مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 14/10/2011

الحب في حياة الإنسان ، داء ودواء

تاريخ الخطبة


‏‏الجمعة‏، 17‏ ذو القعدة‏، 1432 المواق ‏14‏/10‏/2011‏

الحب في حياة الإنسان، داء ودواء

الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك. سبحانك اللهم لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله. خير نبي أرسله. أرسله الله إلى العالم كلِّهِ بشيراً ونذيراً. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين. وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى. أما بعد فيا عباد الله:

إن الحب في حياة الإنسان هي الجرثومة التي تفتك بسعادته ومقومات عيشه فرداً ومجتمعاً ودولة، والحب هو الدواء الشافي وهو المصل الواقي من تلك الآفات كلها أيضاً، وهكذا فإن الحب في حياة الإنسان داء ودواء. ولكن متى يكون الحب داءً ومتى يكون دواءً؟

أحسب يا عباد الله أن الإجابة عن هذا السؤال من الأهمية بمكان، فلنستوعب جواب ذلك مستخلَصاً من كتاب الله ومستخلصاً من حديث رسول الله r.

يكون الحب في حياة الفرد والمجتمع والدولة داءً فتاكاً وجرثومة مهلكة عندما يتوجه الإنسان بالحب لذاته، ومعنى توجه الإنسان بالحب إلى ذاته أن يحب في ذاته أهواءها ورغائبها وغرائزها الحيوانية، وأن يحب في ذاته رغائبها ومبتغياتها وعصبيتها للذات أو للجماعة التي تعتز بها وتنتمي إليها. عندما يتوجه الإنسان بالحب لذاته من خلال هذه الرغائب والشهوات التي ذكرتها لكم يكون الحب جرثومة فتاكة ويكون داءً وبيلاً، كيف ولماذا؟

ذلك لأن رغائب الناس مختلفة ولأن مصالحها الذاتية الآنية متعارضة وربما متناقضة، ولأن غذاءها العصبي متناقض ومختلف ومن ثم فلا بد أن تتصادم الرغبات ولابد أن تتصادم الأهواء والشهوات والعصبيات ومن ثم فلابد أن يتحول التصادم إلى صراع ولابد أن يتحول الصراع إلى عداء وخصومات وحروب، ودونكم فتأملوا في حياة الأمم السابقة هل نُكِبَتْ بالعداوات والنكبات والحروب المختلفة إلا لهذا النوع من الحب الذي كان جرثومة فتاكة في حياتها؟ فهذا هو الحب الداء، وهذا هو الحب الذي يشكل جرثومة في حياة الإنسان فرداً ومجتمعاً ودولة.

والآن ما هو الحب الدواء؟ ما هو الحب الذي يكون مصلاً واقياً من عقابيل تلك الجرثومة يا عباد الله؟

الحب الدواء هو أن تتجه يا ابن آدم بحبك إلى الواحد الفرد الذي هو أهل لحبك، أن تتجه بحبك إلى من {خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ} [الانفطار : 7-8]

الحب الدواء هو أن تعرف ربوبية مولاك من خلال معرفة عبوديتك الضارعة لإلهك هذا.

ولكن كأنكم تقولون: فما السبيل إلى ذلك؟ ما السبيل إلى أن أنعتق من ذلك الحب الذي هو داء وبيل وجرثومة فتاكة لأعلو إلى هذا الصعيد وأتعامل مع هذا الحب المستعد؟ نعم، إليكم بيان السبيل إلى ذلك في هذه الكلمات الموجزة التي تليق بهذا الموقف.

عباد الله: إن الإنسان إذا استثنينا منه هذا القفص الجسدي مُرَكَّبٌ من حقيقتين اثنتين؛ من الروح الهابطة إليه من الملأ الأعلى، ومن الغرائز الحيوانية التي ابتلى اللهُ عز وجل الإنسانَ بها، وصدق الله سبحانه وتعالى إذ يقول:

{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ} [آل عمران : 14].

هذه الحقيقة ينبغي أن نعلمها أولاً.

إذاً الروح حقيقة مختلفة عن الغرائز الحيوانية، عن النفس التي تحتضن شهواتها وأهواءها كما نشعر جميعاً، الروح هبطت إليك يا ابن آدم من الملأ الأعلى، الروح منتسبة إلى مولاها وبارئها جل جلاله، وصدق الله القائل للملائكة:

(فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ) أي في آدم (مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ) [الحجر : 29].

