مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 20/01/2012

التطرف والغلو، مصدرهما وموقف الإسلام منهما

تاريخ الخطبة


‏‏‏الجمعة‏، 26‏ صفر‏، 1433 الموافق ‏20‏/01‏/2012‏

التطرف والغلو، مصدرهما وموقف الإسلام منهما

الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك. سبحانك اللهم لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله. خير نبي أرسله. أرسله الله إلى العالم كلِّهِ بشيراً ونذيراً. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين. وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى. أما بعد فيا عباد الله:

إن مما يلفت النظر حقاً أن الناس الذين يعيشون غرباء عن الإسلام وعن دياره كلما ازدادت نفوسهم استئناساً بالإسلام وكلما ازدادت عقولهم إقبالاً إليه وتأملاً فيه واقتناعاً بمبادئه ازدادت عداوة أعداء هذا الدين شراسة وفاح المزيد من رائحة الضغينة والحقد والكراهية عليه في نفوسهم. ولقد حدا بهم ذلك إلى أن يطوروا الوسائل التقليدية التي كانوا يستعينون بها للوقوف في وجه المد الإسلامي الذي شاءه الله سبحانه وتعالى. لم تعد وسيلتهم اليوم كما كانت إرساليات تبشيرية، شكوكاً تُبَثُّ في عقائد الإسلام ومبادئه وإنما اختُرِعَ اصطُنِعَ لذلك سلاح جديد ربما رأوا أنه أمضى سلاح وأيسرُ ما يمكن أن يُتَّخّذَ من سبيل للقضاء على خطر الإسلام ومدِّه، إنه يُلَخَّص – يا عباد الله – فيما يلي:

يصطنعون في ديارهم التطرف ويصطنعون الإرهاب – وما أكثر معاملهما هناك – ثم إنهم يصدرون كلاًّ منهما إلى ربوع عالمنا العربي والإسلامي ثم يُلْصِقُونَ كلاًّ منهما بالإسلام من خلال نسبة مختلقة مصطنعة، فيقولون: التطرف الإسلامي، الإرهاب الإسلامي. وينتشر هذان الشعاران هنا وهناك أملاً في أن تؤمن عقول المسلمين وفي أن تؤمن عقول شعوبهم بأن الإسلام إنما هو معين الإرهاب وأنه معين التطرف والغلو، فهل الإسلام كذلك يا عباد الله؟ هذا ما أريد أن أجيب عنه في موقفي هذا إليكم.

أذكركم يا عباد الله بأن دستور الإسلام الأول هو كتاب الله عز وجل المنزل على خاتم الرسل والنبيين، وأن قدوتنا في تنفيذ هذا الدستور إنما هو حبيبنا محمد r، وإن الواقع العملي الذي يُعاشُ من خلاله ويُطَبَّقُ هذا الدستور إنما هو شريعة الله سبحانه وتعالى، فتعالوا نتأمل في هذه المصادر المتعددة.

أما دستور الإسلام الذي هو القرآن فما رأيت فيه إلا ما يحذر من الغلو والتطرف والإرهاب الإجرامي. ولقد نَشَّأَ القرآنُ رسولَ الله r في ظل الرحمة، في ظل المسامحة، ألم يقل كتاب الله عز وجل لرسوله:

(فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ) [آل عمران : 159].

وهذا الكلام الموجه إلى رسوله r ليس خاصاً بمعاملته بالمسلمين فقط بل بكل من قد أُرْسِلَ إليه. أليس كتاب الله عز وجل هو الذي أرسى موازين العدالة المطلقة متحررة من العصبية للعرق، متحررة من العصبية للمذهب، متحررة من العصبية للدين؟! ألم يقل:

(وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) [المائدة : 8].

ألم يدافع كتاب الله عز وجل من خلال عشر آيات عن يهودي ظُلِم عندما أُلْصِقَتْ به تهمة سرقة وقد كان بريئاً منها وقد كان السارق مسلماً من ضعاف الإيمان والإسلام؟! صُدِّرَتْ هذه الآيات بقول الله عز وجل:

(إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً) [النساء : 105].

هذا هو الدستور وبهذا ينطق. ولئن كان هناك من يحارب التطرف ومن يمزق الإرهاب الإجرامي فلن تجد في العالم كله ولا في التاريخ القصي والقريب مثل كتاب الله سبحانه وتعالى يحارب التطرف ويمزق الإرهاب الإجرامي.

وأما محمد r الذي رباه ربه في ظلال الرحمة، نشَّأه في ظلال المسامحة فتعالوا فتأملوا في سيرته من أولها إلى آخرها، هل تجدون في سيرته إلا نقيض هذا الذي يُتَّهَمُ به كتاب الله سبحانه وتعالى؟!

