مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 26/08/2011

الهدية المخبأة والهدية الناجزة

تاريخ الخطبة


‏‏‏‏‏الجمعة‏، 26‏ رمضان‏، 1432 الموافق ‏26‏/08‏/2011

الهدية المخبأة والهدية الناجزة

الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك. سبحانك اللهم لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله. خير نبي أرسله. أرسله الله إلى العالم كلِّهِ بشيراً ونذيراً. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين. وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى. أما بعد فيا عباد الله:

لقد جرت سنة الله سبحانه وتعالى في عباده أن يصطفي في كل يومٍ من أيام رمضان لنفسه عتقاء من النار لا يحصي عددهم إلا الله، فإذا جاءت الليلة الأخيرة من شهر رمضان أعتق الله سبحانه وتعالى بقدر كل من أعتق من أول الشهر إلى آخره، ورد بذلك الخبر الصحيح عن رسول الله r في السنن وغيرها، تلك الهدية المخبأة أيها الإخوة من الله سبحانه وتعالى لعباده في أخريات هذا الشهر المبارك، وأعظم بها من هدية، يتحول التائهون وربما المارقون والضالون والجانحون عن صراط الله عز وجل إلى المغفرة، إلى العفو، إلى الإكرام الرباني، لكنها هدية مخبأة إلى يوم يقوم الناس فيه لرب العالمين، فماذا عن الهدية الناجزة التي سيكرمنا الله عز وجل بها في خواتيم هذا الشهر المبارك يا عباد الله؟

إن الهدية الناجزة هي هدية الفرج بعد الشدة، هدية اليسر بعد العسر، هدية عودة الأمن والسلم وطمأنينة البال إلى ربوع بلادنا المباركة هذه يا عباد الله.

ولماذا نستبعد ذلك إذا كانت رحمة الله سبحانه وتعالى اتسعت لأن يعتق التائهين، العاكفين على العصيان، السائحين في أودية الجهالة والضلال، إذا كانت رحمة الله الواسعة اقتضت أن ينتشلهم من تيههم في يومٍ واحد وربما في لحظة واحدة فيجعلهم من المعتقين من ناره لا لسبب إنما لأنهم صاموا هذا الشهر، إذا كانت رحمة الله عز وجل قد اتسعت لذلك فكيف لا تتسع لأن يكرمنا بهدية ناجزة نراها في دنيانا هذه، ننظر فنجد أنه سبحانه وتعالى أهدى إلينا الفرج بعد الشدة، أهدى إلينا اليسر بعد العسر، أهدى إلينا الأمن والسلم بعد الاضطراب والفتنة التي هاجت وماجت.

وهل أتوقع هذا أملاً من رحمة الله دون دليل آخر أعتمد عليه؟ لا يا عباد الله، فإن هنالك دليلاً قاطعاً يجعلنا نطمئن إلى أن هذه الهدية آتية وناجزة، ألم تتدبروا في هذا الذي يقوله الله سبحانه وتعالى:

(الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَـئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ) [الأنعام : 82].

تدبروا هذا الكلام.

(الَّذِينَ آمَنُواْ) ولقد آمنا، ونحن معتزون باليقين بأننا عبيد مملوكون لله عز وجل، وبأن إلهنا قيوم السموات والأرض إله واحد لا شريك له إليه المرجع والمآل، إذا فنحن مؤمنون، لكنه قال: (وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ) أي لم يخلطوا إيمانهم بظلم، هذا هو الشرط الذي يجب أن نقف عنده وأن نعود به إلى أنفسنا لنتساءل أخضعنا أنفسنا لهذا الشرط؟! (الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ)، هما ظلمان اثنان لا ثالث لهما، ظلم الإنسان لنفسه، وظلمه لإخوانه.

أما ظلم الإنسان لنفسه فيعني الاستكبار على الله سبحانه وتعالى، وما أكثر صور الاستكبار وما أكثر شواهده ودوافعه، من الظلم للنفس أن ينحط الإنسان في المعاصي ثم لا يقلع عنها، كل إنسان معرض لأن يقع في المعاصي لكن المؤمن يقع فيها ثم يقلع عنها، نعم تزل به القدم إلى الانحراف لكن عبوديته لله سرعان ما تنتشله من ذلك الانحراف.

ظلم الإنسان لنفسه أن يجنح عن الأوامر التي أمره الله عز وجل بها فيتجاهلها أو يلقيها وراءه ظهرياً، هذا هو الظلم للنفس.

