مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 30/12/2011

الطريق إلى الحرية

تاريخ الخطبة


‏‏‏الجمعة‏، 05‏ صفر‏، 1433 الموافق ‏30‏/12‏/2011

الطريق إلى الحرية

الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك. سبحانك اللهم لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله. خير نبي أرسله. أرسله الله إلى العالم كلِّهِ بشيراً ونذيراً. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين. وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى. أما بعد فيا عباد الله:

إن حرية الإنسان واحدة من أقدس ما فطر الله سبحانه وتعالى الإنسان عليه. حرية الإنسان هي المرقاة التي يتم البلوغ بها إلى الشأو الحضاري الإنساني الأمثل. حرية الإنسان هي السبيل الذي لابد منه لنسيج التعاون الإنساني ولنسيج الود والتعايش فيما بين أفراده على النهج الذي يتفق مع العدالة الإنسانية المثلى. ولقد كانت كلمة الحرية هذه واحدة من الشعارات التي تم الهتاف بها عندما فُتحت الأبواب إلى هذه الفتنة التي أوصلتنا منها إلى هذا المنحدر. ولقد كان في الناس من حلموا وهم يسمعون تلك الهتافات بسم الحرية أن حرية قريبة ستتفتح أبوابها وأن المجتمع الإنساني سيزداد سعادة في ظلها، ولكن سرعان ما استيقظوا من هذا الحلم على سراب وسرعان ما نظروا فوجدوا أن الحرية تُذَبَّح كما تُذَبَّح الشاة تحت هتاف التكبير لله. ولكن تعالوا نتحدث عن الحرية؛ حقيقتها والسبيل إليها وثمراتها التي لابد أن تجنيها الإنسانية.

الحرية الحقيقية يا عباد الله هي أن ينعتق الإنسان من كل سلطان داخلي في نفسه وخارجي في مجتمعه إلا سلطان ذلك الذي خلقه فسواه فعدله في أي صورة ما شاء ركبه، تلك هي الحرية الحقيقية المطلقة، وإذا ما تمتع بها الإنسان ونال حظوتها فإنه ينعتق بذلك من أسر نفسه – وما أخطر أسر النفس وأهوائها – وينعتق من أسر مجتمعه بشتى صنوفه وأضرابه.

ولكن كيف تتم الرحلة القدسية إلى التحقق بهذه الحرية يا عباد الله؟

إن الخطوة الأولى في السير إليها إنما تتمثل في أن يعلم الإنسان هويته وأن يدرك أنه عبدٌ مملوك لخالقه الذي أبدعه وصوره والذي إليه هو تدبيره والذي منه انطلق وجوده وإليه يتم رجوعه وأنه إنما يتحرك في قبضته وأنه يسير طبق إرادته وقضائه. وإنما يتشبع الإنسان بهذه الحقيقة عندما يصغي ملياً وبتدبر وتأمل إلى مرآة هذه الهوية إذ يطالعه عليها بيان الله سبحانه وتعالى، يصغي إلى قوله:

(وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ) [النحل: 53]

يتأمل في قوله سبحانه وتعالى:

(وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ) [يونس: 107].

يتأمل في قوله عز وجل:

(وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً حَتَّىَ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ) [الأنعام: 61].

يصغي إلى قوله:

(أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُم مِّن دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ * أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَل لَّجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ) [الملك: 20-21].

يصغي الإنسان إلى هذا الخطاب الرباني ويتأمل من خلاله هويته عبداً مملوكاً ذليلاً في قبضة الله سبحانه وتعالى.

