مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 27/05/2011

التباس الهرج بالجهاد

التباس الهرج بالجهاد


الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك. سبحانك اللهم لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله. خير نبي أرسله. أرسله الله إلى العالم كلِّهِ بشيراً ونذيراً. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين. وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى. أما بعد فيا عباد الله:

أن يلتبس على الإنسان العاقل الشبيهُ بالشبيه فذلك شيء يقع، وهو من الأمور التي قد يقع فيها العقلاء كلهم من الناس، أما أن يلتبس على الإنسان العاقل النقيضُ بالنقيض، أن يلتبس عليه الأسود القاتم بالأبيض الناصع، أن يلتبس عليه الموجود الذي يراه بالمعدوم الذي لا يراه، أن يلتبس عليه الكبير الكبير الذي يسدُّ منظره الآفاق بالصغير الصغير الذي لا تكاد العين المجردة تراه، أما أن تجد عاقلاً يلتبس عليه النقيضُ بالنقيض من مثل هذه الأمثلة التي أحدثكم عنها فذلك شيء لا علم للعقلاء به قط.

لقد فرَّق الله سبحانه وتعالى في محكم تبيانه وبيَّنَ رسول الله r الفرق جلياً في سنته الثابتة بين الجهاد المبرور الماضية شرعته إلى يوم القيامة والهرج الذي حذر منه رسول الله r وحذر منه كتاب الله سبحانه وتعالى. بيَّنَ الله وبيَّنَ رسول الله الفرق بينهما فرقاً جلياً كبيراً لا يترك بينهما مجالاً لِلَبْسٍ. أنبأنا المصطفى r أن الجهاد إنما هو مقاتلة الكافرين الذين أعلنوا الكيد للإسلام والمسلمين واستمرؤوا السير إلى اغتصاب حقوقهم والنيل من مبادئهم وقيمهم، وهو ما قد بيَّنَه كتاب الله بعبارة صريحةٍ واضحةٍ لا تقبل تأويلاً ولا التباساً عندما قال:

(إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [الممتحنة : 9].

هذا هو الجهاد وهؤلاء هم المجاهدون بيَّن ذلك كتاب الله بنصٍّ صريح قاطع، وبيَّنه لنا رسول الله r بعبارات شارحة لا تدع مجالاً لِلَبْس.

ثم إنه r بيَّنَ لنا الهرج وميز بينه وبين الجهاد وأوضح لنا أن الهرج هو أن يتصادم المسلمون فيما بينهم بقتال انتصاراً لعصبة أو غضباً لعصبة أو سيراً تحت رايةٍ عُمِّيَّة – أي سيراً تحت رايةٍ لا تعلم من يحملها وإلى أي غايةٍ يسير بها – هذا هو الهرج الذي بيَّنَه لنا رسول الله r ثم حذر منه أيما تحذير فقال فيما رواه مسلم في صحيحه وغيره: (من خرج من أمتي على أمتي يضرب برها وفاجرها ولا يتحاشى مؤمنها ولا يفي بذي عهدها فليس مني).

إذاً قد أوضح الكتاب المبين – كتاب ربينا جل جلاله – ومن ثم شرح لنا رسولنا محمد r الفرق بين الجهاد المبرور الماضي إلى يوم القيامة وبين الهرج الذي هو علامة من علامات قيام الساعة والذي هو أخطر بابٍ وأوسع بابٍ إلى الفتنة الدهماء، ومع ذلك فإننا لنسمع ونرى ما لا يصدقه العقل، نرى أناساً يزعمون أن الجهاد قد التبس عليهم بالهرج، يدعون إلى الهرج ويرفعون لواءه ويزعمون أنه الجهاد في سبيل الله، يأمرون بما نهى رسول الله r عنه، يأمرون بما حذر منه كتاب الله عز وجل ويقولون إنه الجهاد، ويعرضون عن الجهاد الذي أمر به رسول الله r ويخذِّلون منه، ونحن نرى أمامنا الكفرة الذين أعلنوا حقدهم وعدوانهم على الإسلام ومن ثم على المسلمين، نرى أمامنا ومن حولنا الكفرة الذين تصتك أسنانهم كيداً على الإسلام، يستلبون الحقوق ويستمرئون القتل ويغتصبون الدور من أصحابها ويسرحون ويمرحون مهددين المسلمين بإسلامهم ومهددين المسلمين بقيمهم وحقوقهم، يخذِّلون عن الجهاد مع هؤلاء الذين أمرنا الله عز وجل أن نقاتلهم ويأمرون بما نهى رسول الله r عنه إذ قال: (من خرج من أمتي على أمتي يضرب برها وفاجرها ولا يتحاشى مؤمنها ولا يفي بذي عهدها فليس مني).

