مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 09/12/2011

موقف الدين الإسلامي من التصنيف الطائفي

تاريخ الخطبة


‏‏‏الجمعة‏، 14‏ محرم‏، 1433 الموافق ‏09‏/12‏/2011‏

موقف الدين الإسلامي من التصنيف الطائفي

الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك. سبحانك اللهم لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله. خير نبي أرسله. أرسله الله إلى العالم كلِّهِ بشيراً ونذيراً. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين. وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى. أما بعد فيا عباد الله:

إن الإسلام هو الدين الذي ابتعث الله عز وجل به رسله وأنبياءه جميعاً، بدءاً من أولهم آدم عليه الصلاة والسلام وانتهاءً بآخرهم وهو محمد r. وصدق الله القائل في محكم تبيانه:

(شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) [الشورى : 13].

ومن هنا فإن الإسلام لم يضق في يومٍ من الأيام ذرعاً بأهل الكتاب، بل إن الإسلام متمثلاً في الدول الإسلامية المتوالية التي كانت ترعى الشريعة الإسلامية وتطبقها كما أمر الله عز وجل وكما أنزل، كان الإسلام متمثلاً في هذه الدول الإسلامية تحتضن أهل الكتاب، ترعاهم، تبرهم، تذود عنهم، تتقاسم معهم الحقوق الإنسانية بالعدل وعلى السواء. وتأملوا يا عباد الله في الفتوحات الإسلامية التي امتدت إلى بلاد الشام هذه، والتي امتدت إلى مصر لم يُلْجَأ نصراني أو يهودي إلى أن يبدل دينه هنا أو هناك، وبقي النصارى في بلاد الشام إلى أن جاءت الغزوات الصليبية أعدادهم متكافئة مع أعداد المسلمين، سعداء بالفتح الإسلامي الذي طهر الشام من الاستعمار الروماني، وكان أقباط مصر سعداء بالفتح الإسلامي الذي طهر مصر من الإمبراطورية الرومانية.

وكما أن الإسلام لم يضق ذرعاً في يومٍ من الأيام بأهل الكتاب فإنه لم يضق ذرعاً بالفرق بالإسلامية التي تنامت في أواخر القرن الأول الهجري. ظهرت كما تعلمون فرق إسلامية كالمعتزلة والمرجئة والجهمية والقدرية والحشوية وغيرها فهل ضاق السواد الأعظم من المسلمين الذي يشكل بما يسمى بأهل السنة والجماعة هل ضاق أهل الإسلام ذرعاً بهذه الفرق؟ بل احتضنتهم الدولة الإسلامية، ترعرعوا ونموا في تربة الحرية الفكرية، ثم إنهم بادوا بعد أن سادوا عن طريق الحوار والنقاش الأخوي المتبادل.

واعلموا أيها الإخوة أن هذا الذي أقوله لكم إنما تحقق تحت سلطان القاعدة القائلة: (ألا لا يُفْتَنن نصراني عن نصرانيته ولا يُفْتَنن يهودي عن يهوديته)، هذا المبدأ كان هو الشرعة المطبقة خلال القرون المتصرمة كلها.

إذا تبين هذا – وهذه حقيقة نعود بها إلى ألف باء تاريخنا العربي الإسلامي الذي ما ينبغي أن يجهله أحد منا – إذا علمنا هذه نعلم أنه لو جاز للمسلمين أن يغمضوا أعينهم وينثروا تهم الكفر رشاً لا دراكاً على من يشاؤون لجاز لهم أن ينثروا تهمة الكفر لتلك الفرق التي تنامت في أواخر القرن الأول من الهجرة، الجهمية، المرجئة، المعتزلة، الحشوية، القدرية، الخوارج، ولكن أصغوا السمع جيداً وابحثوا ونقبوا هل ترون في أئمة المسلمين من نعت أياً من هذه الفرق بالكفر؟ لن تجدوا. القاعدة أن الذي يُكَفِّرَ الإنسان هو نفسه، هو الذي يُكَفِّرُ نفسه، فإذا لم يكفر المسلم نفسه فإن أحداً لا يملك أن يكفره. لو أن إنساناً ارتكب الموبقات المكفرة ثم عاد فقال أنا مسلم فإن كلمته هذه إعلان بأنه قد تاب وآب إلى الله، وهو إعلان بأن الله عز وجل قد قبل توبته. إذا عرفنا هذه الحقيقة يا عباد الله عرفنا بالبداهة أن لا يجوز في شرع الله عز وجل أن تهتاج طوائف من المسلمين بعضهم على بعض، لا يجوز في شرع الله أن يهتاج المسلمون على الكتابيين ولا الكتابيون على المسلمين لمجرد أن هؤلاء مسلمون وأن هؤلاء كتابيون، هكذا قرر كتاب الله وهكذا قررت سنة رسول الله وهكذا قرر واقع الأمة الإسلامية فيما مضى.