أما ظلم الإنسان للآخرين فهو كما تعلمون كل نوعٍ من أنواع الأذى يسري من الإنسان إلى أخيه في الإنسانية أياً كان هذا الإنسان هو من الظلم بمكان، كل إساءة تتمثل في الإساءة في المعاملة، تتمثل بالإساءة في الكذب ونقض العهود، تتمثل في الاستخفاف والاستهزاء واللمز والغمز، كل ذلك من أنواع الظلم.

من ظلم الإنسان لغيره أن ينحط في نفخ نيران الفتن، ينفخ في نيرانها هنا وهناك، هذا هو الظلم الثاني. وربنا عز وجل ألزم ذاته العلية بأن يمد رواق الأمن في حياة عباده المؤمنين بشرط واحد؛ أن يترفعوا على الظلم وأن لا يظلموا أنفسهم بالمعنى الذي ذكرت لكم وألا ينحطوا في ظلم إخوانهم في الإنسانية، وتفصيل هذا الكلام طويل الذيل والوقت لا يتسع لذلك أيها الإخوة.

مطلوب منا أيها الإخوة – وأنا أبدأ بنفسي – لكي يكرمنا الله بهذا الأمن الذي ألزم ذاته العلية به أن نطهر أنفسنا من الظلم الذاتي، أن نطهر أنفسنا من الظلم للذات.

تعالوا أن نعاهد الله عز وجل على أن نترفع عن العصيان، فإن زلت بنا القدم فلنسرع إلى التوبة والإنابة إلى الله والله يقبل توبة التائبين مهما كانت المعاصي كثيرة.

تعالوا أيها الإخوة نقطع صلة ما بيننا وبين الشيطان إذ يهمس ويوسوس إليها أن نظلم إخواننا من أجل أن ننتصر لأنفسنا على حسابهم، من أجل أن نضحي بهم لربح بسيط نعود به إلى جيوبنا أو إلى سمعتنا أو إلى أنفسنا، لا أيها الإخوة. الرقيب العتيد يحذرنا من هذا. إن نحن أوغلنا في ذلك فلنعلم أن ضمانة الأمن تزول وأن رواق الأمن سينطوي.

لعل فيكم أيها الإخوة من يبادر فيسألني: وماذا عن واجب المسؤولين؟ أنت تتحدث عن الناس والأمة والشعب ولكن أليس هنالك ما يقتضي تذكير المسؤولين أيضاً بالواجب المنوط في أعناقهم؟ والجواب أيها الإخوة أولاً: ما قد ذكرته لكم قبل حين من أن لكل مقام مقالاً. عندما أجدني أمام القاعدة الشعبية فينبغي أن يكون حديثي لها وينبغي أن يكون نصحي موجه إليها وينبغي أن يكون تحذيري لها من أن يزل بها القدم فيما يغضب الله عز وجل، فإذا رأيتُني بعد حين أمام المسؤولين فواجبي عندئذٍ أن أذكرهم بواجبهم المنوط في أعناقهم.

وبالأمس تحقق لقاء من هذا القبيل، تحقق لقاء مع رئيس هذه الأمة وقام من يناشد الرئيس أن يفي بالعهد الذي أناطه الله في عنقه تجاه الإسلام وقام من ذكره بأن الإسلام ليست كلمة عابرة يقولها الإنسان لكنه عهدٌ ما بين العبد وربه:

(وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُم بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا) [المائدة : 7].

قام من ناشده أن يعلن غيرته على الإسلام وأن يكون حارساً على حدوده وأحكامه وآدابه، قام من ناشده أن يضرب على يد من يمارسون مع المعتقلين الكفر والتكفير، نعم، وكان الجواب مطابقاً للظن الذي ظننا به جميعاً، أعلن عن التزامه بما ألزمه الله به، أعلن عن شرفه الذي لن يتنازل عنه حارساً لدين الله عز وجل، وأعلن فوق هذا الذي ذُكِّرَ به عن أن الدستور الجديد لن يكون إلا تعبيراً عن الهوية الإسلامية لهذه الأمة، لن يكون إلا تعبيراً للهوية الدينية لهذه الأمة، ولسوف يحاسب القلة – نعم هم قلة – الذين تجاوزوا الحد فوقعوا في الكفر والتكفير.

