة، شرائع الإسلام كلها إنما تدور على هذا المحور، ألم تقرؤوا أو تسمعوا قول الله سبحانه وتعالى:

(وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) [المائدة: 8].

ألم تقرؤوا قوله:

(وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ) [الأنعام: 152].

وقد كرر البيان الإلهي هذا المعنى في أكثر من موطن وفي أكثر من مناسبة.

ولعل فيكم من قد يقول: هذا كلام نظري، فما الدليل على أن الواقع مصداق له؟ وأقول لكم أيها الإخوة: الفتوحات الإسلامية التي تمت هي نماذج لتصديق هذا الكلام النظري. الفتوحات الإسلامية التي تمت والتي قامت على أعقابها الدول الإسلامية هي مصداق هذا الذي أقوله لكم. والوقت لا يتسع لاستعراض هذه الفتوحات وحقيقة الدول الإسلامية التي قامت على أعقابها ولكن فلأضعكم أمام نموذجين.

مصر كانت مستعمرة لبيزنطة وكانت ترزح تحت نير الاستعمال البيزنطي، وكانت الامبراطورية الرومانية قد اصطنعت الدخول في مذهب من المذاهب المسيحية لتستطيع أن تمكن لنفسها جذوراً أرسخ في تلك الأرض ولكي تبسيط مزيداً من السلطان على الناس هناك، فما إن فعلت ذلك حتى نشرت الظلم والقتل والترويع في أقطار مصر، وفي مجزرة واحدة قتلت بيزنطة ما لا يقل عن مئتي ألف من اليعاقبة وهم الذين يسمون اليوم بالسريان الأرثوذكس، نعم، هكذا كانت مصر، ولم تتحرر مصر ولم يتحرر أقباطها من هذا الاستعمار الخانق الظالم إلا عندما تحقق الفتح الإسلامي. لما تحقق الفتح الإسلامي وطهرت مصر من الاستعمار البيزنطي تنفس الأقباط الصعداء وعثروا على حريتهم وعثر كل واحد منهم على كرامته، هل كان فيهم من قد أكره على الإسلام؟ أبداً، هل كان فيهم من قد أكره على أن يغير دينه؟ أبداً، نعم، لقد أظلتهم الدولة الإسلامية واستظلوا بظل الشريعة الإسلامية ولكن الشريعة الإسلامية كانت حصناً رائعاً لكرامتهم، كان الدرع الذي لا بديل عنه لحريتهم الفكرية والدينية، ولعلكم تعلمون أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أنصف شاباً قبطياً من واحدٍ من أولاد عمرو بن العاص، استقدم عمرو بن العاص وابنه إلى المدينة واستقدم الشاب القبطي واقتص أمير المؤمنين عمر من ابن عمرو بن العاص وقال له – لعمرو بن العاص – كلمته التي خلدها التاريخ: أي عمرو متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً، هذا مثل للحقيقة التي أقولها لكم، ومثل آخر؛ فتح الشام، فتحت الشام أيضاً فتحاً إسلامياً، ولكن كيف كانت الشام وبلادها من قبل؟ كانت هي الأخرى ترزح تحت نير بيزنطة، تحت نير الإمبراطورية الرومانية، ولقد مني أهل الشام بعذاب واصب من الاستعمار البيزنطي وكان دأب بيزنطة أن تستثير اليهود على النصارى وأن تؤلب النصارى على اليهود وأن تسعى سعيها اللاهث ليظل القتال مستشرياً والعداوة والبغضاء مستمرين بينهما في سبيل أن ترسخ بيزنطة قدماً راسخة فوق تلك الأرض. كانت بيزنطة تستثير اليهود لتقذير المكان الذي يعتقد المسيحيون أن سيدنا عيسى قد ولد فيه لكي يتألب المسيحيون على اليهود، ثم ما يلبث الرومان أن يؤلبوا النصارى على تقديس الصخرة المشرفة التي يقدسها اليهود لاستثارة مزيد من البغضاء بين هؤلاء وأولئك، فكيف كانت النتيجة عندما شاء الله عز وجل أن تتحرر الشام من نير الاستعمار الروماني؟ اجتمع المسلمون ورجال الدين في بيت المقدس ليوقعوا على صك الصلح والمعاهدة، ولكن رجال الدين المسيحي أبوا إلا أن يوقعوها بحضرة أمير المؤمنين عمر، وأخبر عمر بالأمر فجاء، وبدأ عمر بن الخطاب أمير المؤمنين عندما وصل إلى القدس بدأ فاتجه إلى الصخرة المشرفة، وجد عليها الأتربة والأقذار الكثيرة، خلع رداءه وراح ينظف الصخرة المقدسة برداءه وعندئذٍ هب كل من كان حول عمر فهرعوا ليسابقوه في هذا العمل القدسي، ثم إنه اتجه إلى المكان الذي قال النصارى إن سيدنا عيسى ولد فيه – مكان كنيسة القيامة – ما إن وصل إلى ذلك المكان حتى رأى القمامة والأقذار والأوساخ متراكمة في ذلك المكان أيضاً، فخلع مرة أخرى رداءه وراح ينظف ذلك المكان بردائه، ولكن الناس الذين من حوله ما لبثوا أن سابقوه إلى ذلك. تأملوا في العمل الذي كان تمارسه بيزنطة من إثارة البغضاء والحرب الطائفية بين أهل الكتاب وما فعله الإسلام ولا أقول عمر من نقيض ذلك. أولئك كانوا ينفخون في نيران الحرب اللاهبة بين الإخوة أهل الكتاب والإسلام متمثلاً في شخص عمر جمع الكل على خط الوئام، على صراط الحب، على صعيد الألفة، نظف بردائه كلا الموضعين المعروفين، والتاريخ ينطق بتفصيل هذا الكلام الذي أذكر لكم مجمله. هل أكره أحد من النصارى الذي كانوا في بلاد الشام على الإسلام؟ ولا واحد، لم يكرهوا. ويقول التاريخ: إن عدد النصارى في بلاد الشام بقي إلى أن أطلت فلول الغزوات الصليبية يساوي عدد المسلمين، نعم. ولكن السؤال الأهم، كيف كان يعيش النصارى في بلاد الشام بعد الفتح الإسلامي؟ كان يعيشون أحراراً وكانوا يعتزون بحريتهم أيما اعتزاز، وكانوا يتمتعون بكرامة لم يكونوا ليعثروا عليها إبان الاستعمار البيزنطي بشكل من الأشكال أبداً. لم يكره أي واحد منهم على أن يغير دينه، كانت الشريعة الإسلامية تنفذ القاعدة القائلة: ألا يفتنن نصراني عن نصرايته ولا يهودي عن يهوديته، نعم. ولما أطلت الغزوات الصليبية المتسلسلة متجهة إلى بلاد الشام أرسل قادة تلك الغزوات سراً كتباً إلى قادة المسيحيين في بلاد الشام يسألونهم ما القرار الذي اتخذتموه وها نحن قادمون إليكم، أهو الوقوف إلى جانب بني قومكم المسلمين أم الموقوف إلى جانب بني دينكم الوافدين؟ كان جواب الكل: قرارنا الذي اتخذناه هو الوقوف إلى جانب بني قومنا المسلمين، وشهد التاريخ كيف أن المسلمين والنصارى وقفوا في خندق واحد يواجهون الغزوات الصليبية المتسلسلة. ما الشرعة التي كانت تظلل أهل الشام من مسلمين ونصارى؟ إنها شرعة الإسلام. فهل كانت شرعة الإسلام تتحيز لفئة دون أخرى، هل كانت شرعة الإسلام تتحيز للمسلمين على حساب النصارى؟ لا يا عباد الله أبداً، لأن الإسلام يأبى ذلك، ولأن الإسلام يقول:

(وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) [المائدة: 8].