ومن ثم فإن روحك التي تخفق بين جوانحك تظل تحن إلى العالم العلوي الذي أُهْبِطَتْ منه، تظل تعاني من الشوق إلى إلهها الذي تنتسب إليه، تظل تعلن عن حبها لإلهها الذي تنتسب إليه، لكن لماذا لا نشعر بهذا الحنين؟

سِرُّ ذلك يا عباد الله أن هياج النفس الأمارة بالسوء، أن هياج الغرائز الحيوانية التي تبحث عن مبتغياتها في كيان الإنسان تظل تعلن عن رغائبها وتثبت هذه الرغائب في لوحة الشعور الإنساني، وإذا رأت حنين الروح إلى العالم العلوي صادرت الأهواءُ الغريزية، الأهواءُ المنحطة صادرت هذه المشاعر الروحية لحسابها. فأنت تشعر بالحنين يُخَيَّلُ إليك أنه حنين إلى الدون وإلى الأرض وما فيها، تشعر بالحب يُخَيَّلُ إليك من مصادرة الأهواء التي بين جوانحك لصوت الروح يُخَيَّلُ إليك أنه حبٌّ لعصبياتك، لأهوائك، لمشاعرك، نعم. من أجل هذا فإننا نشعر برغائب الجسد بل برغائب الغرائز الحيوانية صباح مساء ونرى كيف أنها تدفعنا إلى رغائبها ونرى كيف أن العصبية الذاتية والجماعية وهي لون من ألوان الاستكبار تحفز بكل منا إلى تحقيق ما يطلب، صوت الروح خَفِيٌّ في ضرام هذا الصياح الذي نسمعه للغرائز الحيوانية المختلفة. هذا هو السبب في أننا لا نتبين حنين الروح إلى عالمها الذي أُهْبِطَتْ منه.

حسناً فما العلاج الذي به نقف وجهاً لوجهٍ أمام الروح ونتبين نشيدها ونتبين حنينها ونتبين محبوبها الذي تخفق حباً إليه؟ ما السبيل؟

سبيل ذلك يا عباد الله – وأقوله لي، لنفسي أولاً ولكل منكم ثانياً – سبيل ذلك الإكثار من ذكر هذا الإله الذي من ابتداؤنا وإليه انتهاؤنا، وأنا لا أعني بالذكر المعنى التقليدي الذي قد يقفز إلى أذهانكم ولكني أعني بالذكر هذا المعنى الذي أقول والذي أرجو أن يثبت في أذهان كلٍّ منا ثم أن يستقر في قلبه.

أعني بالذكر أن نتبين أن هاتين العينين المبصرتين إن هما إلا هدية نزلتا إليك من هذا الإله الخالق.

أن نتبين أن هذا السمع الذي تتمتع به إن هو إلا هدية هبطت إليك من لدن مولاك وخالقك.

أن تتبين أن العقل الذي تتمتع به والذي جعله الله زينة لوجهك ولتقاسيم وجهك إن هو إلا هدية أنزلها الله سبحانه وتعالى عليك.

أن تتبين وأنت تجلس على مائدة الطعام أن كل هذه الألوان إن هي إلا نتيجة وحصيلة أمطار هبطت ونباتات فُجِّرَتْ وأنعام سخَّرها الله لك ضروعاً ولحماً، تلك هدية أخرى من قبل الله سبحانه وتعالى لك.

ذكر الله أن تنظر إلى الدنيا التي من حولك على اختلاف أشكالها وتنوع لوحاتها فتعلم أنها صنعة ذلك الإله الحكيم، الحكيم فيما صنع الرحيم فيما أبدع.

ذكر الله جل جلاله أن تنظر إلى نباتات الأرض واخضرارها والرياحين التي ترسل عبقها إلى أنفك أن تعلم أنها هدية الله إلى عينيك وأنفك.

أن تتأمل في الزهور – وما أكثر تنوعها وما أعجب ألوانها – والورود فتعلم أنها رسائل حبٍّ من الله إليك، أن تتبين هذا دائماً.

ذكر الله – إذا أُبْتَ مساءً إلى فراشك وتمددت تنتظر نعمة الرقاد أن تعلم أن هذا الرقاد هدية من خالقك الذي أبدعك وصورك وأكرمك.

ذكر الله – إذا أخذت حظك من الرقاد وآبت إليك الروح وأنت نشيط بعد الكد والتعب – أن تعلم أن هذه اليقظة هدية من الله أرسلت إليك.

ذكر الله – إذا دخلت الحمام – أن تعلم أن هذا الذي نقَّاكَ الله عز وجل منه من الدرن ومن الأرجاس إن هو إلا هدية الله لك.

أن تعلم أن هذا الماء الطاهر المطهر إن هو إلا هدية الله سبحانه وتعالى لك.