ألم يُشْهِر ذلك الأعرابي المشرك سيفَ رسول الله r عليه منتهزاً فرصة رقاده r في وادٍ كثير الأشجار عند عوده من غزوة من الغزوات، ركله بقدمه، أيقظه قائلاً: من ينجيك مني يا محمد؟ أجابه بهدوء: الله. سقط السيف من يد الأعرابي وجلس خائفاً مرتعداً فماذا صنع به رسول الله؟ عفا عنه ولاطفه وهدَّأَ من روعه، وعاد الأعرابي يقول لقومه: جئتكم من عند خير الناس.

محمد رسول الله الذي نشَّأَه الله على عينه في ظلال الرحمة، المسامحة، الوسطية هو الذي كان يعامل الناس جميعاً بما ظهر منهم ولم يكن يخترق ظاهراً إلى باطن، لم يكن يتحسس البواطن ليغمض عينيه عن الظواهر. كان في المدينة منافقون فكيف كان يعاملهم رسول الله r؟ كيف عامل ذاك الذي قال بمناسبة لا نريد أن نتحدث عن تفاصيلها: ما أرانا وجلابيب قريش إلا كما قال المثل سَمِّنْ كلبك يأكلك والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. وجاء ابن هذا الرجل – عبد الله بن أبي بن سلول – وكان من المسلمين الصادقين يقول لرسول الله: يا رسول الله لقد بلغني أنك قاتل أبي فيما قال فإن كان كذلك فمرني آتيك برأسه. تبسَّم رسول الله r قائلاً: بل نترفق به ما كان بيننا. ولما توفي عبد الله بن أبي بن سلول أرسل ابنه إلى رسول الله على استحياء يرجوه أن يعطيه قميصه الذي يلبسه ملتصقاً على جسده ليكفن به أباه لعل ذلك يخفف عنه. خلع رسول الله الثوب وأرسله إليه، ولما جيء به ليُصَلَّى عليه أقبل رسول الله r ليصلي عليه، وقف في وجهه عمر يهمس في أذنه: يا رسول الله أتصلي عليه وقد فعل كذا وقد قال كذا، ورسول الله لا يلتفت إليه، ولما أكثر عليه عمر التفت إليه رسول الله قائلاً: أَخِّرْ عني يا عمر فلقد خيرني الله واخترت، وصلى رسول الله r على عبد الله بن أبي بن سلول.

هذا هو قدوتنا بعد ذلك الدستور الذي حدثتكم عنه، أفتجدون في شيء من سيرته r رائحة تطرف؟! أفتجدون في شيء من سيرته r رائحة لغلو، رائحة لإرهاب يا عباد الله؟!

تعالوا وانظروا بعد هذا إلى سيرة أصحاب رسول الله الذين استظلوا بسيرة الشريعة الإسلامية تلك التي اعتصرت من كتاب الله ومن سنة وسيرة رسول الله r، كيف كانت حياته، نشأت كما تعلمون بعد رسول الله r فرقٌ إسلامية شاردة عن المنهج الأمثل الذي يدعو إليه كتاب الله عز وجل، جهمية ومرجئة ومعتزلة وآخرون، أصغوا السمع جيداً يا عباد الله وتأملوا هل تجدون في أصحاب رسول الله من كفَّرَ واحداً من هؤلاء؟! هل تجدون كلمة التكفير فاحت رائحتها هنا أو هنا أو هناك في وجوه هؤلاء الذين شردوا عما كان عليه السلف الصالح أهل السنة والجماعة؟ لا نعلم قد – وقد درسنا التاريخ ووعيناه ونقبنا دخائله – لا نعلم أن في أصحاب رسول الله r من كفَّرَ أيَّاً من هذه الفرق. هل تجدون إلا المسامحة، هل تجدون في كل ما يمكن أن تتأملوه في حياة أصحاب رسول الله رائحة لتطرف، رائحة لإرهاب، هل تجدون؟ لن تعثروا على ذلك قط.

تعالوا فتأملوا في سيرة التابعين، انظروا وابحثوا، كان النهج منضبطاً بدستور الإسلام القرآن، كان منضبطاً بسيرة حبيبناً المصطفى r، ودونكم فانظروا إلى هذا الموقف من الإمام أحمد بن حنبل – ولئن كان هنالك من يمكن أن يلصق قالة السوء أو الإرهاب أو التطرف بالإسلام فلعله لا يجد غير الإمام أحمد لكي يلصق به هذه التهمة النكراء. أنتم تعلمون قصة المحنة التي دارت رحاها على الإمام أحمد، لما انجابت عنه هذه المحنة في عصر المتوكل جاء بعض تلامذته ومريديه يقولون له: يا سيدي ادع الله على ابن أبي دؤات – واحد من المعتزلة الذين نفخوا في نيران تلك المحنة ضد الإمام أحمد – قال له: ادع الله على ابن أبي دؤات، قال له الإمام أحمد: ماذا يفيدك أن يُعَذَّب أخوك يوم القيامة من أجلك في النار؟ ورفع يديه يدعو لابن أبي دؤات، ويدعوا لكل أولئك الذين تسببوا بالمحنة التي دارت رحاها عليه.