عباد الله: أصحيح أن في العقلاء الذين آمنوا بكتاب الله وقرؤوه وآمنوا بنبوة رسول الله r وأصغوا السمع إلى تعاليمه، أتتصورون أن في العقلاء من يلتبس عليه الهرج الذي حذر منه الله وحذر منه رسوله بالجهاد الذي أمر الله سبحانه وتعالى به؟ أعتقد يا عباد الله أن العقل لا يمكن أن يتصور مثل هذا اللبس أبداً، وإنما هو اصطناع لِلَّبْس من أناس يعرفون الحقيقة لأهداف لا نريد أن نستبطنها ولا أن نتحدث عنها.

ثم إننا ينبغي أن نتساءل عن النتيجة التي يحققها الجهاد الذي أمر به الله عز وجل والنتيجة التي يستثمرها الهرج الذي نهى عنه رسول الله بل نهى عنه كتاب الله عز وجل.

أما الجهاد المبرور الذي أعلن عنه بيان الله قائلاً:

(إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [الممتحنة : 9].

تنفيذ هذا الأمر الإلهي والسير إلى ما أمر الله به بالجهاد يرفع رأس الأمة عالياً، يجعلها تتفيأ ظلال الأمن والسلم الحقيقيين، يجعلها تمتلك حقوقها المادية والمعنوية، يجعلها عزيزة في نفسها منيعة في أعين أعدائها، هذه هي ثمرة الجهاد الذي أمر به كتاب الله عز وجل وأمر به رسول الله r، الجهاد الذي يخذِّل منه الذين يصرون على الدعوة إلى الهرج.

أما الهرج – وهي تسمية اختارها رسول الله r – فما هي عاقبة الهرج يا عباد الله، ما هي عاقبة تصادم المسلمين بالقتال؟ لا يدري كما قال رسول الله القاتل فيما قَتَل ولا يدري المقتول فيما قُتِل. عاقبة ذلك أن تتسع دائرة الأحقاد السائرة بين المسلمين بعضهم مع بعض، وأن تتحول الأحقاد إلى ثأر يهيمن على النفوس والقلوب، ومن ثم فإن الوطن يهلك ويتمزق تحت سنابك هؤلاء المتقاتلين، الأغنياء يتحولون إلى فقراء مدقعين والفقراء يتحولون إلى جائعين يهلكهم الجوع ويشيع فيما بينهم البؤس والهلاك، يتحول الوطن الواحد إلى قطع مُبَضَّعَةٍ ويتحول إلى فئات متقاتلة متخاصمة، فئات تغرق في بحار من الدماء فيما بينها، والإصلاح الذي يتحدث عنه المسلم أين مكانه؟ ليس له مكان إطلاقاً أمام هذا البلاء الماحق، أمام هذا الهلاك الذي يحيق بالأمة وبالوطن. الديار تتهاوى والقتل يستحر والدماء تتحول إلى أنهر، ومتى يمكن لهذه الأمة أن تنهض من كبوتها، لسوف يمر العقد والعقدان وثلاثة عقود ولا تستطيع هذه الأمة أن تستيقظ من البلاء الماحق الذي أحاط بها، لا يمكن للخراب أن يتحول إلى عمران خلال هذه المدة، وما السبب؟ السبب هو الهرج.

أرأيتم إلى النتيجة التي يحققها الجهاد بالمعنى الذي شرعه الله وبالمعنى الذي بيَّنَه لنا رسول الله، أرأيتم إلى الأثر المهلك المرعب الذي يثمره الهرج الذي هو علامة كما قال رسول الله من أقسى وأخطر العلامات الدالة على قرب قيام الساعة.