لا يجوز في شرع الله عز وجل أن تهتاج الحروب بين فرق المسلمين أياً كانت بسبب أنها فرق مختلفة. فرق المسلمين انبثقت من داخل الوجود الإسلامي، فرق المسلمين تنتمي إلى الإسلام، ينتمي كلٌّ منها إلى الإسلام، إذاً لا يجوز ذلك قط. هذا الهياج الذي يُسمى اليوم بالحرب الطائفية ينبغي أن تعلموا يا عباد الله أن الذين يستثيرونها ويحاولون أن يقدحوا زناد العداوة والبغضاء في الحرب المشتعلة بين الفرق الإسلامية المختلفة ينبغي أن تعلموا أن هؤلاء ليسوا من تلك الفرق في شيء، وإن تظاهروا بأنهم ينتصرون لبعضٍ منها ضد البعض الآخر. إن الذين ينفخون في ضرام هذه الفتنة ليسوا من الإسلام الذي شرفنا الله عز وجل به في شيء. إذاً من هم؟ إنهم قد يكونون أصابع عربية وإسلامية ولكنها مستعبدة وخادمة لسواعد غربية تعلن العداوة لله وتعلن العداوة والبغضاء لعباد الله المؤمنين بالله سبحانه وتعالى. لئن رأيتم سيما الإسلام في هذه الأصابع التي تحاول أن تشعل نيران البغضاء فالعداوة فالحروب بين فرق الإسلام أو طوائفه أو بين المسلمين والكتابيين فلتعلموا أن هذه الأقنعة التي تستر وجوه هؤلاء الناس بالسواد إنما هي أقنعة تستر حقيقة ينبغي أن نعلمها، إن هؤلاء وإن كانوا أصابع عربية وإسلامية لكنهم في الحقيقة عبيد مستذَلون مهانون، خَدَم لسواعد غربية أعلنت أخيراً الحرب على الله ومن ثم الحرب على عباد الله المؤمنين به.

عباد الله: إنكم جميعاً تقرؤون قوله سبحانه وتعالى:

(وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ) [آل عمران : 103].

وما أكثر ما رأيت هذه الآية ملصقة على جدران زُينت بها أبهاء بيوت وقيعان، ولكن هل تأملتم في معنى هذا الأمر الإلهي: (وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً)

هل الخطاب موجه فقط إلى السواد الأعظم من المسلمين الذي يسمى بأهل السنة والجماعة؟ هل الآية تقول لهم وحدهم اتفقوا ضد الفرق الإسلامية الأخرى وإن كنتم تخطئونها؟ لا يا عباد الله. الخطاب هنا إذ يقول (وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً) موجهٌ إلى المسلمين كُلاًّ دون تجزئة، موجه إلى المسلمين بقضهم وقضيضهم بما فيهم السواد الأعظم، بما فيهم الفرق التي تنتمي إلى الإسلام وتعتز بانتمائها إلى الإسلام، هؤلاء جميعاً هم الذين يقول لهم الله عز وجل: (وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ)، مهما اختلفتم ومهما توزعتكم الاجتهادات في طرق شتى فإن الجامع المشترك موجود، وإن الجامع المشترك هو الذي يدخلكم في رحاب الرحمة الإلهية غداً، الجزع الإسلامي موجود، تمسكوا بهذا الجزع ولا تفرقوا. إذاً فهذه الآية العظمى في كتاب الله عز وجل تلطم وجوه الذين ينفخون في نيران الحروب الطائفية. هذه الآية العظمى تهيب بالمسلمين ألا يستذلوا وألا يهونوا وألا يجعلوا من أنفسهم عبيداً أذلاء لأولئك الأعداء.

