مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 28/10/2011

صفات الحج المبرور وأثره في حل مشكلات الأمة

تاريخ الخطبة


‏‏الجمعة‏، 01‏ ذو الحجة‏، 1432 الموافق ‏28‏/10‏/2011‏

صفات الحج المبرور وأثره في حل مشكلات الأمة

الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك. سبحانك اللهم لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله. خير نبي أرسله. أرسله الله إلى العالم كلِّهِ بشيراً ونذيراً. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين. وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى. أما بعد فيا عباد الله:

إن مشاكلنا متفاقمة متزايدة كما ترون اليوم، بل إنها لمشكلات العالم الإسلامي الأجمع، وإننا لننظر فنجد أنفسنا في اليوم الذي وصفه رسول الله r بدقة إذ قال:

(ستداعى عليكم الأمم – أي الدول – كما تداعى الأكلة إلى قصعتها قالوا: أمن قلة نحن يا رسول الله يومئذ؟ قال: بل أنتم كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل).

ولاشك أن المشكلات أياً كان نوعها يجب أن تُعالَج، وإن من بين العلاج الوسائل المادية المعروفة، ولكن فلنعلم جميعاً يا عباد الله أن هذه الوسائل المادية مهما كثرت وتوافرت لن تغني المسلمين شيئاً عن العلاج الأول الأوحد ألا وهو علاج الالتجاء إلى الله والفرار إلى الله سبحانه وتعالى. ولحسن الحظ ننظر فنجد أن موسم الالتجاء إلى الله وموسم التضرع على بابه ها هو ذا قد عاد، فنحن اليوم نعيش في الأشهر الحرم، نعيش في قدسية هذه الأشهر التي نوَّه بفضلها بيان الله عز وجل، وها هو ذا موسم الحج إلى بيت الله الحرام قد عاد وآب، إذاً فإن الأبواب اليوم مفتحة أمام أول علاج – بل أكبر علاج – للتخلص من المشكلات التي رانت علينا بل التي تطوف بالعالم الإسلامي أجمع.

ولكن ينبغي أن أنبه وأن أُذَكِّر بأنه ليس كل من توجَّه حاجاً إلى بيت الله الحرام أتيح له أن يعالج نفسه أو يعالج أمته بهذا العلاج، علاج التضرع والالتجاء والفرار إلى الله عز وجل. ليست العبرة يا عباد الله بالحج المبرور أن يرتدي أحدنا ثياب الإحرام وأن يقول بلسانه لبيك ولبيك، وليس العبرة بالحج المبرور أن يندمج مع الناس الطائفين حول بيت الله الحرام فيطوف كما يطوفون ويتحرك كما يتحركون. كم من أناس يتوجهون في هذه الأيام حجاجاً في الظاهر إلى بيت الله الحرام ولكن المقصد الذي استقر في قلوبهم وجنبات نفوسهم أبعد ما يكون عن معنى الالتجاء إلى الله بل عن معنى العبادة والعبودية لله. فيهم من قد استبد بهم الشوق إلى لقاء رفقة، إلى لقاء أقارب وأرحام برَّحَ بهم الشوق إلى لقائهم، يذهبون حجاجاً إلى بيت الله الحرام من أجل هذا الغرض.

فيهم الذين وجدوا أن هذه الرحلة تعود لهم بربح مالي كبير، يذهبون بقصد التجارة.

فيهم أناس علموا أن منهاج رحلتهم ستضمن سهرات ومتع وليالي أنس وسمر وطرب، تشدهم الرغبة إلى الحج ابتغاء هذا.

أفيُعد هؤلاء في ميزان الله عز وجل حجاجا؟ أفيتأتى لأحدهم أن يلتجئ إلى الله وقد أعرض عن الدنيا ونسيها وأقبل يتذكر عرصات القيامة؟ لا أيها الإخوة، لن يتأتى منه ذلك.

فيهم من توجه حاجاً إلى بيت الله الحرام لكنه سلك إلى ذلك سبيلاً غير شرعي، دفع المال الكثير أو القليل رشوة من أجل تأشيرة الدخول، اشتراها بسعر السوق السوداء.

فيهم الناس الذين غطوا أنفسهم بمهن، ذهبوا باسم هذه المهن إذ لم يتأت لهم أن يذهبوا إلا عن طريق هذه النافذة وما هم من هذه المهن بشيء ولا شأن لهم بها قط، وإنكم لتعلمون هذا، والله عز وجل طيب لا يقبل إلا طيباً.

فيهم أناس ركبتهم الديون وتوجهوا حاجين إلى بيت الله الحرام دون أن يستأذنوا أصحاب هذه الديون وقد علم كل دارس لشريعة الله جل جلاله أن المدين لا يجوز أن يتحرك من الأرض التي فيها دائنون إلا بعد أن يوفي لهم حقوقهم أو أن يستأذنهم.

