مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 09/03/2012

إلى من يوظفون محنة الفقراء ليجعلوها منحة لهم

تاريخ الخطبة


‏‏‏الجمعة‏، 16‏ ربيع الثاني‏، 1433 الموافق ‏09‏/03‏/2012‏

إلى من يوظفون محنة الفقراء ليجعلوها منحة لهم

الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك. سبحانك اللهم لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله. خير نبي أرسله. أرسله الله إلى العالم كلِّهِ بشيراً ونذيراً. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين. وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى. أما بعد فيا عباد الله:

تعالوا نتأمل في هذه الآيات من كتاب الله سبحانه وتعالى، يقول الله عز وجل:

(لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ * وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) [القصص: 76-77].

تلك هي وصايا خوطب بها قارون من قبل الله سبحانه وتعالى، وهو ذاك الذي تحدث البيان الإلهي عن الكنوز المالية الكثيرة التي متعه الله عز وجل بها والتي بلغت مبلغاً تَنُوءُ الْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ بحمل مفاتيحها، مفاتيح تلك الكنوز، ولكنه لم يلتفت إلى هذه النصائح ولم يرعو عن استكباره فأخذه الله أخذ عزيز مقتدر، وصدق الله القائل:

(فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ) [القصص: 81].

ثم إن هذه الآيات البينات خُلِّدَتْ في كتاب الله عز وجل خطاباً للناس جميعاً لاسيما لأولئك الذين أعمتهم النعمة عن المنعم ولأولئك الذين أسكرهم المال الكثير أو القليل عن الوقوف أمام حقيقة مملوكيتهم وعبوديتهم لله سبحانه وتعالى، يقول لهم، لكل واحد واحد منهم: (وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ). والإحسان إلى الله عز وجل إنما يقصد به الإحسان إلى عباده كما تعلمون، والله هو الغني، يقول الله عز وجل لكل واحد من هؤلاء الذين كان لهم حظ من النعمة التي أوتيها قارون (أَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ)، لا تنس أن هذه النعمة لم تخلقها أنت بقدرتك ولكنها تنزلت عليك بفضل من الله سبحانه وتعالى لك، (أَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ). هذا الخطاب ورثه بعد قارون كل من أعمته النعمة – كما قلت لكم – عن المنعم وأسكره المال عن يقين عبوديته ومملوكيته لله.