هذا ما أعنيه بالذكر. فإذا عاش أحدنا وهو يربط هذه المظاهر بكرم الله ويعلم أنها رسائل حب وتكريم من الله عز وجل لك ما الذي يحصل؟ يخفت صوت الغرائز الحيوانية ويخبو ضرام الشهوات النفسية ويعلو صوت الروح، يعلو حنين الروح إلى بارئها. ستنصت إلى روحك فتسمع نشيد الحب لكن لمن نشيد الحب؟ لا للغرائز، لا للعصبيات، لا للمال، لا للشهوات والأهواء ولكنه نشيد الحب لمن فطرك، لمن أبدعك، لمن كرَّمك وصدق الله القائل:

{وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} [الإسراء : 70].

هذا ما أعنيه بذكر الله، هذا هو العلاج يا عباد الله. كم نحن بحاجة إلى هذا العلاج، وما أيسر أن نستعمله، ما أيسر أن نمزق الحجاب الكثيف القائم بيننا وبين صوت الروح، هذه الروح التي هبطت إلينا من الملأ الأعلى وذلك عن طريق ربط نعم الله بالمنعم. كم وكم يحدثنا ربنا عن السمع والأفئدة ويقول: {قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ} [المؤمنون : 78].

لماذا لا نشكره، بل أقول لماذا لا نتذكر هذه الحقيقة؟

عباد الله: الإنسان مفطور على محبة من خلق، الإنسان مفطور على محبة إلهه، ذلك لأن الإنسان مفطور على محبة الجمال والإحسان والعظمة، وهل هنالك عوامل للحب غير هذه العوامل الثلاثة؟

من هو الجميل الأوحد الذي ينبغي أن يتعلق القلب بجماله؟ هو الله.

من هو المحسن الأوحد الذي ينبغي أن نَعْنَوَ لإحسانه؟

من هو العظيم الأوحد الذي ينبغي أن يفيض القلب منا تعظيماً له؟ هذا هو العلاج.

وإذا رأيتم من الناس من يعرض عن هذا العلاج في مراحل حياته، كثيرون هم الذين يعرضون ويصغون إلى أصوات الغرائز والشهوات النفسانية المختلفة، لكن ما أسرع ما ينقضي الشباب وما أسرع ما تنقضي الكهولة وما أسرع ما تجد أن هذا الإنسان قد دخل في مدارج الشيخوخة عندئذٍ تذبل الشهوات ويخبو ضرامها بطبيعة الحال سواء ذكر الله أم لم يذكره، ينظر هذا الإنسان في هذه الحال إلى كيانه ويصغي السمع فلا يكاد يسمع ما كان يهتاج بين جوانحه من الرغبة في تحقيق الغرائز والشهوات والعصبيات والأهواء وجمع المال من هنا وهناك، أين هذا الصوت الذي كنت أسمعه؟ لا يوجد أي صوت. أين هذا الهياج الذي كنت أخضع لسلطانه؟ لا شيء الآن. ويصغي السمع وإذا بصوت الروح قد أصبح جلياً، لماذا؟ لأن الضجيج انتهى. يصغي السمع هذا الإنسان الذي دخل في مدارج الشيخوخة فيصغي السمع إلى روحه التي تقول: أنا إنما أعشق المآل، أنا إنما هبطت من العالم العلوي الذي سأعود إليه، أنا حبيبي هو الله، وعندئذٍ تنظر إلى هذا الإنسان الذي دخل في مراحل الشيخوخة وقد آب إلى الله وقد أمسك بالسبحة وأخذ يذكر الله وأخذ يتوب إلى الله، لماذا؟ لأن ضرام الشهوات توقفت ولأن الأهواء سكتت ومن ثم ظهر صوت الروح، ظهر حنين الروح إلى بارئها.

أسأل الله أن يجعلنا نصغي السمع إلى أرواحنا هذه قبل أن تحيق بنا الشيخوخة، قبل أن ندخل في مدارج الشيخوخة.

أسألك اللهم أن تلهمنا ذكرك، وأسألك اللهم أن تجعلنا ممن يربط نعمك بذاتك العلية حتى نعشقك.

آمنا بأنك أنت الجميل الأوحد فما ينبغي أن نعشق إلا هذا الجميل الواحد.

آمنت بأنك المحسن الأوحد فما ينبغي أن نحب إلا هذا المحسن الأوحد.

آمنا أنك أنت العظيم الأوحد.

أسأل الله أن يرزقني وإياكم نعمة لذة حبه، معرفته، الشوق إليه.

أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.



تشغيل

صوتي
مشاهدة