هؤلاء هم حجاج في الظاهر ويكثرون سواد الحجيج، ولكن فلتعلموا أن حل المشكلة ليس بيد هؤلاء أبداً، يعودون كما ذهبوا، بل لعلهم يعودون بأوزار لم يكونوا يتحملونها عندما ذهبوا.

إنما الحاج هو ذاك الذي نظر إلى قلبه فطهره من سائر الغايات والأهداف الدنيوية وملأه بالإخلاص لوجه الله عز وجل، نظر إلى الطريق الذي شرعه الله عز وجل للحج فسلك هذا الطريق ولم يحد عن هذا الطريق المشروع يمنة ولا يسرة، لاحظ سُلَّمَ الأولويات في الشريعة الإسلامية، علم أنه قد حج قبل اليوم مثنى وثلاث ورباع وعلم أنه إن توجه اليوم حاجاً إلى بيت الله الحرام فلسوف تُغلَق أبواب مصالح للناس، لعباد الله عز وجل بسبب غيابه ولا بديل عنه يقوم مقامه، أدرك هذا فقيَّد نفسه بضوابط الشرع واتجه حاجاً إلى بيت الله الحرام بهذا الدافع الطاهر المنقى عن الشوائب والأدران، هؤلاء هم الذين نرجو أن تُحَل مشكلات العالم الإسلامي عندما يصلون إلى بيت الله الحرام، عندما يقفون في يوم عرفة في ذلك اليوم المصغر عن اليوم الذي يقوم فيه الناس لرب العالمين، هؤلاء هم الذين يُرجَى أن تكون مفاتيح حل مشكلات العالم الإسلامي بأيديهم.

أقول لهذا الذي ينضبط بسلوكه وقصده إذ يتجه حاجاً إلى بيت الله الحرام: يا أخي إذا رأيت نفسك قد وصلت إلى بيت الله الحرام واكتحلت عيناك بمرآه ورأيت نفسك تطوف ببيت الله مع الطائفين فتصور أنك إنما تطوف حول القيم التي وضعها الله عز وجل أمانةً في عنقك، تصور أنك تطوف حول ذل العبودية لله متجهاً بهذا الذل إلى قيوم السموات والأرض. تذكر وأنت تطوف حول هذه الأحجار قول المصطفى r وهو يطوف طوافك هذا: (لبيك اللهم حقاً وصدقاً، لبيك اللهم تعبداً ورقا).

أطوف لأنك أمرتني بذلك، أدور حول هذه البنيَّة لأنك أنت الذي أمرتني بذلك. فإذا أتيح لك أن تلصق صدرك بالملتزم وبسطت يديك يميناً وشمالاً على الملتزم فتصور أنك تسأل الله عز وجل أن يأخذك من نفسك إليه، تصور أنك تسأل الله سبحانه وتعالى بذلك عبوديتك له وبعظيم افتقارك إليه أنك تترامى في ساحة رحمته وأنك تلصق نفسك بوابل فضله وكرمه وجوده وادع الله بكل ما يتحرك به لسانك لنفسك، لذويك، لإخوانك في الإنسانية، لإخوانك في العالم الإسلامي، واسأل الله سبحانه وتعالى لهم الحل السريع لمشكلاتهم والكرم الواسع الذي يتجلى في مثل هذه الأيام عليهم برحماته. فإذا توجهت بعد ذلك إلى رابيتي الصفا والمروة وأخذت تسعى مع الساعين بينهما فتصور وأنت تسعى بين هاتين الرابيتين أنك تقول لمولاك عز وجل ما قاله كليمه من قبل:

(وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى) [طه : 84].

تذكر وأنت تسعى سعيك هذا وتصور أنك تقول لمولاك ها أنا قد جئت من دويرة أهلي (وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى)، فإذا وصلت إلى رابية المروة فقف هناك واعلم أن شآبيب الرحمة الإلهية تنهمر هناك ولا تنقطع ارفع يديك، ابسط كفيك إلى سماء الرحمة الإلهية، ادع الله واجعل من عبوديتك قربى بين يدي دعائك، لا تجعل من أعمالك المختلفة شفيعاً بل اجعل عبوديتك لله عز وجل هي الشفيع بين يدي دعائك، ادع الله لنفسك ولذويك ولإخوانك في الإنسانية وفي الإسلام، ادع الله للعالم الإسلامي.

