مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 09/09/2011

ساعة في نقد الذات ضرورة للأمة وقادتها

تاريخ الخطبة


‏‏الجمعة‏، 11‏ شوال‏، 1432 الموافق ‏09‏/09‏/2011‏

ساعة في نقد الذات

ضرورة للأمة وقادتها

الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك. سبحانك اللهم لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله. خير نبي أرسله. أرسله الله إلى العالم كلِّهِ بشيراً ونذيراً. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين. وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى. أما بعد فيا عباد الله:

إذا تذكرنا الحقيقة القائلة بأن الأمة بشطريها القادة والشعب إن هي إلا شخصية اعتبارية واحدة، إذا تذكرنا هذه الحقيقة فلنعلم أن على هذه الشخصية متمثلة في سائر أفرادها أن تعكف على ساعة قدسية من نقد الذات وأن تعيد تنسيق المسؤوليات فيما بين أجزائها وأعضائها، فما أكثر ما ترامت هذه الأعضاء مسؤولياتها بعضها على بعض. هذه الحقيقة يذكرنا بها دائماً كتاب الله عز وجل، وتأملوا يا عباد الله في هذه الآيات التي تأمرنا بهذه الساعة القدسية:

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [الحشر : 18].

تأملوا في قوله سبحانه وتعالى:

(بَلِ الْإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ) [القيامة : 14-15]

بوسعه أن يعلم نقائصه وأراد أن يقف أمام هوية ذاته، تأملوا في قوله سبحانه وتعالى في محكم تبيانه وهو يقول:

(عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ) [الانفطار : 5].

وهذا العلم إنما هو في دار الدنيا كما قال العلماء.

عباد الله: إن لم تنطلق الأمة أفراداً من العكوف على هذه الساعة القدسية – نقد الذات، محاسبة النفس – فإن القوانين مهما رُصِفَتْ لا تصلح فاسداً ولا تقوِّمُ اعوجاجاً، وإن موادها مهما تناسقت أيضاً هي الأخرى لا تصلح فاسداً ولا تقوِّمُ اعوجاجاً، المنطلق هو الفرد، المنطلق إنما يتمثل في نقد الذات. تعالوا نضرب بعض الأمثلة التي تجسد هذه الحقيقة التي يضعنا أمامها بيان الله سبحانه وتعالى.

ما أكثر ما تظالم أفراد الأسرة الواحدة، ما أكثر ما يتظالم الزوجان لأن الزوج قد أهدر حقوق الزوجة فيما يتعلق بحقها بالمهر ونحوه، وما أكثر ما أهدر حق الزوج من قبل الزوجة في كثير مما شرع الله وأمر لأن أياً منهما لم يعكف على ساعة قدسية من نقد الذات، ما أكثر ما يتظالم الأولاد ذكوراً وإناثاً لأن الإناث حرمن من حقهن في الميراث لأنهن إناث، ولعلكم تعلمون هذه الظاهرة الجاهلية التي لا تزال تسري إلى كثيرٍ من البيوت، ومن ثم فإن الأحقاد والضغائن هي التي تتوضع في مكان المحبة والوئام.

تعالوا ننظر إلى أسواق التعامل، ما أكثر ما يتظالم رجال المال والأعمال مع الناس المستهلكين الذين يغشون أسواق العمل وأسواق الاقتصاد، ذلك لأن التجار ورجال الأعمال منصرفون إلى أبواب الرشاوي التي تجعلهم يفرون من القوانين والشرائع وتجعلهم يتملصون منها ذات اليمين آناً وذات الشمال آناً، أو يعكفون على ابتداع وسائل الغش والخداع والغرر وما أكثر هذه الأنواع وما أكثر ما يُبتَدَعُ منها اليوم، ومن ثم فإن علاقة ما بين هؤلاء الناس بعضهم مع بعض تتحول إلى أحقادٍ وضغائن بدلاً من أن يمتد فيما بينها نسيج الأخوة، نسيج التعاون والوئام، ترى ماذا عسى أن تصنع الشرائع المكتوبة وماذا عسى أن تفعل القوانين المرسومة عندما تغيب هذه الساعة القدسية، ساعة العكوف على النقد، ساعة العكوف على نقد الذات ومحاسبة النفس، وصدق من قال: (حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا).