أقول الآن لهؤلاء الذين يتخوفون من كلمة الدولة الإسلامية، أقول لهؤلاء الذين يتخيلون أن الدولة الإسلامية تعني الظلم الذي قد يقع على غير المسلمين، الدولة الإسلامية تستلزم أن يكون غير المسلمين مواطنين من الدرجة الثانية، أقول لهم: ادرسوا الإسلام قبل أن تتهموا الدولة الإسلامية بهذا، الإسلام لا يعرف هذا الذي تقولون، الدولة الإسلامية التي تتجلى بشرعة الإسلام إنما تدور – كما قلت لكم – على محور العدالة التي تتسامى فوق الأعراق، فوق فوارق الأديان، فوق فوارق اللغات، فوق فوارق الألوان كلها. المسلم يتفيأ ظلال الشريعة الإسلامية ويرحب بها تفاعلاً مع عقيدته الإيمانية والدينية، أما غير المسلم فيستقبل الشريعة الإسلامية لأنها جزء من تراثه، لأنها جزء لا يتجزأ من حضارته العربية، أوليست الشريعة الإسلامية التي هي تراث إلى جانب كونها ديناً أولى بنا من أن نتقمم قوانين نأتي بها من هنا وهناك، نأتي بها ونستذل أنفسنا لنتقممها من شرق أو من غرب. شريعة الإسلام تراثنا، وهي أيضاً دين لمن كان قد تمسك بالإسلام. فمن كان مسلماً فإنه سعيد بأن يطبق شريعة الله جل جلاله لأنه مسلم، ومن كان غير مسلم فإنه يعتز ويسعد بتحقيق والتمسك بشريعة الإسلام لأنها جزء من تراثه ولأنها جزء من حضارته، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم فاستغفروه يغفر لكم.

وبعد أيها السادة: أرسل إليَّ بعضهم يقول: إن الاحتكار الذي حرمته الشريعة الإسلامية إنما هو احتكار الأقوات أي التي يحتاج إليها الناس لطعامهم وشرابهم، وأقول لهؤلاء الإخوة: أما رسول الله r فلا أعلم أنه خصص حرمة الاحتكار بهذا الذي سمعت، ورسول الله r هو الذي أعلن مرة واثنتين وثلاث مرات وأكثر أعلن حرمة الاحتكار فقال: (من احتكر حكرة يبتغي بها الغلاء فقد برئت منه ذمة الله ورسوله) والحديث صحيح يرويه الإمام أحمد والحاكم في مستدركه على شرط الشيخين.

ويقول رسول الله r: (لا يحتكر – لم يقل لا يحتكر الأقوات – لا يحتكر إلا خاطئ) والحديث صحيح يرويه مسلم في صحيحه.

ويقول r فيما يرويه الحاكم في مستدركه على شرط الشيخين من حديث عبد الله بن عمر: (المحتكر ملعون).

فلا يفتئتن أحد على شريعة الله عز وجل، لا يكذبن أحد على حديث من أحاديث رسول الله r. ما هو مناط تحريم الاحتكار؟ الضرر. ورسول الله r يقول في كلمته الجامعة: (لا ضرر ولا ضرار) ولا نافية للجنس، جنس الضرر مرفوع، (لا ضرر ولا ضرار)، لا يجوز للإنسان أن يضر غيره ولا يجوز للإنسان أن يضر نفسه.

الاحتكار كله مناط ضرر، احتكار الأقوات، احتكار السلع، احتكار النقد عن سوق التداول في سبيل التلاعب بقيمته، كل ذلك احتكار محرم، والإنسان الذي يمارس ذلك ملعون بكلام رسول الله في حديثه الصحيح الذي قال، الذي رواه الحاكم في مستدركه على شرط الشيخين: (المحتكر ملعون).



تشغيل

صوتي
مشاهدة