مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 01/07/2011

حذار حذار من بدعة التكفير

حذار حذار من بدعة التكفير

الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك. سبحانك اللهم لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله. خير نبي أرسله. أرسله الله إلى العالم كلِّهِ بشيراً ونذيراً. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين. وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى. أما بعد فيا عباد الله:

كلكم يعلم كم يهيب كتاب الله سبحانه وتعالى المسلمين بأن يتحدوا وبأن يتضامنوا وبأن لا يتفرقوا وبأن لا يتنازعوا ويتخاصموا، وما منكم إلا من قرأ أو سمع كثيراً من الآيات التي يهيب فيها البيان الإلهي المسلمين بالانقياد لهذا الأمر، من مثل قول الله عز وجل:

(وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ) [آل عمران : 103].

وقوله:

(وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) [الأنفال : 46].

وقوله:

(وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ) [آل عمران : 105].

ولكن ما هي الضمانة التي شرعها البيان الإلهي لكي يستطيع المسلمون أن ينفذوا هذا الأمر القدسي الذي يكرره بيان الله عز وجل على أسماعهم؟ ما هي الآليات التي بها يمكن أن تتحقق هذه الوحدة وأن يتخلص المسلمون من المنازعات وأسباب التفرق؟

هنالك ضمانات شرعها الله سبحانه وتعالى، تعالوا أحدثكم عن طائفة منها:

الضمانة الأولى: دعوة الله عباده أن يتلاقوا على جامع مشترك من هوية العبودية لله سبحانه وتعالى. ولعلكم جميعاً تقرؤون قوله:

(إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً) [مريم : 93-94].

وما أعلم – يا عباد الله – غذاءً تتنامى به وشيجة الأخوة الإنسانية كغذاء العبودية لله إذ تسري مشاعره بين عباد الله جميعاً فتحولهم مشاعر العبودية لله إلى ما يشبه أفراداً من أسرة واحدة يتلاقون بمشاعر الحب والوئام والتعاون، فهذه هي الضمانة الأولى.

أما الضمانة الثانية فتتمثل في القرار التي أرسته الشريعة الإسلامية بناء على مصدريها القرآن والسنة، ألا يتعامل الناس في دنياهم إلا بالظواهر التي تتبدى عليهم وألا يقتحم أحدٌ بواطن الآخرين في هذه الدنيا، فلا الحاكم الأعلى ولا القاضي ولا المفتي حتى الرسل والأنبياء لا يملك أحد منهم إذا أراد أن يحكم أو إذا أراد أن يتبين الخير والشر من شخصية إنسان ما لا يملك إلا أن يقف عند الأدلة الظاهرة، فإذا أراد أن يقتحم ذلك إلى الباطن جاء التحذير من لدن رب العالمين لينبهه إلى أن المحكمة الباطنة موكولة إلى الله سبحانه وتعالى، فهذه هي الضمانة الثانية. لا يجوز للإنسان أن يحكم على الآخرين إلا بظاهر ما يتبدى له.

أما الضمانة الثالثة فهي ما يقرره بيان الله عز وجل من أنك إذا رأيت احتمالين يتجاذبان شعورك تجاه أخٍ لك أحدهما حسن الظن والآخر سوء الظن، يأتي بيان الله عز وجل ليأمرك بأن تنبذ سوء الظن وتلقيه ظهرياً وراءك وأن تعتمد على حسن الظن:

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) [الحجرات : 12].

هذه الضمانات الثلاث هي التي تضمن يا عباد الله أن تتحقق الوحدة المنشودة بين المسلمين في أي عصر من العصور. هي الضمانة ألا يتسرب إليهم الشقاق وأسبابه.

تعالوا الآن يا عباد الله لنجد تطبيقات هذه الضمانات التي أرستها شريعة الله سبحانه وتعالى فيما بيننا.

من أهم تطبيقات ذلك ما قرره علماء المسلمين بالإجماع من أن زيداً من الناس إذا طافت به احتمالات الكفر وكانت احتمالات كثيرة ولم يبق إلا احتمال واحد في المائة لاعتبار أنه لا يزال مسلماً فإن هذه الضمانات الثلاث التي حدثتكم عنها تجبرنا بأن نتمسك بالاحتمال الباقي الواحد وأن نطوي دلائل كفره، هكذا بيَّنَ لنا المصطفى r، انظروا إلى مصداق هذا الكلام.

روى الشيخان في صحيحيهما أن رسول الله r قال: (يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان).

فذرة الإيمان هذه هي التي تساوي أقل من واحد في المائة، ولقد أعلن المصطفى r أن هذه الذرة تبقيه مسلماً ولا يجوز لنا أن نلتفت إلى الاحتمالات الكثيرة الأخرى. أرأيتم إلى هذه الدلالة في هذا الحديث الذي اتفق عليه الشيخان.

تعالوا إلى هذا الدليل الثاني: روى الشيخان أيضاً أن النبي r كان جالساً مع أصحابه إذ دخل رجل فَسَارَّهُ في أذنه، يقول راوي الحديث: فلم ندر ما سارَّه حتى أجابه رسول الله r رافعاً صوته وإذا به يستشيره في قتل شخصٍ يرى أنه غير مسلم، قال له رسول الله r: (ألا يشهد أن لا إله إلا الله؟) قال: بلى ولا شهادة له، قال: (فأولئك الذي منعني الله سبحانه وتعالى منهم).

