مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 04/03/2011

عجيب شأنك أيها الإنسان

تاريخ الخطبة

‏‏‏‏‏الجمعة‏، 29‏ ربيع الأنور‏، 1432 الموافق ‏04‏/03‏/2011

عجيب شأنك أيها الإنسان

الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك. سبحانك اللهم لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله. خير نبي أرسله. أرسله الله إلى العالم كلِّهِ بشيراً ونذيراً. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين. وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى. أما بعد فيا عباد الله:

عجيب شأن هذا الإنسان، أغدق الله عز وجل عليه سلسلةً من المَكْرُمَات ميزه بها عن سائر الخلائق، خَلَقَهُ في أحسن تقويم وبثَّ فيه من روحه التي نسبها الله سبحانه وتعالى إلى ذاته العلية، أسجدَ له الملائكة سجود تكريم، طرد في سبيله إبليس من رحابه وإنعامه لأنه استكبر عليه ورفض الاستجابة لأمر الله في السجود له، ثم إنه جلَّ جلاله أعلن عن تكريمه لهذا المخلوق وعن تمييزه عن سائر المخلوقات الأخرى قائلاً:

(وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً) [الإسراء: 70].

ثم إن هذا الإله المتفضل بهذه السلسلة من المكرمات خاطب هذا الإنسان يأمره بأن لا يعرض عن ذكره، يأمره بأن لا يعرض عن شكره، يأمره بأن يصغي إلى وصاياه التي سيخاطبه الله عز وجل بها عن طريق الرسل والأنبياء يقول له:

(فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) [البقرة : 152].

يقول له:

(وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ) [البقرة : 152].

يأمر الإنسان بأن يتوجَّهَ إلى الوصايا التي سيخاطبه بها وأن ينفذها لا لشيء إلا لأنها الضمانة لسعادته في عاجل حياته وفي عقباه

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ) [الأنفال : 24].

فماذا كان موقف هذا الإنسان؟

كان موقفه – إلا من رحم ربك – أن أعرض عن ذكر الله سبحانه وتعالى، كان موقفه أن تشاغل عن شكر هذا المنعم بالرجوع إلى أهوائِه وشهواته، كان موقفه أن أعرض عن هذه التعاليم التي لاحَقَهُ الله عز وجل بها لا لشيء إلا لكي تكون ضمانة لسعادته، عانق شهواته وأهواءَه، عكف من الدنيا كلها على يومه معرضاً عن الغد الذي هو مقبل إليه، ومرةً أخرى أقول إلا من رحم ربك، أليس عجيباً يا عباد الله أن يكون شأن الإنسان هكذا.

سَخَّرَ الله عز وجل لك يا ابن آدم سماءه وأرضه وسَخَّرَ لك ما بينهما من الرياح الهابَّة والسحب المتراكمة، سَخَّرَ لك نبات الأرض، سَخَّرَ لك ضروع الأنعام ولحومها فما لك تعرض عن هذا الإله الذي أكرمك ونعمك، صدق على الإنسان – ويا للأسف – قول الله عز وجل:

(كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ) [عبس : 23].

وكم أشعر بالخجل والأسى عندما أمرُّ على هذه الآية ثم أرددها، يقول ربنا عن الإنسان:

(كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ) [عبس : 23].

متى تقضي يا ابن آدم هذا الذي أمرك الله عز وجل به لمنفعتك ولضمان سعادتك في عاجل حياتك وآجلها.

ومن العجيب أيها الإخوة أن المسخَّرات الكونية التي استخدمها الله عز وجل لنا على اختلافها ماضية في العكوف على الاستجابة لأمر الله، ماضية في تسبيح الله

(وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) [الإسراء : 44].

(كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ) [النور : 41].

من العجب أن هذه المخلوقات كلُّها تُنفِّذ أمر الله عاكفة على تسبيح الله وعبادته إلا هذا الإنسان الذي اشمخر منه الأنف وعانق أهواءه كما قلت بدلاً من أن يعانق وصايا الله عز وجل ليعكف على تنفيذها.

آيةٌ في كتاب الله لابد أن أقرأها وإن كانت آية سجدة، تثير هي الأخرى ألماً شديداً لدى كل من كان يتمتع بحساسية مرهفة أو يتمتع بذوقٍ إنساني سليم، اسمعوا:

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ) [الحج : 18]

ثم قال:

(وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ) [الحج : 18].

ألا تلاحظون يا عباد الله الألم الذي ينتابنا في هذا الذي يخبرنا الله به؟! الحيوانات، الجبال، الشجر، الدواب كل ذلك عاكف على الاستجابة لأمر الله، كل ذلك عاكف على أداء الوظيفة التي أقامها الله عز وجل عليها، حتى إذا جاء الحديث عن الإنسان قال:

(وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ) [الحج : 18].

آيةٌ أخرى، أذكِّرُ نفسي وأذكركم بها، تجعل الإنسان يذوب خجلاً من العتاب الرقيق الذي يتضمنه هذا الخطاب الرباني:

(وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) [الكهف : 50].

ثم قال خطاباً لنا:

(أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً) [الكهف : 50].

طردت إبليس من أجلكم، تكريماً لكم، تركتم الالتفات إلى وصاياي، تركتم الالتفات إلى أمري واتخذتم من هذا الشيطان الذي طردته في سبيلكم وليّاً من دوني! أيكون هذا!

اقرأ هذا الكلام وردده تجد أنه يذيب كيانك خجلاً من الله عز وجل.