وإذا جاء ذلك اليوم المصغر من أيام القيامة، تلك الأيام التي يعدنا بل يتوعد في كثير من الأحيان بها ربنا عز وجل ووقفت مع عباد الله عز وجل في ذرا عرفة وانس الدنيا كلها يا أُخيّ، انس علاقتك بالأرض الفانية، انس علاقتك بكل شيء في هذه الدنيا وتذكر رحلتك إلى الله، تذكر وقفتك التي لا ريب فيها بين يدي الله سبحانه وتعالى. في تلك الساعة تصور أنك تقف بين يدي الله للحساب، وإنها لوقفة قادمة لا ريب فيها، تصور أن الجنة أمامك وأن عذاب الله وسعيره أيضاً أمامك ولا تدري إلى أي المصيرين ستنتهي، كيف يكون حالك آنذاك؟ تصور أنك في تلك الساعة، ناجِ الله، قل له: أي رب لقد سترتني في دنياني فأسبغ وأدم علي سترك إذ يقوم الناس لرب العالمين، سترتني ولم تفضحني ها أنا قد جئتك مثقلاً بالأوزار، أوزار أنت تعلمها ولكن عبادك لا يعلمونها، أنت الستير، أسألك اللهم كما أسبغت سترك علي في دنياني أن تسترني يوم يقوم الناس لرب العالمين، يوم أقف هذه الوقفة بين يديك، أسألك اللهم بذل عبوديتي لك وبرحمتك التي وسعت كل شيء أن ترحم عبادك البائسين التائهين في جنبات الأرض، ألهمهم أن يعودوا إلى رشدهم، ألهمهم أن يعودوا إلى صراطك القويم كما أعدت أولئك الناس الشاردين عن صراطك إذ بعثت إليهم خاتم النبيين والمرسلين فجعلت منهم أمة واحدة هلا جعلت من عبادك اليوم أمة واحدة كما كانوا بالأمس.

وإن الله عز وجل سيكرمك ولاشك بعد هذا أو قبل هذا بزيارة رسول الله r ومسجده، فإذا تغسلت وتطيبت ودخلت مسجد رسول الله وركعت الركعتين تصور أنك في ضيافة رسول الله حقاً، واعلم أن رسول الله حي لا ريب فيه ولاشك، يا عجباً لمن يقرأ قول الله تعالى:

(وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) [آل عمران : 169].

يؤمن بحياة الشهداء أشكالاً وألواناً ويضن بهذه الصفة لرسول الله وهو سيد الشهداء. يا عجباً لمن يضن بالحياة الحقيقية التي يتمتع بها رسول الله اليوم وإنها لحياة أشد وأبلغ وأكثر فاعلية من حياتنا نحن.

سلِّمْ على رسول الله وقل له أشهد يا رسول الله أنك قد بلغت الرسالة ونصحت الأمة فجزاك الله عن أمتك خير ما جُزِيَ نبي عن أمته، ها أنا قد هُدِيت ولولا فضلك لما اهتديت، لولا الرسالة التي بلغتها الآفاق لكنت أتطوح في ظلمات الضلال والتيه اليوم، ثم اشك إلى رسول الله، اشك إلى رسولك المجتبى r حالك وحال أمته، قل له: يا رسول الله كم بكيت وأنت تناجي ربك قائلاً أمتي أمتي حتى جاءك الوحي عن طريق جبريل يقول: يقول لك الله لن نسوءك في أمتك، قل له: ها هي ذي أمتك تعاني من المشكلات ألوانا، ها هي ذي أمتك قد حل بها ما قد وعدت، ما قد ذكرت، ها هي ذي دول البغي تطوف حولها كما تطوف الأكلة على قصعتهم وعلى مائدة طعامهم فهلا ناجيت ربك اليوم كما ناجيته بالأمس أمتي أمتي، هلا أقبلت إلى الله وتضرعت كما كنت تتضرع حباً لأمتك وشفقة لأمتك أن ينقذها الله عز وجل من براثن هؤلاء الطغاة، يا رسول الله إن أعداء دينك وأعداء مولاك وخالقك وأعداءك يا رسول الله قد تحكموا برقاب المسلمين اليوم وها هي ذي الأنياب منهم تبضع وتمزق وحدة المسلمين، ها هي ذي المخالب منهم تقطع أوصال المسلمين، وهاهم أولئك يستقدمون جنوداً لهم في سبيل ذلك، قل: يا رسول الله لن أتحول من موقفي ضيفاً لديك وأنا ضيفك وأنت الكريم حتى تقبل إلى ربك فتسأله أن ينقذ عباده المسلمين مما أصابهم، أن تنقذ عبادك المسلمين من الضيم الذي طاف بهم.

هذا هو الحج المبرور، إذا أتيح لك وأنت تتجه إلى بيت الله الحرام أن تتطهر قلبك من النيات والشوائب السيئة وإذا أتيح لك أن تسلك الطريق المشروع المنضبط بأوامر الله وإذا أتيح لك أن تذهب ملتجئاً إلى الله وأن تعود متجلبباً بذل العبودية لله فاهنأ بحج مبرور ومقبول تعود منه إلى بيتك وكأنك خُلِقْتَ اليوم ليس عليك من وزر تَسْوَدُّ به صحائفك. أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من عباده المخلصين، وأسأله عز وجل أن يجعلنا من الملتزمين بأوامره والمنتهين عن نواهيه، أقول قولي هذا وأستغفر الله.



تشغيل

صوتي
مشاهدة