ما الخطوة الثانية التي لابد أن ينتهي إليها بعد هذه يا عباد الله؟ الخطوة الثانية أن يعلم يقيناً أن أمره كله بيد الله وحده، وأنه هو الذي يضحكه إن شاء ويبكيه عندما يشاء، هو الذي يسعد وهو الذي يشقي، بيده ملكوت أمره، يعلم ذلك تماماً، وإذا أدرك هذا فاض قلبه – شاء أم أبى – تعظيماً لهذا الإله الخالق، فاض قلبه مهابة لهذا الإله الخالق وفاض قلبه حباً لهذا الإله الخالق. إلام ينتهي حاله بعد هذا؟ ينعتق من أسر نفسه وشهواته وأهوائه، لم يبق لمزاجه النفسي سلطن عليه، لم يبق لعصبيته – أياً كان نوعها – سلطان عليه، لم يبق لأهوائه التي ترده وتصده أي سلطان عليه، فهذا هو الانعتاق الأول وهو الانعتاق الأخطر والأمثل. ثم إنه ينعتق بعد ذلك من أسر الخلائق أجمع، لن يخيفه تهديد مخيف ولن يطمعه تطميع مطمع، ومن هم؟ إن هم إلا عبيد أمثاله، إن هم إلا عبيد مملوكون مثله لهذا الإله الذي خلق، لهذا الإله الذي بيده كل شيء وإليه مصير كل شيء. أفيمكن أن يطأطئ الرأس – هذا الذي عرف مملوكيته لله، وهذا الذي فاض قلبه من ثم تعظيماً لله – أفيمكن أن يطأطئ الرأس لمخلوق؟! أفيمكن أن يمد يد الذل والهوان إلى مخلوق؟! أفيمكن أن يخيفه مخلوق مهما أزبد وأرغى ومهما هدد وأنذر؟! أفيمكن أن يطمع في غير مطمع؟! أن يطمع من يد مخلوف؟! لا يا عباد الله.

وهكذا فلتعلموا أن الحرية الحقيقية المطلقة إنما هي الوجه الثاني لعبودية الإنسان ومملوكيته لله عز وجل. كن عبداً حقيقياً لمولاك وانظر كيف تكون حراً الحرية المطلقة، الحرية التي تعتقك من أهواء نفسك، الحرية التي تعتقك من سلطان مجتمعك. ولن تكون مصغياً في هذه الحالة إلا إلى الأمر الصادر إليك من الواحد الذي لا ثاني له وهو مولاك الأوحد سبحانه.

صورتان أضعكم أمامهما يا عباد الله تجسيداً لهذه الحقيقة:

الصورة الأولى في كتاب الله عز وجل: سحرة فرعون كانوا أشباحاً تتحرك في ظلال آمرية فرعون وحكمه وسلطانه، وكانوا إذا مارسوا أعمالهم السحرية قال أحدهم: (بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ) [الشعراء: 44]، وهكذا.

فلما عرفوا هوياتهم، ولما أدرك كلٌّ منهم هويته عبداً مملوكاً لله لا لغير الله عز وجل خُلِقُوا خَلْقَاً آخر، واسمعوا وتبينوا الصورة:

(فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى * قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى) [طه: 70-71]

فماذا كان جواب أولئك الذين كانوا يقولون: (بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ)، ما الذي قالوه بعد أن عثروا على هوياتهم الحقيقية؟

(قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى) [طه: 72-73]

تلك هي ثمرة عبودية الإنسان لله عز وجل، لا تأتي إلا من خلال هذا السبيل.

الصورة الثانية صورة تكاد تكون معاصرة، رجل معروف لدى من يبحثون عن الدعاة الصادقين المستقيمين المخلصين لله عز وجل، إنه سعيدٌ النورسي ذاك الذي لُقِّبَ ببديع الزمان، اشترك في الحرب العالمية الأولى وقِيْدَ أسيراً تحت يد القياصرة الروس آنذاك، وذات يوم دخل ضابط من الضباط الروس إلى معسكر الأسرى يتفقدهم، ومرَّ أثناء تجواله ببديع الزمان هذا – كان الجميع يقومون عندما يصل إليهم – ولكن بديع الزمان هذا لم يتحرك من مكانه، لفت ذلك نظره وأقبل إليه قائلاً: لعلك لا تعرفني، قال: بل أنا أعرفك، أنت ذاك الذي يُسمى نيقولا، قال: فأنت إذاً تستهين بعظمة القياصرة الروس؟ قال: لا، ولكن الإله الذي أنا عبده يمنعني من أن أذل وأَهُوْنَ لغيره. سرعان ما أحيل إلى المحكمة الميدانية وحُكِمَ عليه بالإعدام، ولما جيء به إلى ساحة التنفيذ أقبل إليه القائد الروسي يتأمله ثم رَبَتَ على كتفه قائلاً: إنني معجب بهذا الدين الذي أعزَّك إلى هذا الحد وعفا عنه.