تعالوا أيها الإخوة إلى مزيدٍ من الأدلة على هذا المعنى الذي تتمثل فيه الضمانات الثلاثة التي حدثتكم عنها، أحاديث صحيحة كثيرة وصلت إلى درجة التواتر المعنوي كلها تتضمن معنى واحداً:

(من قال لا إله إلا الله مخلصاً بها دخل الجنة)

(من عاش لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة)

(من كان آخر كلامه في الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة)

وأحاديث كثيرة أخرى بلغت كما أقول لكم مبلغ التواتر المعنوي.

تعالوا إلى عملية تطبيقية مارسها رسول الله. عباد الله: لو كان في المسلمين من يستأهل أن يُكَفَّرَ لذنب ما، لدليل ما لكان أولى الناس بأن يُكَفَّرَ هو عبد الله بن أبي بن سلول، ذاك الذي أمعن إيذاً لرسول الله r، ذاك الذي قال بملء صوته أثناء رجوع رسول الله r من إحدى الغزوات: ما أرانا وجلابيب قريش – أي رعاع قريش يقصد رسول الله وأصحابه – ما أُرانا وجلابيب قريش إلا كما قال المثل سمِّنْ كلبك يأكلك والله لئن رجعنا إلى المدينة ليُخْرِجن الأعزُ منها الأذلَّ، ولكنه كان يشهد أن لا إله إلا الله وكان في ظاهره ملتزماً بالإسلام ومبادئه وأركانه.

إن فتحنا باب التكفير لسبب ما فليس أولى في الناس جميعاً من عبد الله ابن أبي بن سلول أن يُكَفَّرَ، وإذا كان في الحكام وفي القضاة وفي العلماء والمفتين من يحق لهم أن يُكَفِّرُوا فليس فيهم أولى من رسول الله r بأن يُكَفِّرَ ولكنه لم يُكَفِّرْ عبدَالله بن أبي بن سلول. ولما مات كان رسول الله في مقدمة من صلى عليه.

عباد الله: عندما توفي رسول الله r وكاد أن ينطوي عهد الصحابة وجاء عهد التابعين تنامت فرق إسلامية شاردة عن منهج الإسلام، تكاثرت في كيان الدولة الإسلامية كما تتكاثر الثآليل على الجسد السوي من أمثال المرجئة والجهمية والحشوية والمجِّسَدة والخوارج وما إلى ذلك، هل كَفَّرَ المسلمون أي فرقة من هذه الفرق؟ نهائياً. أصغينا السمع إلى مواقف بقايا الصحابة، إلى مواقف التابعين – وهؤلاء هم السلف الصالح – لم نسمع قط أن فيهم من كَفَّرَ خارجياً أو كَفَّرَ مرجئياً أو كَفَّرَ أيَّاً من هذه الفئات أو الفرق التي شذَّتْ وشردت عن صراط الله سبحانه وتعالى. ويذكرني هذا بالإمام أحمد الذي يزعم اليوم بعضُ المتطرفين أنهم يسيرون وراءه وأنهم يتبعون نهجه. أحمد بن حنبل هو الذي أوذِيَ أشد أنواع الإيذاء عن طريق المعتزلة القائلين بأن القرآن مخلوق، لم يكن كلام الله ثم وجد، أوذِيَ وحُبِسَ وضُرِبَ مدة طويلة في عهد المأمون، ثم إن الله عز وجل شاء أن ترتفع عنه المحنة في عهد المتوكل. جاء بعض أصحابه يقولون له يا سيدي ادع الله على ابن أبي دُؤات رأس المعتزلة، قال له : وما يفيدك أن يعذب الله عز وجل يوم القيامة أخاً من أجلك، لا بل أدعو الله سبحانه وتعالى له.

عباد الله: هذا هو نهج السلف، وهذا هو المبدأ الذي أرساه ربنا في محكم تبيانه وطبقَّه حبيبنا محمد r في حياته.

تعالوا الآن إلى هذا الفجور الذي يأبى بعضٌ من الناس إلا أن يركنوا إليه بدافع من ماذا؟ لا والله لا بدافع من آيٍ في كتاب الله ولا بدافع من كلام أوصى به رسول الله ولكن بدافع من أحقاد هيمنت على مشاعرهم وكياناتهم، تتنامى في نفس أحدهم مشاعر الحقد، يبحث يميناً وشمالاً عن متنفس فلا يعثر لذلك إلى على سلاح التكفير، سلاح التكفير هو الذي يشفى غليله، هو الذي يحقق تنفساً عن حقده، ومن هنا يتركون كلام الله عز وجل وبياناته التي لخصتها لكم وراءهم ظهرياً ثم إنهم يتبعون بدلاً عن ذلك مشاعر أحقادهم، مشاعر الضغائن التي تهيمن على كياناتهم.

أيها الإخوة: شريعة الله تقول إذا طافت احتمالات أكثر من مائة بالإنسان دالَّةً على كفره بقي احتمال واحد فوق المائة يدل على أنه لا يزال مسلماً، رسول الله r يقول: تلك هي الذرة التي ستنجيه يوم القيامة من عذاب الله عز وجل، (يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان).

عباد الله: نحن نتداعى إلى الوئام وهذا ما يأمرنا به الله، نتداعى إلى الحب وهذا ما يأمرنا به كتاب الله، نتداعى إلى الوحدة وهذا ما نسمعه ونقرأه في كتاب الله لكن يا عجباً لمن يمسك بالمعاول ليهدم ما يأمر به كتاب الله، هذا هو الإشكال الذي نعيشه ورحم الله من قال:

متى يبلغ البنيان يوماً تمامه إذا كنت تبنيه وآخر يهدم

أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.



تشغيل

صوتي
مشاهدة