مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 03/02/2012

منطق الحب

تاريخ الخطبة


‏‏‏الجمعة‏، 11‏ ربيع الأول‏، 1433 الموافق ‏03‏/02‏/2012‏

منطق الحب

الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك. سبحانك اللهم لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله. خير نبي أرسله. أرسله الله إلى العالم كلِّهِ بشيراً ونذيراً. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين. وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى. أما بعد فيا عباد الله:

ورد في الصحيح أن رسول الله r رُؤِيَ يوم الاثنين صائماً فسئل عن ذلك فقال: ذلك يوم ولدت فيه. يحتفل المصطفى r بذكرى أجلِّ نعمة أنعم الله عز وجل بها عليه، إذ جعل يوم ولادته يوم رحمة مهداة إلى العالم أجمع، ومن ثم جعل يوم بعثته يوم هداية للعالم أجمع. وقد جعل المصطفى r من شكره لله عز وجل موضوعاً لاحتفائه بهذه الذكرى، وشاء أن يترجم شكره لله سبحانه وتعالى بشغل ذلك اليوم كله – يوم الاثنين المتكرر – بعبادة غير منقطعة، ولا يتأتى ذلك إلا بالصوم، فكان احتفاله r بذكرى ولادته – شكراً لله عز وجل – كان احتفاله بذلك عن طريق عبادة تقرب بها إلى الله، وجعل ترجمة هذه العبادة شغل ذلك اليوم كله بعبادة مستمرة ألا وهي الصوم. ولكن تعالوا نتساءل يا عباد الله أكان حبيبنا المصطفى r مندفعاً إلى هذا الاحتفاء المتكرر بدافع من القناعة العقلية أم كان مسوقاً على ذلك بسائق من الحب والوجدان؟ الجواب يا عباد الله أنه إنما كان منساقاً إلى ذلك بدافع من الحب، بدافع من المشاعر الوجدانية المهيمنة على قلبه، ذلك لأن اليقين العلمي مهما هيمن على العقل لا سلطان له على الفؤاد ولا يملك أن يقود الإنسان إلى أي عمل. العلم يظهر للعقل حقيقة ويبين له الفرق بين تلك الحقيقة وأضدادها من أنواع الباطل ثم إنه يتركه كذلك، أي إن العلم أشبه ما يكون بالمصباح المثبت في مقدمة العربة، المصباح يظهر الطريق إن كان معوجاً أو مستقيماً ولكنه لا يدفع العربة إلى السير. الذي يقود الإنسان بعد المعرفة إنما هو الحب، ومكان الحب الفؤاد كما أن مكان العلم العقل، وإنما اندفع المصطفى r للاحتفاء بذكرى ولادته عندما رُؤِيَ صائماً وسئل فأجاب إنما اندفع إلى ذلك بسائق من وهج الحب المهيمن على كيانه، الذي دفعه إلى أن يشغل ذلك اليوم بشكر الله وإلى أن يحتفي ذلك اليوم من صباحه إلى مسائه بحمد الله عز وجل وإن أن يتعامل مع نبضات قلبه المحب. هذه الحقيقة كم وكم تغيب عن كثير من الناس لاسيما في هذا العصر يا عباد الله.

نحن لا ينقصنا – نحن المسلمين – في هذا العصر اليقين المعتمد على الدلائل العلمية التي تثبت حقائق العقيدة الإسلامية والإيمانية بالله، ولعلنا نملك اليوم من هذه البراهين ما لم يكن يملكها الأولون من أجدادنا ومن رجال السلف من قبل. لا تنقصنا المعارف وقد حُشِيَتْ عقولنا بالكثير والكثير منها ولكن الذي ينقصنا إنما هو نبضات الحب الذي يسوق، الحب الذي يقود هذا هو الذي ينقصنا يا عباد الله. ويقول الإمام الشاطبي في حديث له مفرقاً بين سلطان العقل الهادي وسلطان الحب القائد فيقول: إن المحب يعمل ببذل كل المجهود شوقاً إلى المحبوب فيسهل عليه الصعب ويقرب له البعيد وتفنى منه القوى وهو يرى أن لم يوف بعهد الحب، وهو يرى أنه لم يشكر المحبوب الشكر اللائق الذي ينبغي أن ينهض به. نعم الحب هو الذي يقرب لك البعيد وهو الذي يسهل الصعب وهو الذي يجعلك تذيب حشاشتك وتذيب إمكاناتك وأنت تتمنى لو كنت تملك المزيد من ذلك دون أن تشعر بالألم الذي تنفقه في سبيل حبك، وما علمت يا عباد الله أن في الدنيا ألماً ينبعث بلذة متعايشة معه إلا ألم الحب، ليس في الكون ألم تنبعث منه اللذة التي تقاوم ذلك الألم فتغلبه إلا ألم الحب، ولقد قالوا – وفي ذلك عبرة وأي عبرة – أن والد قيس أشفق على ابنه مما رأى من حاله التي تنتابه والآلام التي تأخذه ولا ترده شوقاً إلى محبوبته، فمضى به إلى بيت الله الحرام وأمره أن يقف عن الملتزم وأن يلتصق به وقال له: ادع الله أن يحررك من حب ليلى، فرفع يديه قائلاً: اللهم زدني حباً لها وزدني كلفاً بها. نعم هذا ما يفعله الحب، الحب هو الذي يقود، والحب هو الذي يسوق، والحب هو الذي يجعلك تلتذ بالألم الذي تتقلب فيه، ولكن انظر من هو هذا المحبوب الذي يستأهل منك هذا الألم؟ لن تجد محبوباً يستأهل منك هذا الألم إلا ذاك المحبوب الذي رآه رسول الله، لن تجد محبوباً تقدم له حياتك كلها قرباناً وتقدم له إمكاناتك كلها له ضحية في سبيل مرضاته إلا واحداً لا ثاني له ألا وهو ذلك الذي خلقك وصورك فأحسن صورتك، هداك، رزقك، متعك، نعم، ورحم الله من قال:

أنت القتيل بأيِّ من أحببته فاختر لنفسك في الهوى من تصطفي

لقد اختار رسول الله r محبوبه الأوحد، وقد قال لنا ربنا عز وجل:

(لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً) [الأحزاب: 21].

فلماذا لا نقتدي برسول الله؟ ولماذا لا تهتاج منا الحشاشة حباً لإلهنا، حباً لمولانا وخالقنا.

عباد الله أعود فأقول: إن المرض الذي تعاني منه الأمة الإسلامية اليوم هو فراغ هذه الأمة من الحب ولوعة الحب، الحقيقة العقلانية لا تقدم ولا تؤخر شيئاً، إنما الذي يصلح الفساد ويُقَوِّمُ الاعوجاج وينهض بالأمة إنما هو لوعة الحب، لوعة الحب لا يستطيع أن ينكرها أحد. والذكريات يا عباد الله انفعالات قسرية وليست أفعالاً اختيارية، فليست الاحتفالات بالذكريات المختلفة مما يدخل في التكاليف حتى يثور النقاش حول هذا، أيجوز الاحتفال بالذكرى أم لا يجوز الاحتفال، أيجوز الاحتفال بذكرى مولد رسول الله أم لا، وكأن مشاعر الاحتفال عبارة عن أعمال اختيارية، الأمر ليس كذلك. مشاعر الاحتفالات بالذكرى انفعالات قسرية، كل إنسان راجع نفسه يعلم هذه الحقيقة.

كم من معلمة زمانية تحتضن عهوداً عزيزة عليك، إذا مر بك زمان من هذه الأزمنة وأنت ترى هذا الزمان الذي أقبل إليك فاح منه عبق عهد قديم عزيز عليك قد مضى ولسوف تشعر باللواعج تهتاج بين جوانحك أتستطيع أن تصدها، تشعر بالحنين يهيمن على كيانك أتستطيع أن تسكته، تشعر باللوعة تحرق فؤادك أتستطيع أن تبرد لظاها؟ لا تستطيع.

وكذلك كم عهود مكانية تحتضن ذكريات عزيزة عليك، يمر بك مكان من هذه الأمكنة أو تمر به، تنظر إليه وإذا بك أمام مسقط رأسك، أمام الدار التي ولدت فيها، أمام ترتع صباك، هل تستطيع أن تفصل قلبك عن مشاعر هذا الحنين الذي يستبد بك؟ من قال إن الاحتفال بالذكريات أياً كانت عمل إرادي يخضع للجواز أو عدم الجواز، يخضع للحرمة أو لعدم الحرمة، إنه الحب يا هذا، هو الحب. انظروا إلى رسول الله r وقد عاد بعد غياب لبضعة أشهر إلى اليرموك عاد إلى المدينة المنورة، لما أشرف على بيوتات المدينة نظر إليها قائلاً: (هذه طابة) ثم التفت إلى أحد الذي يستقبله عن يمينه قال: (وهذا أحد جبل يحبنا ونحبه)، ما الذي هَيَّجَ قلب المصطفى r حتى يتغزل بأحد ويقول عنه: (جبل يحبنا ونحبه)، مكان، جاثم في مكانه، مجموعة صخور، أتربة، أحجار، لماذا حَنَّ رسول الله إلى هذه الأحجار وإلى هذه الصخور؟ لأنها تحتضن معلمة عزيزة على القلب، لأنها تحتضن عهداً من العهود العزيزة على الفؤاد، لأن سفح ذلك الجبل يحتضن كثيراً من أصحاب رسول الله الذين قضوا نحبهم في سبيل الله سبحانه وتعالى. هذا حنينه r إلى مكان جاثم جامد فكيف بالحنين – حنين أمة المصطفى r التي هُدِيَتْ بسر المصطفى وبسر بعثته، التي عرفت الله سبحانه وتعالى بفضله. عندما يمر بهذه الأمة مثل هذا الزمان، ألا تفوح من هذه الأيام التي تمر بنا روائح عهد عزيز على قلوبنا، عزيز غالٍ على أفئدتنا يا عباد الله؟

