مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 12/08/2011

الاصطلاح مع رمضان وتعهد كتاب الله تعالى

تاريخ الخطبة


‏‏‏‏‏الجمعة‏، 12‏ رمضان‏، 1432 الموافق ‏12‏/08‏/2011

الاصطلاح مع رمضان وتعهد كتاب الله تعالى

الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك. سبحانك اللهم لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله. خير نبي أرسله. أرسله الله إلى العالم كلِّهِ بشيراً ونذيراً. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين. وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى. أما بعد فيا عباد الله:

لقد علمنا أن ربيع الأرض إنما هو الغيث الذي يهمي إليها من السماء، ولقد علمنا جميعاً أن الأرض تكون هامدة، موحشة المظهر، مستحجرة قاسية، فإذا هما عليها هذا الغيث من السماء تحولت من مواتٍ إلى حياةٍ وربت وازدهرت وأنبتت كما قال الله عز وجل: (مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) [الحج : 5].

ولكن فما هو ربيع القلب؟ ربيع القلب – يا عباد الله – إنما هو الكتاب الذي يتضمن خطاب الله سبحانه وتعالى لعباده، كتابه الذي يتضمن خطابه للنخبة التي كرَّمها الله عز وجل من خليقته، هذا هو ربيع القلب.

إن القلب الذي لم يُتَحْ له أن يتشبع بهذا الغيث وبقي محروماً من خطاب الله سبحانه وتعالى، محجوباً عنه، يستحجر كما تستحجر الأرض التي حُرِمَتْ من قطر السماء، ويقسو القلب كما تقسو تلك الأرض، تتكدن بل تتحجر، هذه حقيقة ينبغي أن نتبينها جميعاً يا عباد الله.

لا يمكن لإنسان جعل من لسانه وسيلة إلى قلبه، يهدي إلى فؤاده خطاب الله عز وجل، يتلوه آناء الليل وأطراف النهار، أو يجعل لنفسه ورداً دائماً من تلاوة كتاب الله وتدبر خطابه، لا يمكن لصاحب هذا القلب إلا أن يتمتع بكل ما بكل ما ينبغي أن يتمتع به العبد المؤمن، يكون موصول الصلة بالله عز وجل دائماً، يتمتع برقة لا تأتي من طبع ولا تربية ولا أسباب مادية وإنما تأتي من غذاء القرآن الذي يتعهد نفسه صاحب هذا القلب به، هذه حقيقة أقولها لكم باختصار. ومن أجل هذا المعنى أمرنا الله سبحانه وتعالى في أكثر من آية بأن نقبل إلى خطاب الله عز وجل فنتلوه ونتدبره، تأملوا في قوله سبحانه:

(وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً) [الكهف : 27].

تأملوا في الخطاب الذي وجَّهَهُ ربنا سبحانه وتعالى إلى نبيه محمد r في الأيام الأولى من بعثته يقول له:

(يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً * نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً) [المزمل : 1-5].

هذا هو القول الثقيل، يأمر الله عز وجل بالتوجه إليه تالياً متدبراً رسوله، يأمر الله عز وجل بالتوجه إليه عباده جميعاً.

والآن تعالوا نتساءل – يا عباد الله – أين هي علاقتنا بكتاب الله سبحانه وتعالى، أين هو الموقف الذي نقفه جميعاً أو أقول أكثر من ينبغي أن نعدهم مؤمنين مسلمين لله سبحانه وتعالى، تعالوا نتساءل عن موقفهم من هذا الخطاب الرباني.

الذي أعلمه – وأظن أنني لست مبالغاً – أن في المسلمين من يمر عليه العام تلو العام والمصحف لا يتحرك من زاوية داره قط، والذي أعلم – وقد رأيت نماذج من هذا بعيني – أن في المسلمين من يتراكم الغبار على المصحف المستودع في داره دون أن يلتفت أهل الدار حتى إلى تنظيفه من الغبار الذي تراكم عليه، والذي أعرفه أن في المسلمين – وهم كُثُر – من لا يستطيع أن يقيم لسانه على تلاوة آيةٍ واحدة دون تلعثم من كلام الله سبحانه وتعالى، والذي أعلم هو أن في المسلمين من لا يستطيع أن يفرق بين الكثير والكثير من آي الكتاب المبين وأحاديث ذكرها رسول الله r أو آثار رويت من أفرادٍ من الصحابة أو التابعين. هل أنا مبالغ – يا عباد الله – في هذا الذي أقوله لكم؟! أرجو أن أكون مخطئاً أو مبالغاً ولكن هذا ما أعلمه وأتيقنه.