عباد الله: تعالوا نتأمل في الليالي وما تُحشى بها هذه الليالي وساعاتها، تعالوا نتأمل في العمر الثمين الذي لا أقول ملكنا الله عز وجل إياه بل ائتمننا عليه، فيم تزهق هذه الساعات، فيم تتبدد بل هذه الدقائق وهي أمانة وضعت في أعناقنا ونحن نعلم أيها الإخوة مما سمعنا الآن من بيان الله عز وجل أن الإنسان مدفوع إلى هذه الساعة القدسية من محاسبة النفس ونقد الذات، مدفوع إلى ذلك من اليقين بالحقيقة التي لا ريب فيها وهي أننا نعيش من حياتنا هذه في ممر نعبره إلى مقر، من لم يؤمن بذلك اليوم طوعاً فلا بد أن يستيقنه غداً قسراً واضطراراً، هذه هي الحقيقة ينبغي أن نتبينها.

أما ثالثة بل رابعة الأثافي فتتمثل في هذه الصورة التي لا يكاد يصدقها العقل، صور إنسان – أجل يسمى إنسان – يعمل إلى تخريب بلده وإحراق بنيانها في سبيل أن تعمر جيبه ببضعة آلاف، نعم، يعمد إلى تخريب بلده، يعمد إلى تحريق بنيانه من أجل أن تعمر جيبه ببضعة آلاف من المال وهو يعلم لو عكف على ساعة من نقد الذات أن هذه الآلاف لن تبقى حبيسة في جيبه بل ستسري بأخبث الأمراض إلى جسده ولسوف تستقر ناراً كاوية من الندامة في قلبه وبين طوايا جوانحه ولسوف تقيمه الندامة ثم لا تقعده ولسوف يذيبه ضرام هذه الندامة شيئاً فشيئاً كما يذوب الدهن فوق نار كاوية، يعلم هذا لو أنه عكف على ساعة قدسية من نقد الذات.

يا عباد الله، يا ناس هل سمعتم عاقلاً يخرب داره من أجل أن يُفْرِحَ عدوه؟! هل سمعتم عاقلاً يزهق نفوس إخوانٍ برآء في سبيل أن يضمن أمن عدوه؟! هل سمعتم بهذا؟! مهما كان الذل مهيمناً على كيان الإنسان، مهما كانت المهانة آخذة منه بالعنق فإن إنسانيته ستجمح به دون الإقدام على هذا الأمر، لكن هذا يتم اليوم، لماذا؟ لأن هذا حيل بينه وبين إنسانيته لأنه لم يقف لحظة واحدة أمام مرآة ذاته وقفة نقد، وقفة محاسبة. قالوا: إن العاقل في الناس هو من لا يفعل فعلاً يعلم أنه سيندم عليه – وحقاً ما قالوا – هذه الحقيقة لا ريب فيها ولاشك يا عباد الله. لقد رؤي بعض من هؤلاء الناس وإن الواحد منهم يلطم وجهه، وإن الواحد منهم يسب ذاته، ولقد آل الأمر ببعض منهم إلى الانتحار ليتخلص من عقابيل هذه الندامة. أرأيتم يا عباد الله إلى ما أمر الله عز وجل به وذكَّر ونبَّه إليه من ضرورة الوقوف أمام ساعة قدسية من نقد الذات هذه الحقيقة يخاطب بها القادة وتخاطب بها الأمة جمعاء يا عباد الله. نعم يجب أن نتذكر إلى جانب هذا المعنى الذي قلته لكم الحقيقة القائلة: إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن. صحيح أن القوانين تُشَلُّ إذا لم يقف الإنسان الفرد ساعة قدسية لنقد ذاته ولكن الحقيقة هكذا تقول: إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن. لئن تاهت الأمة عن هذا العلاج الذي ذكَّر به الله سبحانه وتعالى فإن علاجاً آخر لا يزال موجوداً، هو العلاج الذي أمكن الله عز وجل السلطان منه، سلطان التربية، التربية التي تعلو بالأمة صُعُداً شيئاً فشيئاً إلى أن يعانق كل فردٍ منها هذه الساعة القدسية، إلى أن يصبح كل واحدٍ منهم يعكف كل واحد منهم على محاسبة نفسه وعلى نقد ذاته على ضوء المَقر الذي هو آيلٌ إليه بعد هذا الممر الذي هو فيه.

