مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 19/08/2011

التعامل مع نعم الله الظاهرة والباطنة

تاريخ الخطبة


‏‏‏‏‏الجمعة‏، 19‏ رمضان‏، 1432 الموافق ‏19‏/08‏/2011

التعامل مع نعم الله الظاهرة والباطنة

الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك. سبحانك اللهم لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله. خير نبي أرسله. أرسله الله إلى العالم كلِّهِ بشيراً ونذيراً. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين. وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى. أما بعد فيا عباد الله:

تعالوا نتدبر هذه الآية في بيان الله عز وجل ومحكم تنزيله:

(أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ) [لقمان : 20].

إذاً هما نعمتان يا عباد الله، أكرم الله عز وجل بهما عباده، نعمة ظاهرة ونعمة باطنة، أما النعمة الظاهرة فقد عرفناها جميعاً، هي العافية التي تتمتع بها، المال الذي جعله الله عز وجل في حوزتك، المسخرات التي استخدمها الله عز وجل ما بين سمائه وأرضه لمصلحتك، الأرزاق التي تهمي من السماء والنباتات والأرزاق التي تتفجر من ظاهر الأرض، هذه هي النعم الظاهرة التي يمتن الله عز وجل بها على عباده، ولكن فما هي النعم الباطنة؟

النعم الباطنة يا عباد الله هي تلك الابتلاءات أو المصائب والمحن التي تستتبع فائدة للإنسان، تستتبع يقظة منه بعد غفلة، تستتبع استقامة منه بعد اعوجاج، تستتبع منه يقظة إلى هويته ومعرفة لعبوديته لله عز وجل والتفاتة بالاصطلاح إلى مولاه وخالقه سبحانه وتعالى، تلك هي النعم الباطنة، هي نعم خفية مقنعة بما يبدو أنه ابتلاء أو أنه بعض من المحن والمصائب. ولعل النعم الباطنة أهم للإنسان من النعم الظاهرة، ولعلها أكثر دلالة على رحمة الله سبحانه وتعالى بعباده، إنها عصي التربية، ولقد كانت التربية وما تزال عنواناً على عطف المربي لمن يربيه، عنواناً على محبته لمن يلاحقه بالتربية. تعالوا يا عباد الله إلى ما يجسد لوناً من ألوان هذه النعم الباطنة.

عرفت رجلاً قبل سنوات طويلة في هذه البلدة المباركة. رجل أوتي مكانة باسقة في المجتمع، يتمتع بثقافة واسعة، يتمتع بوظيفة متميزة، يتمتع بعافية تامة ووجه يتضرج بالصحة، ولكن أفكاراً إلحادية كانت تطوف بذهنه ورأسه دعته إلى أن ينشر مقالاً في صحيفة سيارة في هذه البلدة عنوانها: (متى علمت الأمة العربية أنها هي سيدة قدرها فإنها عندئذٍ تتخلص من التخلف). وذاع مقاله وشاع، وأودع في كلامه هذا ما شاء من الأفكار الإلحادية زاعماً أن الإنسان هو الذي يملك قدره.

في يومٍ من الأيام كان الرجل يؤدي وظيفته كالعادة في دائرته وكان واقفاً يتحدث وما هو إلا أن وقع على حين غرة على الأرض، وقع ولا حراك به في الظاهر، أُخِذَ به إلى داره وعُهِدَ به إلى المشافي ومضت على ذلك مدة لم أعلم إلام كانت عاقبة أمره، رأيته بعد أشهر في مناسبة، سَلَّمْتُ عليه، رأيته ذابل الوجه، رأيته يمشي الهوينى، ضامر الجسم، سألته عن حاله فنظر إلي قائلاً: لقد جبر الله بالخاطر ولقد أكرمني بالعافية ولقد ذهبت فزرت بيته معتمراً ثم ذهبت فزرت نبيه محمداً r، وأخذ يلهج لسانه بحمد الله عز وجل وشكره، وعوفي الرجل.

أرأيتم إلى هذه الحال، إنها واحدة من النعم الباطنة، ألا ترون أنها ذات دلالة واضحة على محبة الله له؟ ألا ترون أنها ذات دلالة واضحة على غيرة الله عز وجل عليه ولكأنه يقول: أنا حبيب من أطاعني وأنا طبيب من عصاني، أجل. والطبيب مظهر من مظاهر الرحمة كما تعلمون.