الجواب: أما الإنسان الذي فرغ قلبه من الحب فهو لا يعي من هذا الكلام الذي أقوله شيئاً، وينكر هذا الذي أقول لأنه لا يتعامل إلا مع قرارت العقل، وأما من احتضن قلبه حباً لخالقه عز وجل ومن ثم احتضن قلبه حباً لحبيبه المصطفى r فلابد أن يستبد به الحنين إلى رسول الله ولابد أن يستبد به الشوق إلى صاحب هذه الذكرى، شهر ربيع يفوح به عبق من أقدس ما يمكن أن تهتاج له مشاعر أمة المصطفى r.

والآن يا عباد الله تعالوا نتساءل أين هي دلائل استمرارنا على العهد، أين هي دلائل استجابتنا لوصايا رسول الله r؟ إنني إن أجبت عن هذا السؤال لابد أن أزج نفسي وأزجكم في خجل ممض، في آلام كاوية، ولكن لا بأس إن كانت هذه الآلام تحمل لنا درساً وتوقظنا من سبات، لقد حنَّ رسول الله إلينا عندما وقف قبل وفاته بأشهر في البقيع قائلاً: (وددت لو أني رأيت إخواننا) قال له أحد أصحابه: ألسنا إخوانك؟ قال: (بل أنتم أصحابي وإخواني أولئك الذين لم يلحقوا بعد). أين هم الذين يبادلون حنين رسول الله الحنين؟ أنظر يا عباد الله عن يمين وشمال فلا أجد – في الغالب – إلا انصرافاً عن التجاوب مع حنين رسول الله r، إلا نسياناً لهذا الإقبال القلبي المحب منه إلينا، ألا ترون ذلك؟! رسول الله r ترك من ورائه لنا وصايا حارة غالية وأهاب بنا ألا نضيعها، قال لنا: (لا تباغضوا، لا تدابروا، لا تحاسدوا، كونوا عباد الله إخوانا) ونظرنا فوجدنا لسان الحال يقول على ألسن كثير من المسلمين: بل سنتباغض، بل سنتدابر، بل سنتداعى ولسنا من وصاياك التي تقولها لنا في شيء، ألا ترون لسان الحال يلهج بهذا المقال؟ رسول الله r يقول: (المؤمنون بعضهم لبعض كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً) والحديث متفق عليه، وأنظر فأجد لسان حال كثيرٍ من المسلمين يقول: بل إننا سنجعل من هذا الجسد الواحد للمؤمنين قطعاً متدابرة متعادية تهتاج كل قطعة منها لتدمير القطعة الأخرى، هذا قرارنا وهذا ما سنفعله، يقول رسول الله r: (ألا لا ترجعوا بعدي كفاراً – أو ضُلاَّلاً – يضرب بعضكم رقاب بعض) وأنظر فأجد كثيراً من المسلمين من حولنا يقولون للمصطفى r من وراء سور القرون المتطاولة بل قرارنا الذي اتخذناه أن نتعادى فيضرب بعضنا رقاب بعض. رسول الله يحن إلينا ونحن مدبرون عنه معرضون ومتناسون لحنينه، رسول الله يوصينا ويأمرنا ويحذرنا ولسان حالنا يقول: بل قرارنا الذي اتخذناه ينبع من رؤيتنا ولا ينبع من وصاياك، ولقد سمعت من يقولها بلسان رأسه لا بلسان حاله، يقول: إن وصايا محمد r لا تصلح لهذا العهد، ولكأن رسول الله لا يعلم ما الذي يصلح أمته وما الذي لا يصلحها، ولكأننا أدرى من رسول الله r بما يصلحنا، رسول الله r يقول لنا: (كونوا عباد الله إخوانا) كونوا يا عباد الله إخواناً متعاونين، وأنظر إلى النساء اللائي رُمِّلْن وإلى الأطفال الذين يُتِّمْن وإلى الدموع التي تختلط بالدماء البريئة الزكية وأنظر إلى هؤلاء وهؤلاء وهم يهرعون إلى ما يسمى بمنظمة التعاون الإسلامي ألا هل من عون تقدمونه لنا، ألا هل من سبيل تنتصرون لمظلوم تضربون به على يد الظالم؟ ولكنه لا يجدون إلا أصداء تتجاوب مع صيحاتهم

لقد أسمعت لو ناديت حياً ولكن لا حياة لمن تنادي

أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم فاستغفروه يغفر لكم.



تشغيل

صوتي
مشاهدة