التربية؛ من الذي يملك أمرها؟ السلطان، أي قادة الأمة. التربية التي تقوم على القيم قبل أن تقوم على العلوم، وما أفادت العلوم شيئاً إن أصبحت مكنة أو سلاحاً في أيدي من لم يُرَبَّ هذه التربية التي يتحدث عنها بيان الله سبحانه وتعالى. إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن عن طريق المراقبة، عن طريق المحاسبة، عن طريق العقاب، أجل. ولقد قلت لكم: إن القانون لا يوجد شيئاً معدوماً مهما كان دقيقاً ومهما صَلُحَ أمره ولكنه يحرس ما هو موجود، القوانين كلها في العالم أجمع بما فيها شرائع الله سبحانه وتعالى لا توجد شيئاً معدوماً وإنما تحرس ما هو موجود، أوجد المعدوم أولاً، المعدوم الذي لابد أن يوجد عن طريق العقيدة السلمية، عن طريق الإيمان بالله عز وجل، ثم عن طريق محاسبة النفس عن طريق الوقوف على هذه الساعة القدسية من محاسبة الذات ومن نقد النفس والذات، أجل، هذا هو المنطلق. إذا وجدت هذه الحقيقة جاء دور القانون ليحرس هذه الحقيقة أيما حراسة. التربية هي الغذاء الذي ينمي ويغذي ويرسخ جذور هذه الحقيقة المثلى، حقيقة الإيمان بالله، حقيقة التربية على هذا الأساس، وأنتم تعلمون أين تقع المؤسسات التربوية وكيف ينبغي أن تمارِس وكيف ينبغي للأمة أن تمارَس من خلال هذا الواجب.

مرة أخرى أقول أيها الإخوة كلنا بحاجة إلى أن نقف وقفة قدسية مع نقد الذات وأهم هؤلاء الذين يجب عليهم أن يقفوا هذه الوقفة القدسية هؤلاء الإخوة الذين أشفق عليهم أكثر مما أحقد أو أنتقد عليهم، هؤلاء الذين عمدوا إلى إحراق بلادهم وإتلافها وتخريب دورهم من أجل بضعة آلاف توضع في جيوبهم، يا هذا والله إن لن تستمتع بهذه الآلاف، والله إنها ستسري بأخبث الأمراض إلى كيانك، والله الذي لا إله إلا هو إنها ستوقد ضراماً من نار الندامة بين جوانحك ثم إنها لا يمكن أن تخمد بشكل من الأشكال حتى تذيبك، أنا أشفق على هؤلاء الأخوة وأرجو أن يبلغهم كلامي ونصحي. يا ناس كلكم – وأبدأ بنفسي – تعالوا نقف ساعة قدسية أمام نقد الذات، نحن اليوم نتحرك فوق هذه الأرض وغداً سيحتضننا باطن هذه الأرض، أجل، يا من يبحثون لنفسهم عن قصور فوق هذا الركام ابحثوا عن قصوركم في باطن الأرض، أقول لكم كما قلت قبل أيام: قصورنا قبورنا فاجهدوا جهدكم أن يبني كل واحد لنفسه قصراً في باطن الأرض، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.



تشغيل

صوتي
مشاهدة