عباد الله: لقد مرت أمتنا بمثل ما مر به هذا الرجل الذي حدثتكم عنه كما تعلمون. مرت أمتنا في هذه البلد بمثل هذه المحنة، بمثل تلك النعمة الباطنة، ولا أريد أن أصف شيئاً تعلمون ولكن ما الذي أعقبته تلك المحنة؟ إلام آلت تلك النعمة الباطنة؟ لقد ردَّتْنا عن المنحدر الذي كدنا نهوي إلى قراره، لقد أيقظتنا نعم إلى هوياتنا عبيداً مملوكين لله سبحانه وتعالى، ولسوف تتجلى مظاهر معرفتنا لهذه الهوية عما قريب، ردَّتنا هذه النعمة الباطنة إلى جديد من التمسك بعهد الله وإلى جديد من البيعة مع الله سبحانه وتعالى، إذاً هذه نعمة باطنة من النعم التي يمتن الله عز وجل بها على عباده في مثل هذه الآية التي تلوتها عليكم.

ما الذي بقي بعد أن عرفنا أن هذه المحنة التي مرت بنا – أقول مرت لأنها فعلاً مرت ولأنني على يقين بأنها لن تلبث وعلى يقين بأنها انطوت وشمرت أذيال الرحيل، نعم جاءت لتؤدي مهمة، بعثها الله عز وجل إلينا نعمة باطنة لتوقظنا، لتلفت نظرنا إلى هوياتنا، لتدعونا إلى تجديد البيعة مع الله سبحانه وتعالى – فما الذي بقي بعد ذلك؟ بقي أن نشكر هذا الإله المنعم، بقي أن نشكر مولانا الذي يقلِّبُنَا ما بين نعم ظاهرة ونعم باطنة وكلٌّ منهما يتطلب الشكر، بقي أن نشكر الله عز وجل على هذه المحنة التي أطلت علينا بوجهها ثم إنها اليوم في دور الانقشاع والذهاب، بقي أن نشكر الله جل جلاله على كل المستويات، نعم.

أما على مستوى القادة فشكرها لله سبحانه وتعالى يتمثل في أن نعود فنتبين جميعاً هوياتنا عبيداً لله لن نرحل غداً إلى الله عز وجل إلا بها، لن نرحل إلى الله بشيء آخر غير هذه العبودية، هذه الهوية تتطلب من قادتنا – أكرمهم الله سبحانه وتعالى بالحماية والتوفيق – العمل الدائب على إنشاء جيل مؤمن بالله، على إنشاء جيل لا يتيه عن هويته، لا يتيه عن رشده، شكر القادة يتمثل في أن يمسكوا بميزان العدل ولا شيء غير العدل، يجعلون من أنفسهم حراساً ورعاةً لهذا الميزان فيما بينهم وبين الأمة، فنحن بأمس الحاجة في دنيانا هذه إلى أن نمد رواق العدل بين إخواننا وبين من ملَّكنا الله عز وجل زمام قيادتهم، ورواق العدل نحن الذين نمده، ونحن الذين نعلم كيف نُمَتِّعُ شعوبنا بها. أما أولئك المنافقون الذين يتحدثون عن العدالة ولا يفسرونها في الباطن إلا بالظلم فليس لنا حديث عنهم في هذا المجال قط. هذه هي مهمة قادتنا.

أما الفئات الأخرى من الأمة، أما عامة الشعب فإن شكر الله سبحانه وتعالى على هذه النعمة الباطنة التي جاءت ومرت تتمثل في أن نمد رواق الأخوة، جسور الأخوة التي قررها الله عز وجل في محكم تبيانه ثم أمرنا بأن نضعها موضع التنفيذ فيما بيننا.

(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) [الحجرات : 10].

ذلكم هو القرار.

(فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) [الحجرات : 10].

وهذا هو الأمر.

ينبغي أن نصلح ما بيننا وبين إخواننا في المعاملات المختلفة المالية والمادية المختلفة، الغش بكل أشكاله ينبغي أن يُطوى بعد اليوم، المعاملات البعيدة عن الحق والواقعة في حمأة الظلم ينبغي أن نرفع أيدينا عنها بعد اليوم، ينبغي أن نجعل أوقاتنا، ليالينا وأيامنا مليئة بنبضات العبودية لله سبحانه وتعالى لاسيما في هذه الأيام الباقية من هذا الشهر الأغر الذي أكرمنا الله سبحانه وتعالى به، هذا هو شكر الله عز وجل لأمتنا بصورة عامة.