وإن إيمان المؤمن لابد أن يقول: لا يا رب حاشاك، ما اتخذنا من دونك ولياً، ما اتخذنا الشيطان ولا غيره من جنود الشيطان أولياء لنا، (أَنتَ وَلِيُّنَا) في الدنيا والآخرة، لكنه الضعف هيمن على كياناتنا وأنت ربنا القائل:

(وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً) [النساء : 28].

عباد الله: عندما أقول ما قاله الله:

(وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) [الإسراء : 44].

كثيرون هم الذين تسري الريبة إلى قلوبهم وعقولهم من هذا الكلام، كثيرون ممن خُدِعُوا بشعارات العلم وعاشوا فقراء إلى مضمونه يتساءلون: أفيمكن هذا؟! جمادٌ يسبح الله! ويثني على الله! ويذكر الله! وأقول لكم إنها حقيقة علمية قبل أن تكون حقيقة دينية.

إن الله سبحانه وتعالى جعل وسيلة الإقبال إلى الله عز وجل العقل الذي يتمتع به والروح التي تسري في كيانه فهل تتصورون أنها هي الوسيلة الوحيدة للتوجه إلى معرفة الله وللعكوف على تسبيح الله وعبادته؟! لا يا عباد الله.

كما جعل الله عز وجل وسيلة ذلك في حياتنا نحن البشر الروح والعقل جعل وسائل أخرى في حياة النباتات، في الجمادات، في كل ما خلق الله سبحانه وتعالى. فلا تتصور أن الوسيلة التي بها يعرف الإنسانُ ربَّهُ محتكرة في كيانك، نعم يا عباد الله، قلت لكم مرة وها أنا أعيد:

في كل صباح ما بين بزوغ الفجر وطلوع الشمس تتجمع طيورٌ كثيرةٌ وكثيفة بين أغصان الشجرة التي تواجه غرفتي التي أرقد فيها وتنطلق هذه الطيور ما بين الفجر وطلوع الشمس في ترنيمة جماعية، في تسبيح لله سبحانه وتعالى، حتى إذا طلعت الشمس وانتشر نورها تفرقت هذه الطيور كل إلى شأنه، أما الإنسان – أو معظم الناس – فغافلون راقدون في تلك الساعة.

ألم تعلموا الحديث الصحيح المتواتر تواتراً معنوياً عن حنين الجذع إلى رسول الله؟

كان المصطفى صلى الله عليه وسلم يخطب في أول أمره مستنداً إلى جذع في قبالة المسجد وعند جدار قبلته، ثم إن امرأة جاءت تقول: يا رسول الله إن لي غلاماً نجاراً أفتأذن لي أن آمره بصنع منبر لك؟ فقال: إن شئت. وبعد أيامٍ أو أسابيع دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد في مثل هذا اليوم وإذا بمنبر قد نُصِبَ له في مكان ذلك الجذع وأبْعِدَ الجذع إلى زاوية قاصيةٍ من المسجد، وقف رسول الله يخطب وإذا بالقوم جميعاً يسمعون أنيناً ينبعث من ذلك الجذع كصوت الناقة العشراء، نزل رسول الله من المنبر واتجه إلى الجذع فاحتضنه واستلمه حتى هدأ ما به، ثم أمَرَ صلى الله عليه وسلم أن يُدْفَنَ ذلك الجذع تحت منبره.

الإنسان أقسى قلباً من الجمادات يا عباد الله، الإنسان أقسى قلباً من هذا الجذع الذي حنَّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

تلك هي مشكلة الإنسان، تلك هي مشكلتنا في أننا نعيش نتقلب في يَمٍّ متلاطم من نِعَمِ الله وتكريمه ثم إنا نظل معرضين عن ذكر الله عز وجل، معرضين عن تنفيذ وصاياه، لو نفَّذْنَاها لما دنت إلينا فتنة من الفتن، لو نفَّذْنَاها لما تسرب إلينا سوءٌ من أي أنواع السوء التي نسمعها قد تنبع هنا أو هنا أو هناك.

ما المشكلة في حياة هذا الإنسان؟

المشكلة أن الإنسان يعيش بين جاذبين يا عباد الله، أولها جاذب الروح الهابطة إليه من الملأ الأعلى، تجذبه إلى الصعود إلى مرضاة الله، تجذبه بالحنين إلى الاستجابة لأمر الله سبحانه وتعالى.

أما الجاذب الثاني فيتمثل في الشهوات، في الأهواء، في الشيطان الذي أخبر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق أنه (يجري من ابن آدم مجرى الدم).

الإنسان يعيش بين هذين الجاذبين، فمنهم من استجاب لجاذب الروح، صعد إلى الأعلى وجاهد في سبيل أن يصعد إلى الأعلى وأن يتحرر من المحرمات، من شهواته وأهوائه، ومنهم من رَكَنَ إلى الدون فاستجاب لداعي الشهوات والأهواء ولكن الله يقول:

(وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) [يوسف : 103].

اللهم اجعلنا بمنك وجودك من هؤلاء الذين توجهوا إلى الأعلى واستجابوا لنداء الروح التي تظل تبث حنينها إلى العالم العلوي، التي تظل تبث حنينها إلى الله، تبث حنينها وشوقها إلى يوم اللقاء، اللهم اجعلنا منهم، اللهم وفِّقْنَا ألا نستجيب للمحرم من شهواتنا وأهوائنا يا ذا الجلال والإكرام، أبعدْنَا على الفتن كلها ما ظهر منها وما بطن وتجلى علينا جميعاً برحمتك وفضلك وإحسانك، إنك وليُّ التوفيق، ولي كل توفيق، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم فاستغفروه يغفر لكم.



تشغيل

صوتي
مشاهدة