هذا الذي أقوله لكم أيها الإخوة من شأنه أو يوقظ السادر وأن ينبه الغافل وأن يُقَوِّمَ صاحب الاعوجاج في سيره.

تعالوا يا عباد الله – ونحن ولله الحمد المؤمنون بكتاب الله المنتمون إلى سيدنا رسول الله r، نحن من أمته، نحن من أمة الاستجابة بحمد الله عز وجل – تعالوا نحصن أنفسنا وعقولنا بحصن الحماية والرعاية, ورسول الله r يناشدنا القربى، ألا نَهْلَك وألا نُهْلِك إخواننا.

أقول هذه الكلمة لي ولكم جميعاً ولكل من قد تبلغه.

أما إخواننا أولئك الذي ينقادون لأمر الغريب في خارج هذا الوطن لأسباب لا أريد أن أتحدث عنها، أما أولئك الإخوة الذين ينفخون وهم متسترون في نيران هذه الفتنة، في نيران هذا الهرج، كلما خَبَتْ يحاولون أن يعيدوها إلى الوقود، أقول لهؤلاء – وليت أن كلامي يبلغهم – أيها الإخوة، أيها الأحبة والله إني لأقولها لكم من منطلق شفقة، والله إني أقولها لكم من منطلق حب، لاحظوا النتيجة التي ستؤولون بها بعد سنوات طالت أو قصرت إلى الله، ستحمل أعناقكم الضعيفة أثقالاً وأثقالاً وأثقالاً مما يحيق بهذه البلدة وبهذه الأمة بسبب هذا النفخ الذي تمارسونه، بسبب هذا التهييج الذي لا تلبثون تسيرون في طريقه، لماذا؟ انقياداً لأمر آمِر، استفادة من مالٍ يسير يوضع في الجيب، غداً إذا رحلتم من دنياكم إلى الله وشعرتم بالثقل الكبير الكبير الذي تحملونه في أعناقكم لسوف تتلظى مشاعر الندامة بين جوانحكم يا عباد الله ولسوف تتمنون أن لو رجعتم إلى هذه الدنيا لتُكَفِّرُوا عن هذا العمل الذي فعلتموه، لِتُكَفِّرُوا عن هذا التخريب الذي أوغلتم أنفسكم فيه ولسوف تجدون العاقبة السوداء، العاقبة الخطيرة، شقاء لا سعادة بعده، شقاء لا بارقة أمل في أن تجدوا أنفسكم أمام سعادة أو أمن أو طمأنينة إنما هو الشقاء الأبدي. فيا أيها الإخوة لا تزال الفرصة كامنة ولا تزال أيام العودة إلى الله والإنابة إلى الله والانقياد لأمر الله بدلاً من الانقياد لأمر المجهول لا تزال الفرصة سانحة، فهلا رجعتم، هلا تبتم، هلا أُبْتُمْ إلى الله سبحانه وتعالى. وما دام الإنسان يعيش فوق هذه الأرض في هذه الحياة الدنيا فإن باب الإنابة إلى الله مفتوح، باب التوبة إلى الله سبحانه وتعالى مفتوح.

أيها الإخوة أياً كنتم ومهما كان ماضيكم سواء كان فيكم من خرجوا بالأمس من السجون لجرائم ارتكبوها أو كان فيكم من يحقدون على أناس لأسباب لا أريد أن أذكرها، أياً كانت أحوالكم فإن الله يتوب عليكم، فإن الله يقبل توبة التائبين، عودوا فاصطلحوا مع الله سبحانه وتعالى فذلك خير لكم من أن تنقادوا للمجهول، انقادوا لمولاكم، استجيبوا دعوة ربكم سبحانه وتعالى. الإصلاح إنما ينبع من الداخل ولا يمكن أن يُسْتَجَرَّ من الخارج. أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجمعنا وإخواننا وأحباءنا على ما يرضيه، وأسأله سبحانه وتعالى أن يقي هذه البلدة مكر الماكرين وكيد الكائدين وأن يعيدنا جميعاً إلى حظيرة دينه. أقول قولي هذا وأستغفر الله.



تشغيل

صوتي
مشاهدة