عباد الله: كما أن في الناس من تسكره الجرعة الواحدة من الشراب المسكر فإن في الناس من يطغيهم المال القليل حتى عندما يجدون كيف يتزايد في جيوبهم أو في صناديقهم، هذه حقيقة نراها ونلمسها. ولقد قلت بالأمس في موقف كهذا الموقف: إن هنالك أقواتاً أنبتتها أراضينا بفضل من الله سبحانه وتعالى وإنعامه أو حاكتها أو أبدعتها أيدي أناس من أمتنا في هذه البلدة، لم تستقدم من الخارج ولم تُسْتَجَرْ من بلدٍ عدو ومع ذلك – وقد رأينا من يحمل هذه الأقوات وهذه السلع الإتاوات والضرائب والجمارك نفسها التي حملتها تلك البضائع التي تفد إلينا من الخارج. قلت هذا وحذرت وأعدت وأكدت وقلت: إن المصطفى r أكد أن الذي لا يَرحم لا يُرحم وأن التراحم إنما هو سدى ولحمة سعادة الأمة، هكذا قضى الله وهكذا يشهد التاريخ. وتأملت أن أجد استجابة ولو جزئية لهذا التحذير لهذا البيان ولكني أنظر وإذا بهذه المصيبة لا تزال مستمرة ولكن أضيف إليها شيء آخر. أنظر وإذا بكثير – ولا أقول بكل – بكثير من التجار يلملمون الأقوات من الأسواق كلها ويبتاعونها من تجار الجملة حيثما وجدوا من أجل أن يدخروها، من أجل أن يتربصوا بها الغلاء، ما من سلعة يتأملونها فيجدون أنها تصَّاعد فلي سُلَّمِ الغلاء تدريجاً إلا ويحاولون أن يلملموها كما قلت لكم ويجمعوها من أيدي تجار الجملة، لا لكي ينثروها وينشروها بين أيدي المحتاجين وإنما لكي يحتكروها ويتربصوا بها الغلاء. ولقد حُدِّثْتُ من قبل بعض التجار الذين يخافون الله والذين يلتزمون بشرع الله – وهم قلة – يسأل ماذا أصنع؟ كيف أصنع وأنا أعلم أن بضاعتي تُشْتَرَى لتُحْتَكَرْ لا لكي تنثر. بدلاً من أن نجد استجابة لهذا التحذير الذي ذكرت وجدت نقيضه. ولكي تطوف المحنة بالفقراء الذين ابتلانا الله بهم وابتلاهم بنا وبصغار الكسبة، ولكي تكون المحنة خانقة لهم من سائر الأطراف ننظر فنجد أن القطع أو النقد الأجنبي يُخْتَفَى بإحدى طريقتين؛ إما بالتهريب إلى أولئك الذين ينفخون في نيران الحرب والعداوة والبغضاء ضدنا ليتمتعوا بها أرصدة في بلادهم أو بوسيلة أخرى هي أن يختفى هذا القطع، يختفى في الأدراج، يختفى في أي جهة من الجهات، وأنظر وإذا بهذا النقد قد فُقِدَ تقريباً ومن ثم يرتفع سعره ثم يرتفع لا بشكل طبيعي بسائق العرض والطلب ولكن بسائق هذا التخطيط الإجرامي. نعم هذا ما يتم اليوم. ما النتيجة التي لابد أن نحصدها من هذا الواقع؟ تنهار القوة الشرائية، وننظر إلى الفقراء وإذا بهم يختنقون بحبال هذه المحنة، هي محنة بالنسبة لهم ولكنها منحة بالنسبة لهؤلاء الآخرين الذين يوظفون المحن وأيام الشدة لاستجرار المزيد من المال إلى جيوبهم أو صناديقهم. والعجب المضحك المبكي أن كثيراً من هؤلاء يذرعون الطريق إلى مكة والمدينة ذاهبين آيبين لا أقول في كل عام مرة بل في كل عام مرات وربما كرات، في هؤلاء من يصلون ومن يصومون ولكنهم لعلهم لا يعلمون أن الدين إنما هو المعاملة ولعلهم لا يعلمون أن حقوق الله مبنية على المسامحة أما حقوق العباد فمبنية على المشاحة. أعود فأقول لهؤلاء الإخوة – وأرجو أن يبلغهم كلامي – أيها الإخوة لكم أن تجمعوا من المال ما تمتلكون به الدار الواسعة الرائعة وقد امتلكتموها، لكم الحق أن تجمعوا من المال ما تحققون به الفرش والأثاث الفخمين الرائعين ولقد تحققتم بذلك، لكم الحق أن تمتلكوا المركب بل المراكب الفارهة الكثيرة ولقد حققتم ذلك، لكم الحق أن تضمنوا لأولادكم المستقبل الفاره ولقد حققتم، ما الحاجة بعد هذا إلى المزيد، ما الحاجة بعد هذا إلى أن تُحْبَسَ أعينكم في الأرقام كيف تتزايد؟ عجبي لأناس يكادون أن يعبدوا الأرقام لا لشيء إلا لأنه يسعد بأن المال ارتفع من مليون إلى مليونين فـــ فـــ فـــ وهكذا.

أيها الإخوة: المال إنما يكرمنا الله عز وجل به لحوائجنا، ومرحباً بالمال عندما تقضى به الحوائج، ولكن عندما نستزيد من المال من وراء ما نحتاج إليه فذلك ينطبق عليه قول الله عز وجل:

(إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى) [العلق: 6-7].