فإذا عدنا إلى هذه الأيام التي تمر بنا أو التي نمر بها، إذا عدنا إلى هذا الشهر – شهر الله – المعظم في بيان الله وكتابه وعلمنا أن هذا القرآن نزل جملة واحدة في هذا الشهر إلى السماء الدنيا وأُثْبِتَ كاملاً في اللوح المحفوظ خلال هذا الشهر، وإذا علمنا أن أهم ما يتقرب به الإنسان في هذا الشهر إلى الله عز وجل إنما هو العكوف على تلاوة خطابه، على تلاوة كتابه، لاسيما في جنح الليل، لاسيما أثناء الصلاة، إذا علمنا ذلك ثم عدنا إلى هذا الواقع الذي وصفته لكم فما الذي نتوقعه يا عباد الله إذاً؟!

نعم شهر رمضان شهر الرحمة، شهر التجليات الإلهية يتجلى فيها الله عز وجل على عباده بالرحمة، لكن ألا فلتعلموا يا عباد الله أن لهذا الشهر المعظم عند الله وجهين اثنين، أما الوجه الأول فهو وجه الرحمة المهداة إلى عباد الله، لكن إلى من؟ إلى الذين أقبلوا على كتاب الله عز وجل أو إلى الذين تابوا بعد إعراض وأقبلوا إلى الله عز وجل وتذكروه بعد نسيان، أقبلوا إلى الله عز وجل فتداركوا ما فاتهم. رمضان يقبل إلى الناس بهذا الوجه عندما يتوافر هذا المعنى الذي أقوله لكم يا عباد الله، وعندما يتراحم المسلمون، ورسول الله يقول: (من لا يَرْحَم لا يُرْحَم).

فأما الوجه الثاني لهذا الشهر المعظم فذلك هو شهر الانتقام، هو شهر الوعيد الذي يتضمنه هذا الشهر آتياً من عند الله سبحانه وتعالى، ولقد صح عن رسول الله r فيما رواه الحاكم بشرط الشيخين وغيره أن رسول الله r قال: (جاءني جبريل فقال من أدرك رمضان ولم يُغْفَر له فأبعده الله فقال له رسول الله: آمين).

ولكن من هو هذا الذي يدرك شهر رمضان ثم لا يُغْفَرُ له فيبعده الله عز وجل من رحمته - ولتعلموا يا عباد الله أن الإبعاد والطرد واللعن هذه الكلمات مترادفة سواء، فمن أُبْعِدَ عن رحمة الله فقد طُرِد ومن طُرِدَ فقد لُعِن - من هو هذا الإنسان الذي يدرك شهر رمضان ثم إنه يكون طريداً من رحمة الله، طريداً من فضله وإكرامه؟ هو ذاك الذي يستقبل رمضان باستخفاف، هو ذاك الذي يستقبل شعائره وحقوقه باستكبار، هو ذاك الذي يستقبل أوامره بتمزيق، وليت أنه يمزقها في دويرة أهله بينه وبين نفسه، لا، إنه يحرص على أن يمزق شعائر هذا الشهر المبارك – وهي شعائر الله – يحرص أن يمزقها على رؤوس الأشهاد، يحرص على أن يمزقها في الأسواق أو في الدوائر، وهكذا. هؤلاء هم الذين عناهم جبريل عندما دعا عليهم بل أخبر قائلاً: (من أدرك رمضان فلم يُغْفَر له فأبعده الله سبحانه وتعالى).

عباد الله: إذاً لشهر رمضان وجهان اثنان، وجه ملؤه الرحمة، ملؤه المغفرة، وله الوجه الآخر الذي يبعث بالتهديد والوعيد.

أنا أدعو نفسي وأدعوكم جميعاً وأدعو كل مؤمن بالله عز وجل وأدعو كل من يعلم أنه مصطبغ بذل العبودية لله عز وجل أن نتعرض للوجه الأول لهذا الشهر.