ولكن لابد أن أتوجه إلى تلك الفئة التي طاب لها أن تستجيب للأوامر الصادرة إليها من وراء البحار، طاب لها أن تستجيب لأوامرها في الخروج إلى الشوارع وفي إعلان الشعارات المختلفة المتنوعة في الوقت الذي طاب لها أن تعرض عن وصايا نبيها محمدٍ r الذي يلاحقها ويأخذ منها بالحجز يهيب بها ألا تشترك في الفتنة، يهيب بها أن تعتزل الفتنة، يهيب بها أن تعود فتهتم بخاصة نفسها، وأنا أصغي إلى هذه الوصايا بل الأوامر المتكررة فأتبين مدى نبضات الحب في قلب رسول الله لنا وإشفاقه علينا، طاب لهؤلاء الإخوة أن يستجيبوا لنداء أولئك الأعداء الآتي من وراء البحار وأن يعرضوا ويصموا آذانهم عن وصايا حبيبهم ورسولهم محمدٍ عليه الصلاة والسلام، يقول لهم اعتزلوا الفتنة، لتسعكم دويرة أهليكم، يبين لنا أن خمود الفتنة إنما هو في تجنبها يا ناس، أدعو هؤلاء الإخوة اليوم وقد أكرمنا الله سبحانه وتعالى بهذه النعمة الباطنة إلى جانب نعم ظاهر كثيرة أدعوهم إلى الاصطلاح مع رسول الله، أدعوهم إلى يعودوا فيمدوا يد البيعة مرة أخرى إلى رسول الله، لقد ظهر لهم أن نداء العدو إنما يحملنا المغارم والأثقال في حين أنه يعود بالكثير من المغانم والحقوق التي يستلبها من أرضنا ومن عباد الله عز وجل، لقد تبين هذا ولسوف يتبين أكثر، هذه وصيتي لهؤلاء الإخوة الأحباب، وأسأل الله أن يلهمهم الرجوع إلى الاصطلاح مع رسول الله r.

أما أولئك الآخرون المقنعون الذين جعلوا من أنفسهم مخالب لأعدائهم وأعداء الله سبحانه وتعالى ثم أوسعوا بهذه المخالب فتكاً وتخريباً وتقتيلاً وتحريقاً وإفساداً لأرضهم، لإخوانهم، لممتلكاتهم، أقول لهؤلاء الإخوة: إن كنتم مؤمنين بالله عز وجل – وما أظن إلا أنكم مؤمنون بالله سبحانه وتعالى ولكن الإنسان قد يتيه وقد تهجم عليه حالة من الوحشية تنسيه إنسانيته – أقول لهم عودوا إلى إنسانيتكم فتعاملوا معها، عودوا قبل فوات الأوان فتوبوا إلى الله عز وجل والله يقبل توبة التائبين، عودوا عن هذا الذي فعلتموه، أنتم لستم مخالب لأعداء الله وأعدائكم، أنتم إخوة تقيمون بنيان الحضارة التي كلفكم الله بإقامتها:

(هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا) [هود : 61].

ما أظن إلا أن هؤلاء الإخوة مؤمنون بالله، ولسوف توقظهم حقيقة إيمانهم بالله عز وجل إلى هذه الحقيقة وإذا بأمتنا قد اجتمعت من نثار، وإذا بها قد تضامت، هذا هو شكر الله، هذا هو الشكر الذي يتطلبه الله عز وجل منا على نعمه الظاهر والباطنة. لئن شكرنا الله سبحانه وتعالى فلسوف نجد أنفسنا مصداقاً دقيقاً لقول الله عندما قال في محكم تبيانه:

(وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً) [النور : 55].

لسوف نكون مصداق قوله عز وجل:

(وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ) [القصص : 5-6].

ولكل عصر فرعونه وهامانه وقارونه يا عباد الله، وأنتم تعلمون أن سلسلة الفراعنة لم تنقطع، وها نحن نجد هذه السلسلة كيف تعبث بدنيا الله سبحانه وتعالى الواسعة.

أقول قولي هذا وأسأل الله عز وجل أن يجعل لكلامي منفذاً إلى قلوب هؤلاء الإخوة وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يجمعنا وألا يفرقنا وأن يجعلنا جميعاً نقف سعداء تحت مظلة العبودية له، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.



تشغيل

صوتي
مشاهدة