يا عجباً يا عباد الله كيف لا يَصْحُوا هؤلاء الإخوة الذين بايعوا أعداء الله – إن بشكل مباشر أو غير مباشر – كيف يرضون لأنفسهم الهوان؟ ألا يرون أو يسمعون بالكاريكاتير الأجنبي الغربي الذي يسخر من هؤلاء الذين أعلنوا بسلوكهم العبودية لقادة الغرب، الذين أعلنوا بسلوكهم العبودية والذل والهوان لمن يريد أن يجتث شأفتهم من أرضهم، لمن يريد أن يأخذ خيراتهم أجمع، لمن يريد أن يقضي على وجودهم، ألا يرون إلى الكاريكاتير الذي يبعث الذل والهوان؟

في الغرب جمهرة كبرى معارضة لهذا الذي يفعله قادة الأمم الغربية. تعالوا فانظروا كيف يعبر الكاريكاتير عن ذل هؤلاء المسلمين، وكيف ينظر إلى هؤلاء الصامدين الثابتين على كلمة الله عز وجل، ينظر إليهم نظر إجلال، نظر إعظام.

يا عجباً يا عجباً، أينتهي الأمر بالإنسان – وهو خُلِقَ شريفاً، شرفه فطرة تنبض بين جوانحه، خُلِقَ كريماً في حق نفسه، كرامته تنبض بين جوانحه – أيغدو الإنسان ممسوخاً تغيب عنه مشاعر شرفه، تغيب عنه مشاعر كرامته، وفي سبيل ماذا؟ في سبيل أن يُقْضَى عليه، في سبيل أن يصبح بعد قليل ضراماً لهذه النار التي يشعلها، حطباً لهذه النار التي يشعلها.

الأمور التي تجري، كلها يجري يا عباد الله تحت أغطية من القرارات المكتوبة، ولدي طائفة من هذه القرارات، والإنسان الذي لا صلة له بهذه القرارات لا يعيش في هذا العصر، يعيش في عصور غابرة قديمة. واحدة من هذه القرارات صدرت من مجلس الأمن القومي الأمريكي في أواخر القرن الماضي تبرر الحرب الطائفية الأهلية، تدعو إلى إشعال الحرب الطائفية الأهلية بين المسلمين. التقرير يبدأ بالحديث عن خطر الإسلام الوارد والداهم إلى المجتمعات الغربية بشطريها الأوروبي والأمريكي، ثم إن التقرير يتحدث عن العلاج الذي لا يصد الخطر الإسلامي عن الغرب فقط بل يجتثه من ينابيعه أيضاً، يقول:

(إن الدواء هو العمل على تأليب المسلمين بعضهم على بعض)

والله هذه هي الصيغة بعد أن تُتَرْجَمَ إلى اللغة العربية، يجب تأليب المسلمين بعضهم على بعض بحيث تهتاج بينهم العداوة ثم تتحول العداوة إلى حروب، ومن الذي يجني ثمرات هذه الحروب ذلك العدو الذي ينتظر وينفخ من هناك في نيران هذه الفتنة.

يا عباد الله: أتريدون أن تعرفوا الفرق بين موقف الإسلام من الخصام الطائفي فضلاً عن الحرب الطائفية؟ أتريدون أن تعرفوا الفرق بين موقف الإسلام وبين موقف أعداء الله عز وجل؟ تعالوا فانظروا إلى هذه الصورة أيام الفتح الإسلامي في الشام.

فُتِحَتْ الشام – كما تعلمون – ولكن رجال الدين في بيت المقدس أصروا على أن لا يوقعوا صك الصلح والتعاون إلا مع أمير المؤمنين عمر، واستُقْدِمَ عمر على هذه البلاد، وجاء إلى بيت المقدس، توجه أول ما وصل إلى بيت المقدس إلى الصخرة المشرفة فوجد ركاماً من الأقذار قد جُمِّعَتْ فوق هذه الصخرة، لماذا؟ هكذا كان يفعل الاستعمار الروماني، يثير النصارى على اليهود، يدفعهم إلى استقذار الصخرة المقدسة التي يقدسها اليهود، ثم يثير اليهود بدافع من ردود الفعل إلى تقذير مكان كنيسة القيامة حيث وُلِدَ سيدنا عيسى، وهكذا يثير الطائفتين كُلاًّ منهما على الآخر لكي يجد العدو موطئاً مستقراً لنفسه بين ذلك الضرام من الحرب الطائفية، هكذا كانت تفعل الامبراطورية الرومانية وهكذا يفعل اليوم أحفادهم، أما الإسلام ممثلاً في عمل عمر فماذا صنع؟

