مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 27/01/2012

هكذا أدّبنا الله في تعاملنا مع عباده

تاريخ الخطبة


‏‏‏الجمعة‏، 04‏ ربيع الأول‏، 1433 الموافق ‏27‏/01‏/2012‏

هكذا أدّبنا الله في تعاملنا مع عباده

الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك. سبحانك اللهم لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله. خير نبي أرسله. أرسله الله إلى العالم كلِّهِ بشيراً ونذيراً. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين. وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى. أما بعد فيا عباد الله:

إن مما يجب على كل مسلم أن يعلمه أن القرآن هو آخر ما تنزل من الوحي على رسله وأنبيائه، تنزل للعالم أجمع على خاتم رسل الله وأنبيائه أجمع سيدنا محمد r.

وإن مما يجب أن يعلمه كل مسلم أن هذا الكتاب الرباني يتضمن أمرين اثنين، الأمر الأول بيان هوية الإنسان عبداً مملوكاً لله جل جلاله، مبدأ وجوده منه ونهاية رحلته إليه.

الأمر الثاني بيان الوظيفة التي أناطها الله سبحانه وتعالى بالإنسان الذي أعلن عن تكريمه له في محكم تبيانه، وتتخلص الوظيفة التي أناطها الله سبحانه وتعالى بالإنسان فيما عبَّرَ عنه البيان الإلهي بقوله:

(هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا) [هود: 61].

وظيفة الإنسان أن يعمر هذا الكوكب الأرضي الذي أقامه فيه عمراناً مادياً وعمراناً حضارياً على النهج الذي رسمه له وطبقاً للضوابط التي ألزمه بها في تشريعه المنزل.

ثم إن الله عز وجل قضى ببالغ حكمته ورحمته أن يلاحق الإنسان في حياته الدنيا بالرقابة، يراقبه الله عز وجل في سائر تصرفاته وأعماله وقصوده ونياته، أليس هو القائل:

(إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) [النساء: 1].

أليس هو القائل:

(وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ) [البقرة: 235].

أليس هو القائل:

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ * إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) [ق: 16-18].

ثم إن الله عز وجل عقد محكمتين للإنسان يلاحقانه، إحداهما جعلها الله سبحانه وتعالى في هذه الحياة الدنيا عهد بها إلى الأئمة والقضاة، المحكمة الثانية استقل هو بها لذاته وأرجأ بسط سلطانها إلى اليوم الذي يقوم فيه الناس لرب العالمين.

أما المحكمة الأولى التي عهد الله عز وجل بها في دار الدنيا إلى الأئمة والقضاة فقد حصر سلطانهم فيها ضمن ما يظهر لهم من الناس من أعمالهم وسلوكاتهم وأقوالهم، ومنعهم من أن يتجاوزوا ذلك إلى بواطن الأمور، منعهم – منع الأئمة والقضاة أيَّاً كانوا – من أن يتجاوزوا في حكمهم ظواهر الناس إلى بواطنهم، إلى ما خفي من قصودهم، إلى ما خفي من نياتهم، قضى بذلك في حق الرسل وحق الأنبياء وحق الصالحين من عباده وحق سائر الأئمة والقضاة، فليس لأحد من الناس أن يقتحم سريرة أيٍّ من عباد الله عز وجل بحكم له أو عليه، ذلك لأن الحكم بالسرائر أو على السرائر إنما هي خصيصة اختص الله عز وجل ذاته العلية بها وجعل ميقات ذلك يوم يقوم الناس لرب العالمين، فليس لأحد غير الله عز وجل – لا لرسول ولا لنبي ولا لأي من الأئمة – أن يتجاوز في حكمه ظواهر الناس يقتحم بواطنهم وأسرارها، يقول الله عز وجل في ذلك:

(وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِناً) [النساء: 94].

قال ذلك يوم أراد أحد الصحابة أن يقتحم سريرة أحد من الناس اتهمه في إسلامه فمنعه الله عز وجل من ذلك، يقول الله سبحانه وتعالى:

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا) [الحجرات: 12].

أي لا تقتحموا قلوب الناس بالظنون، ذلك هو المعني بالتجسس. إياكم أن تخوضوا في بواطن الناس وفيما لا تعلمون من شؤونهم الداخلية النفسية البعيدة عن الظاهر.