عباد الله: هذا هو إسلامنا متمثلاً في دستوره الأمثل متمثلاً في سيرته محمدٍ r، هل تجدون إلا اللطف، هل تجدون إلا نقيض إلا ما قد يتهم به الإسلام ومن ثم المسلمون؟!

أقول بعد هذا: ترى لو كان هذا السلاح الجديد الذي يُستخدم اليوم للقضاء على الإسلام ولخنقه في ربوعه – في ربوع الإسلام – لو كان هذا السلاح من شأنه أن يكون ناجحاً ينبغي أن يتجلى نجاحه في ربوع تلك البلاد قبل أن يتجلى نجاحه في ربوعنا، فهل نجح هذا السلاح بالوقوف في وجه المد الإسلامي الزاخر في ربوع الغرب بشطريه الأوروبي والأمريكي؟ لماذا يعتنق في كل عام آلاف الناس في ربوع الغرب دينَ الله عز وجل الإسلام. وإني لأعلم أن الذين يدخلون الإسلام سراً أكثر مم يعتنقونه جهراً، لماذا لا يُخْدَعون بهذه القالة؟! لماذا لا تخدعهم تهمة التطرف التي تُلْصَقُ بالإسلام والمسلمين، لماذا؟ ومن ثم لماذا هذا الخوف الذي يستبد بأفئدة القائمين بأمور الغرب إن في أوروبا أو في أمريكا؟ أي بعبع هذا الذي يظهر لهم من الإسلام. الإسلام يدعو إلى السلم:

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً) [البقرة : 208].

تلك هي رسالته، الإسلام يصحح الحضارة عندما تفسد،يقوِّمها عندما تعوج. ولقد قلت لواحد منهم ممن له قيادة في ربوع الغرب، قلت لهم: إن الحضارة الغربية قد شاخت وإنكم تعترفون بأن أيامها أصبحت معدودة، ألا أدلكم على وسيلة تعود حضارتكم بها إلى الشباب بعد الشيخوخة؟ قال: ما هي الوسيلة؟ قلت: أن تفتحوا المجال للإسلام يزدهر في ربوعكم، إن الإسلام إذا ازدهر في ربوعكم وإذا تركتم عقولكم تقبل على الإسلام لتعلم حقيقته لا أكثر فإنني أضمن بأن شيخوخة الحضارة الغربية ستولي ولسوف تعود إلى الشباب، ونحن نريد لكم أن تعود حياتكم إلى الإقبال بعد الإدبار ولكن على النهج الأمثل، على النهج الإنساني الذي رضعنا لبانه من خلال دين الله سبحانه وتعالى.

عباد الله: هذا هو إسلامنا, عندما يُتَّهم اليوم بالتطرف أو بالإرهاب وعندما أصغي السمع إلى مسؤول فرنسي يعلن كما لم يعلن من قبل عداءه العجيب الشديد للإسلام وتوعده للإسلام والمسلمين من خلال ما يتهم به الإسلام من التطرف والإرهاب فإنني أقول لكم – وهي كلمتي الأخيرة التي أرجو أن نعتصر منها العبرة والدرس الواجبين –: إن هذا الذي يقولونه عن الإسلام يعلمون أنهم كاذبون فيه، وإن عملاء لهم هم الذي يلصقون هذا بذاك، يلصقون التطرف الذي يصدرونه إلينا من هناك بالإسلام ثم ينسبونه إليه قائلين التطرف الإسلامي، يلصقون الإرهاب بالإسلام ثم إنهم يختلقون نسبةً إليه فيقولون الإرهاب الإسلامي. وأنا أقول لإخواننا وأبناء عمومتنا: أيها الإخوة مصيرنا واحد، إسلامنا هو المظلة التي نستظل بها، ديننا إنما هو هويتنا، عبوديتنا لله سبحانه وتعالى. تعالوا نعد إلى أمن وطمأنينة هذا الدين، تعالوا نعلن عن عبوديتنا لله عز وجل، تعالوا ندخل جميعاً تحت ظل قول الله عز وجل:

(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) [الحجرات : 10].

قرارٌ وأمر، أما القرار فقوله عز وجل: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) وأما الأمر فقوله عز وجل: (فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ).

ألا هل عسيتم أن تصغوا إلى بيان الله؟ هل عسيتم أن تدينوا لهذا الأمر الذي يطالبنا به الله.

أيها الإخوة إن مساحة ما بيننا وبين القبور قصيرة، قصيرة جداً، وغداً سيبتلعنا باطن الأرض بعد أن عشنا على ظاهرها. ألا فاعلموا – أيها الإخوة من بعيد وقريب – ألا فاعلموا أن قصورنا إنما هي قبورنا، نعم يا أيها الإخوة، فاضمنوا، تعالوا نتعاون أن نجعل من قبورنا قصوراً لنا، وإياكم أن تعكفوا على أيام معدودات سنترك فيها كل ما قد بلوناه وكل ما قد بنيناه وكل ما قد نسجناه ولن نأخذ معنا إلى حفرتنا – والله الذي لا إله إلا هو – إلا الندم ولات حين مندم. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.



تشغيل

صوتي
مشاهدة