عندما وجد هذه الأقذار خلع رداءه وأخذ ينظف الصخرة المقدسة بردائه من هذه الأقذار، سرعان ما تعاون معه الذين كانوا من حوله، ثم إنه ذهب يزور مكان ولادة سيدنا عيسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، رأى هنالك أيضاً ركاماً من الأقذار، خلع رداءه وأخذ ينظف ذلك المكان.

ذلكم هو عمل العدو – عدو الإنسانية وعدو الله – الذي يتوارثه أعداء الله اليوم، وهذا هو موقف الإسلام، موقف الإسلام قضى على تلك الكراهية وجمع بين الدينين وسرعان ما تحقق الصلح.

حسبي هذه الصورة، وحسبكم هذا المعنى يا عباد الله.

ألا فارعووا يا أيها الإخوة قبل أن تتحول حياتكم إلى الحياة البرزخية الأخرى فتندموا ولات حين ندم. لا تجعلوا من أنفسكم أعداءً لربكم وعبيداً لأعداء مولاكم وخالقكم سبحانه وتعالى، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم فاستغفروه يغفر لكم.

عباد الله: مَرَّةً أخرى أُذَكِّرِكُمْ وأذكر نفسي بأن الله عز وجل لا يَرْحَم من لا يَرْحَم، هكذا أعلن رسول الله r في الحديث الصحيح، وهذا المنعطف الذي نمر به هي الفترة الامتحانية التي تتجلى فيها رحمة الإنسان بأخيه الإنسان، حذار يا عباد الله، حذار يا أيها الموسرون، حذار يا أيها المتعشقون للمال الذي يجمعونه في جيوبهم أو الذي يملؤون به خزائنهم، حذار من أن تنتهزوا فرصة الأسر التي تطوف بحياة إخوان لكم يحتاجون حاجة ماسة إلى وسائل التدفئة، إياكم أن تمسخوا إنسانيتكم وتمزقوا رحمتكم بإخوانكم فتنتهزوا الفرصة لتحرموهم من هذه الأداة. إياكم أن تتكلفوا بأن تجعلوا منها سوقاً سوداء ينظر الفقير فلا يجد سبيلاً إلى جذبها إلى داره، يبيت – وأنا أعلم ذلك – هو وأهله لا أقول على الطوى فقط بل يبيت والجميع أجسامهم ترتعد من البرد، وأنت تتمتع بالدفء في زوايا بيتك أجمع، أين هي إنسانيتك يا أخي. إن كنت ممن يؤمن بالله عز وجل فأكلك إلى إيمانك، أَكِلُكَ إلى إنذار الله لك، وإن كنت ممن شردوا عن صراط الله وعن سبيل الإيمان بالله فإني أحيلك إلى إنسانيتك وهي فطرة فطرك الله عز وجل عليها. إياك أن تجعل من هذه الحالة الامتحانية التي يزجنا الله عز وجل فيها سبيلاً لاحتكار الأرزاق، سبيلاً لرفع أثمانها وأنت اشتريتها بثمن رخيص قبل أن تحيق هذه الشدة. لماذا يا هذا الإنسان؟ لماذا تنتهز فرصة حاجة أخيك لتقتله فتحيا من وراء موته، لماذا؟

مرة أخرى بل مرة ثالثة أيضاً أوصي نفسي وأوصي إخواننا في الشام بأن يضربوا المثل الأعلى في التراحم. إن كان من حولنا أناس يضربون المثل الأحط في المقاطعة التي لا تبالي بالفقير ومآله فأنا أدعو نفسي وأدعوكم يا أهل الشام إلى أن تضربوا المثل بالتراحم.



تشغيل

صوتي
مشاهدة