يقول المصطفى r في هذا الصدد ذاته: (إنني لم أومر أن أُنَقَّبَ قلوبَ الناس ولا أن أشق على ما في بطونهم) روى ذلك الإمام مسلم في صحيحه والإمام أحمد في مسنده.

يقول رسول الله r فيما رواه البخاري: (إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث)، ويقول رسول r فيما رواه البخاري أيضاً: (من رمى مؤمناً بكفر فذلك كقتله) أي فكأنما قتل هذا الذي رماه بالكفر.

ولقد صادف أن قال عمر بن الخطاب في مجلس رسول الله عن حاطب ابن أبي بلتعه لعله منافق، اشتد إنكار رسول الله r عليه وقال له: (ما أدراك بذلك).

وقد صح فيما اتفق عليه الشيخان أن رسول r كان يقول: (إنما أنا بشر مثلكم وإنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من الآخر فأقضي له على نحو ما أسمع فمن قضيت له من حق أخيه فلا يأخذه فإنما هي قطعة من النار) أي لم يُؤذَن أن أتجاوز الظاهر الذي أسمعه وأراه إلى البواطن التي خص الله عز وجل ذاته العلية بها.

ولقد كان عمر بن الخطاب يقول: فيما رواه البخاري أيضاً: لقد كان الناس يؤخذون على عهد رسول الله r بالوحي وقد انقطع الوحي اليوم وإنما نأخذكم اليوم بظواهر أعمالكم فمن أظهر لنا خيراً أمِنْاه وقبلناه وقربناه ووكلنا سريرته إلى الله سبحانه وتعالى والله يحاسبه على سريرته.

ومن ثم فقد أجمع المسلمون – يا عباد الله – جميعاً على أنه لا يجوز لمسلم أياً كان أن يحكم على أحد من عباد الله عز وجل عن طريق اقتحامه باطن أمره، لا يجوز أن يعتمد في حكم لإنسان أو على إنسان على ما يظنه من بواطن أمره مما خفيي من سريرته، من قصوده، لا يجوز ذلك بل هي جريمة أعلنها بيان الله سبحانه وتعالى.

والآن تعالوا نتساءل ما الحكمة من هذا الذي قضى الله عز وجل به؟ الجواب عن هذا يا عباد الله هو أن الله عز وجل لو أجاز للقضاة والحكام والأئمة وللأنبياء أن يتجاوزوا ظواهر الناس بصدد الأحكام لهم أو عليهم إلى بواطنهم وإلى الظنون التي يعتمدون عليها في قصودهم إذاً لتقطعت وشيجة القربى والود مما بينهم ولاهتاجت فيما بينهم الظنون والأوهام ولتحولت الأخوة التي قضى الله عز وجل بها لتحولت إذاً هذه الأخوة إلى عداوة وشقاق وإلى خصومة وبغضاء.