تعالوا – يا عباد الله – إن كنا إلى هذا اليوم تائهين فلنبدأ حياة جديدة ولنقطع سبيل هذا التيه بيننا وبين الله ولنصطلح معه وليقل كل منا إن بلسانه أو بلسان حاله: (وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى) [طه : 84]. والله عز وجل يقبل توبة التائبين.

إن كنا قد أعرضنا عن كثير من الأوامر وأركان الإسلام من صلاة ونسك وغير ذلك فما أيسر أن نعود إلى الله ونصطلح معه وإذا بالوجه المشرق الأنور لرمضان يبشرنا بالتوبة، يبشرنا بقبول الله عز وجل. تعالوا نتب إلى الله، تعالوا نستغفر من ذنوب الليالي والأيام، نعم، وأنتم تعلمون أن الله سبحانه وتعالى يقبل توبة التائبين، وعندما قال الله سبحانه وتعالى:

(قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [الزمر : 53].

إنما كان يعني التائبين العائدين إلى الله عز وجل، أما الذين يستكبرون على الله عز وجل ويلحون على أن يستمروا في تيههم فهؤلاء لا تعنيهم هذه الآية قط. شهر رمضان كاد أن ينتصف وكدنا أن نصل إل سويداء قلبه، تعالوا نصطلح مع الله يا عباد الله، نحن إن اصطلحنا حقاً مع الله عز وجل أصلح أمورنا، إن اصطلحنا مع الله عز وجل حقاً رفع هذه الفتن مما بيننا، إن اصطلحنا مع الله سبحانه وتعالى حقاً أعاد الوئام، أعاد الأمن والسلام إلى ربوع بلادنا.

عباد الله: لا تحجبنكم الأسباب المادية الشكلية عن المسبب، الأسباب موجودة لكن اخترقوها لتروا المسبب، لتروا الإله الذي يبتلي عباده بعصي التأديب، ووالله إنها لعصي رحمه وإن بدت أنها عصي مؤلمة، تعالوا نخترق هذه المظاهر - وما ينبغي أن نسجن أنفسنا داخلها – لنقف أمام الله عز وجل ولنمد يد البيعة إلى الله عز وجل من جديد.

عباد الله: كم وكم سألت نفسي السؤال التالي وها أنا أوجه هذا السؤال إلى كل واحد منكم ليعود به إلى نفسه: أنا الآن أشتهي أموراً كثيرة في حياتي التي أعيشها وألقي زمام أهوائي إلى كثير من الملاذ التي أتمناها، تقودني العصبية، تقودني الرغائب والأهواء، ولكن عما قريب سأتمدد على فراش المرض ولسوف يطرق بابي ملك الموت ولسوف أراه بعيني ولسوف يراه كل واحد منكم، ترى هل ستبقى هذه الأهواء آنذاك مهيمنة على كياني كما هي الآن؟ ترى هل ستكون عصبيتي هي المتحكمة بي آنذاك كما أنها متحكمة بي الآن؟ ترى هل سأظل محجوباً بعالم الأسباب عن مسببها كما أُحْجَبُ بها الآن؟ لا يا عباد الله، ستتمزق الحجب ولسوف أجد نفسي أمام جبروت الله سبحانه وتعالى، ألا تعلمون هذا؟ ألا تعلمون بيان الله سبحانه وتعالى:

(وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) [ق : 19-22].

هذا السؤال كم وكم طرحته على نفسي – ولعل هذا السؤال الذي أكرره بين الحين والآخر يشكل عاملاً من عوامل التربية الإلهية لي – هلا سألتم أنفسكم أنتم أيضاً هذا السؤال أيها الإخوة؟

نحن اليوم نتحرك فوق هذه الأرض وعلى ظاهرها وغداً سنكون في باطنها، تأملوا في هذا الذي أقوله لكم. ألا فلتعلموا يا عباد الله أن قصورنا إنما هي قبورنا، أجل أقولها لنفسي ولكم قصورنا قبورنا فلنتهيأ لتلك القصور، أقول قولي هذا وأستغفر الله.



تشغيل

صوتي
مشاهدة