صورتان ما أظن أننا بحاجة إلى مزيد. نهتف بالحرية، لنا ذلك، أما أن نتنكب عن طريق الحرية فذلك زيف أي زيف.

الطريق القدسي إلى الحرية هو هذا يا عباد الله، أن نعلم هوياتنا وأن ندرك أننا مملوكون لواحد لا ثاني له وأن نعاهده على السير في الطريق الذي شرع، عندئذٍ سنعلم أي معجزة ستتحقق بين جوانحنا، إنها المعجزة التي هي أقوى من كل قوة، إنها المعجزة الخارقة التي تتسامى على كل أنواع الأسلحة، إنها المعجزة الخارقة لأنها تأخذ سلطانها من لدن مولانا عز وجل، من شَدَّ صِلَتَهُ بالله عبداً أكرمه الله سبحانه وتعالى بصفاته رَبَّاً. هذه هي الحقيقة التي ينبغي أن نتبيَّنها، وكم أود وأود لو بلغت كلماتي هذه أسماع الذين كانوا بالأمس القريب يهتفون بالحرية الحرية الحرية ليعلموا إن كانوا صادقين في البحث عنها فهذا هو الطريق إلى الحرية، ستجمعنا من نثار وستؤلِّفُ سبيلنا بالود ولسوف تصعد بنا من خلال مرقاة العز إلى الشأو الحضاري الأمثل، أما إن كانوا يتاجرون بهذه الكلمة ويخلصون لنقيضها فذلك شيء آخر.

أما نحن فتعالوا أقولها لنفسي ولكم ولكل من يسمع كلامي، تعالوا نجدد البيعة مع الله عبيداً له، عبيداً حقيقيين له ومن ثم فلسوف يكرمنا الله عز وجل بخوارق النصر وخوارق التأييد والسلم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.

وبعد: فإن العالم كله قد احتفل بالأمس بولادة المسيح سيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام، ولقد أحسن رجال الدين إخواننا في بلدتنا المباركة هذه صنعاً إذ وقفوا مضمون هذا الاحتفال بهذه المناسبة العظمى على الالتجاء إلى الله وعلى التضرع على أعتاب الله وعلى صلوات أن ينزل الله سبحانه وتعالى علينا من شآبيب رحمته وكرمه وغفرانه.

وما أظن إلا أننا جميعاً في هذه البلدة المباركة – في سورية الإسلامية المباركة – سائرون على هذا النهج، وما أظن إلا أن احتفالات سورية برأس السنة الميلادية ما أظن إلا أنها ستكون امتداداً لاحتفالنا بميلاد سيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام، كما كان ذلك الاحتفال وقفاً على الالتجاء إلى الله والتضرع على أعتاب الله، فلسوف تكون ليلة السنة الميلادية الجديدة كذلك فيما أحسب. ولئن كان رجال الدين المسيحي أعلنوا ذلك فما أحرانا جميعاً أن نعلن أيضاً ذلك.

إن احتفاء الفنادق وغير الفنادق والملاهي في مثل هذه الليلة وعالمنا منكوب بما تعلمون وسورية تمر بالفتنة التي تعلمون شيء لا يتفق لا مع الذوق ولا مع الشرف ولا مع الكرامة. أرأيتم إلى بيوتاتنا التي دخلها الكرب، أرأيتم إلى القلوب التي هيمن عليها الحزن أفيتفق ذلك مع برنامج ساعات لَهْوٍ يُعْلَنُ عنها على رؤوس الأشهاد وفي الشوارع رقصاً ولهواً وعربدة ونحو ذلك. من هذا الذي يتهيأ لاستقبال مثل هذا الأمر؟! إنه نشاز – وليت أنه كان من النشاز المعهود، إنه من أحط أنواع النشاز.

أقول هذا وأنا واثق بأن سوريا التي هي قلب واحد والتي تتجه إلى أمل واحد والتي تتمسك جميعاً بحبل واحد حبل الله سبحانه وتعالى ستسير على هذا النهج الذي أقول ولن تدخل في المنعرجات التي قد تدعونا إليها شياطين الإنس والجن.



تشغيل

صوتي
مشاهدة