ومن هنا شاء الله عز وجل إبقاءً لوشيجة الود، إبقاءً لصلة القربى، إبقاءً لوسائل التعاون أن يستقل هو بذاته فيما يتعلق بالحكم على الضمائر، فيما يتعلق بالحكم على القصود والنيات، بل شاء الله عز وجل أن يرجئ ذلك إلى يوم القيامة، إلى اليوم الذي يقف فيه الناس جميعاً عبيداً أذلاء بين يدي الله سبحانه وتعالى، تلك هي الحكمة يا عباد الله. وإن مما يبرز هذه الحكمة ويضعنا أمام صورة ميدانية واقعية لذلك أننا نرى ونلاحظ أن الذين يحاولون أن يضربوا الأديان السماوية بعضها ببعض أو أن يضربوا المذاهب والفرق الإسلامية بعضها ببعض ما هم من تلك الفرق كلها والأديان كلها في شيء، إنهم يمارسون في الواقع عداوة شرسة لأصحاب هذه الفرق وهذه المذاهب والأديان كلها، إنهم يبتغون من وراء ذلك أن تنقدح شرارة العداوة والبغضاء فيما بينهم فيتهارجون ويتخاصمون ثم يتقاتلون ثم يقتل بعضهم بعضاً بدلاً عن عدوهم الذي لو لم يفعل ذلك لقتلوا أنفسهم في سبيل الوصول إلى ما يبتغون. إنهم في هذه الحالة لا يريدون أن يخوضوا غمارها بأن يستعيروا أرواحاً أخرى غير أرواحهم ابتغاءً للقصد الذي قد أرادوه، وقد ذكرت لكم قبل بضعة أسابيع فقرات من بيان أصدره مجلس الأمن القومي الأمريكي في أواخر التسعينات من القرن الماضي يوصي فيه بضرورة تأليب المسلمين بعضهم على بعض وإثارة التناقض بين فئاتهم وفرقهم، والتقرير موجود. هذا شيء، شيء آخر يا عباد الله، العبرة التي شاءها الله عز وجل ببالغ حكمته الخواتيم، العبرة في حياة الإنسان بالخاتمة التي يرحل بها إلى الله عز وجل، ومن هو هذا الذي يعلم الخواتيم؟ كم من إنسان يبدو أن من المؤمنين الملتزمين، بل يبدو أنه من الدعاة إلى الله، بل يبدو أنه من الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر كإنسان مثلي ولكنه يذهب ضحية استكباره، تطوف برأسه نشوة الاستكبار، نشوة العُجْب، وينظر الناس وإذا بهذا الإنسان قد خُتِمَ له بخاتمة السوء، أليس بلعام بن باعوراء واحداً من هؤلاء؟ أليس تقي بني إسرائيل المعروف واحداً من هؤلاء خُتِمَ له بالسوء؟ وما أكثر من ينطبق عليهم هذا القانون الرباني.

وبالمقابل فما أكثر الذين يذهبون ضحية ضعفهم الإنساني، يرتكبون الموبقات ويتحملون أشكالاً من الأوزار ولكنك لا تعلم كم وكم يتألم الواحد منهم بينه وبين نفسه، وكم وكم يشعر بذله وضعفه وبعده عن ربه فتدركه رحمة الله عز وجل وإذا به يقبل إلى الله بعد إدبار ويصطلح معه ولا تنتهي رحلته من هذه الحياة الدنيا إلا وقد صنَّفه الله عز وجل في الصالحين من عباده، أليس الفضيل بن عياض واحداً من هؤلاء؟ أليس عبد الله بن المبارك واحداً من هؤلاء؟ أليس بشر الحافي واحداً من هؤلاء؟ هذه الحقيقة هي التي عناها رسول الله r بقوله في الحديث الصحيح: (فوالذي نفسي بيده إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو حتى لا يبقى بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار فيما يبدو حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها).

إذاً تعالوا أسألكم يا عباد الله من هذا الذي يستطيع أن يصنف واحداً من عباد الله عز وجل في الضالين والتائهين مهما رأى مظاهر التيه بادية عليه؟ من هذا الذي يستطيع أن يصنف عبداً من عباد الله عز وجل في الصالحين والمستقيمين مهما رأى دلائل ذلك عليه؟ الأمر خفي والعبرة بالخواتيم يا عباد الله.

ما العبرة أو ما الدرس الذي أريد أن نقطفه من هذا الكلام؟ العبرة التي ينبغي أن تجتثها من هذا الكلام هي أن علينا أن نتأدب مع عباد الله جميعاً يا عباد الله، نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر نعم ولكن دون أن نصنف أنفسنا في الدرجة الأعلى ممن نأمره أو ننهاه، هكذا يؤدبنا الله سبحانه وتعالى في محكم تبيانه وهكذا ينبغي أن تكون علاقتنا مع عباد الله عز وجل. ألا فلتعلموا أن من يحاول أن يضرب الأديان السماوية بعضها ببعض بعد الذي سمعتموه ويحاول أن يضرب الفرق الإسلامية بعضها ببعض بعد الذي سمعتموه فلتعلموا يقيناً أنه ليس من تلك الفرق ولا الأديان في شيء، إنه عدو لهم جميعاً وإنه يتربص بهم جميعاً، وإنه يريد أن يجعل كل واحد منهم ناراً تلتهب على زميله وأخيه، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.



تشغيل

صوتي
مشاهدة