ولكني أقول أيها الإخوة ربما كان الكلام المرذول الساقط الذي تنبو الآذان عن سماعه ويتعالى الذوق الإنساني عن تصوره مشابهاً بل قريباً لهذا التكفير الذي نتحدث عنه، لاسيما عندما يكون هذا الكلام النابي يُعْلَنُ في الشوارع، عندما يتحول إلى شعار يُسْتَعْلَنُ به في الشوارع، ترى أي إنسانية تقره؟ ترى أي ذوقٍ يقره؟ ترى أي منطق يقره؟ وأنتم تعلمون قانون الفعل وردات الفعل، ومع ذلك فكل مأخوذٌ بجرمه.

(وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) [الأنعام : 164].

لكن ينبغي أن نعلم هذه الحقيقة يا عباد الله.

إذاً أعود فأقول لكم: نحن موعودون من قبل ربنا سبحانه وتعالى بأمن سيمتد رواقه، ولقد بدأ رواقه يمتد، ولقد استعلن البيان الإلهي ذلك من خلال قوله:

(الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَـئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ) [الأنعام : 82]. في دار الدنيا (أُوْلَـئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ) [الأنعام : 82].

ولكني أعود فأقول أذكِّر نفسي وأذكِّركم بألا نوغل في الظلم، بألا ننحط في أودية الظلم لا في حق أنفسنا استكباراً على الله وإمعاناً في الدخول في أقبية المعاصي المظلمة، وألا ننحط في ظلم إخواننا، وظلم الآخرين كثير.

كلمتي الأخيرة التي ينبغي أن تبقى في أذهاننا جميعاً أن مسؤولية الأمة وإن انقسمت إلى قسمين هي في الحقيقة واحدة وستظل واحد، ذلك بأن هذه الأمة بقضها وقضيضها أمة واحدة، كلها بعضها من بعض، فلئن رأيتم تقصيراً في سدة الحكم فلتعلموا أنه انعكاس من تقصير القاعدة الشعبية، ولئن رأيتم تقصيراً مستمراً مستمراً في القاعدة الشعبية فلتعلموا أنه مظهر لتقصير من المسؤولين، ورحم الله الحسن البصري ورضي الله عنه، رأى رجلاً يسب الحجاج، قال له: لا تقل ذلك يرحمك الله فإني أخشى إن هلك الحجاج أن يتولاكم القردة والخنازير، روينا عن رسول الله r أنه قال: (عمالكم أعمالكم، كما تكونوا يولى عليك)، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.

أيها الإخوة مرةً أخرى أقول لكم إن هذه الفتنة قد ولَّتْ لتدبر، ولكن حذار من أن تعود فتتجدد ولن تجدد إلا بالسبب الذي قد ذكرته لكم، فاحرصوا على أن تصطلحوا مع الله على كل المستويات الاصطلاح الحقيقي يا عباد الله، وأنا أقول من هنا كلمتي لأولئك الذين يوغلون في القتل وقد تلثموا وتنكروا أقول لهم: ويحكم إن كنتم تتمتعون بذرة باقية من الإيمان الفطري بالله عز وجل فلتوقظكم هذه الفطرة الإيمانية إلى عودٍ حميدٍ إلى الله واعلموا أن ربكم يقبل التوبة، لكم أسوة بمن قتل تسعة وتسعين نفساً ثم إنه طرق باب التوبة والإنابة فقال له الله لبيك، عودوا يا ناس إلى الله، لا تمسخوا إنسانيتكم إلى وحشية لا عهد لكم بها، لا تعودوا تنظرون إلى أنفسكم وقد نبتت فيها المخالب والأنياب، بينكم وبين الرجوع إلى الله لحظات، عودوا إلى الله، عودوا إلى وطنكم، عودوا إلى أرضكم المباركة، إن لم تعودوا فلتعلموا أن الندم، بل نيران الندم قريب منكم، وأنتم لا تعلمون إذا وقعتم في نيران هذا الندم أي ندم سيكون ذلك، كيف ستكون حالكم، أنتم لا تعلمون، ربما كان ألماً ينشد أحدكم معه الموت ولا يجد، لكني أحسن الظن، أقول أنتم إخوة، إنسانيتنا هي قربى ما بيننا، عودوا إلى الله في خواتيم هذا الشهر، توبوا بينكم وبين الله في خواتيم هذا الشهر، وإذا بكم ارتفعتم ثم ارتفعتم إلى مصافي الملائكة والله يغفر الذنوب جميعاً.



تشغيل

صوتي
مشاهدة