وإن عاقبة الطغيان وخيمة يا عباد الله، عاقبة الطغيان وخيمة في الدنيا وفي الآخرة. أقول هذا وأنا أعلم أن في هؤلاء الناس من يضيقون ذرعاً بكلامي كما ضاقوا ذرعاً من قبل في يوم من الأيام، ولعل الواحد منهم يتمنى أن لو أطربته بدلاً من هذا الكلام بالحديث عن أخطاء الدولة بنقد المسؤولين، بالحديث عن انحرافاتهم، لعلهم يتمنون أن لو أطربتهم بهذا بدلاً من الحديث عن نقائصهم والحديث عن هذا الذي أذكركم به، وإن القلب ليُعْتَصَر ألماً من هذا أيها الإخوة. ولعلي لو فعلت ذلك لعددت في نظرهم من الأبطال ولعددت في نظرهم ممن حقق الجهاد الأعظم الذي يتمثل في كلمة حق عند سلطان جائر، لكني أقول أيها الإخوة إن كلاً من المنطق والشرع يقول لنا: لكل مقامٍ مقال. عندما أجد نفسي واقفاً أمام إخوة كهؤلاء الإخوة الذين أراهم، فيهم العامل، فيهم الفلاح، فيهم صغار الكسبة، فيهم التجار، فيهم أصحاب رؤوس الأموال، إذاً ينبغي ان يكون حديثي لهم، إذاً ينبغي أن أذكرهم بنقائصهم، إذاً ينبغي أن أذكرهم بالأخطاء التي يقعون فيها، فإذا تحققت لي فرصة بعد ذلك ووجدتني في مجلس أمامي فيه بعض المسؤولين، بعض الممثلين للدولة أياً كانوا وأياً كانت مستوياتهم إذاً يجب علي في هذه الحال أن أتوجه بالنصح إليهم، يجب علي في هذه الحال أن آمرهم بالمعروف وأن أنهاهم عن المنكر، يجب علي في هذه الحال أن أذكرهم بالانحراف إن كان هنالك انحراف وبالتوبة التي ينبغي أن يعودوا بها إلى الله عز وجل، فإذا خرجت لا يجوز لي أن أتكلم بما قد وفقني الله عز وجل له أمام الناس، لا يجوز لي أن أجلس هنا وهنا وهناك لأحدثهم عما قد فعلت وعن الجهاد الذي قد وفقت إليه لا، يجب أن أسكت، يجب أن أدخر هذا الذي وفقني الله عز وجل إليه ليوم الحسرة، ليوم الفزع، يوم يقوم الناس لرب العالمين، أقدم هذا بين يدي آثامي والمعاصي التي حملتها لعل الله يشفع لي بهذا الموقف، هذا ما أقوله لهؤلاء الإخوة، إذاً لكل مقام مقال أيها الإخوة، وأنا أقول أخيراً: إن هذه المحنة ما وفدت إلينا إلا وفي داخلها نعمة، كل ما يأتي من عند الله عز وجل خير لكنه إما أن يكون خيراً ظاهراً وإما أن يكون خيراً مقنعاً، وإن من مظاهر الخير الكامل في هذه المحنة التي هبت لتدبر أن الله عز وجل أيقظ كثيراً من الناس إلى الحق بعد الضياع، أن الله عز وجل ألهم كثيراً من التائهين إلى التوبة بعد شرود، أن الله عز وجل قد أصلح كثيراً من أمورنا بعد انحراف، أجل. ولكن أرأيتم إن بقي هذا الظلم، أرأيتم إن كانت أمتنا قد انقسمت إلى قسمين، قسمٍ يمثله الأغنياء المترفون دأبهم أن يستجروا المال من جيوب الفقراء الذين يجمعون قروشهم وليراتهم بعرق جبينهم، يجمعون هذه الأموال ليدخروا المزين ثم المزيد ثم المزيد ثم المزيد، ليس لهم بطن يشبع وليست لهم آمال تتحقق من وراء الآمال المشروعة، أرأيتم إن بقي هذا الأمر هكذا فإن هذه المحنة قد تذهب ولكن لتقبل إلينا محنة أخرى، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.



تشغيل

صوتي
مشاهدة