مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 28/01/2011

وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ

تاريخ الخطبة

‏‏‏‏الجمعة‏، 23‏ صفر‏، 1432 الموافق ‏28‏/01‏/2011

وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ

الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك. سبحانك اللهم لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله. خير نبي أرسله. أرسله الله إلى العالم كلِّهِ بشيراً ونذيراً. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين. وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى. أما بعد فيا عباد الله:

إن المعصية بحد ذاتها لا تحجب العبدَ عن مولاه عز وجل ولا تقصيه عن رحمته ومغفرته قط، ولكن الذي يحجب العبدَ العاصيَ عن رحمة مولاه ومغفرته إنما هو العكوف على المعصية دون أن يلتفت إلى التوبة منها، إنما هو العكوف على المعصية مستمرئاً لها، مبرراً لها، مستخفاً بشأنها وبنهي الله عز وجل عنها، ذلك هو الذي يحجب العبدَ عن رحمة مولاه سبحانه وتعالى. وأنتم تعلمون وتقرؤون قول الله عز وجل:

(وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [النور : 31].

ألا تلاحظون أنها دعوة من الله عز وجل للناس جميعاً على اختلاف فئاتهم وعلى تفاوت مستوياتهم، دعوة من الله جميعاً لهم إلى التوبة والإنابة من المعاصي والأوزار.

أما عامة الناس من دون الرسل والأنبياء فإنكم جميعاً تعلمون أنه ليس فيهم – مهما كانت درجته من الاستقامة – ليس فيهم معصوم عن الأوزار والمحرمات. من منا لم تزل به القدم في مهاوي المعصية وأودية الأوزار؟ من منا لم تتغلب عليه شهواته في يومٍ من الأيام بل في كثير من الأحيان. ومن هنا فإن الله يعلن عن بابه المفتوح للرحمة والمغفرة، إنه باب التوبة، يعلن عن ذلك قائلاً:

(وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [النور : 31].

أما الرسل والأنبياء – ونحن نعلم أنهم معصومون من الأوزار – فإنما توبتهم من التقصير – الذي يشعرون به في أداء حقوق الربوبية في أعناقهم، وإنه لتقصير شامل حتى للرسل والأنبياء. مَنْ مِنَ الناس استطاع أن يؤديَ حقوق نعمه؟ مَنْ مِنَ الرسل والأنبياء فضلاً عن عامة الناس استطاع أن يؤديَ حق العافية السارية في كيانه؟ مَنْ مِنَ الرسل والأنبياء فضلاً عن عامة الناس ذاك الذي استطاع أن يؤديَ حقَّ العينين اللتين يبصر بهما؟ مَنْ مِنَ الناس أيَّاً كان استطاع أن يؤديَ حق العقل الذي يفكر به؟ إنه تقصير شامل للناس جميعاً. ومِنْ هنا جاءت الدعوة إلى الناس جميعاً:

(وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [النور : 31].

عباد الله: أقولها لكم بحق: إني لأخجل من الله عز وجل عندما أسمعه يدعوني ويدعو أمثالي من عباده إلى الإنابة والتوبة، إلى المغفرة، إلى الرحمة مهما كانت الأوزار كثيرة والمعاصي وفيرة ثم لا ألتفت إلى نداءه، عندما أسمعه يقول في الحديث القدسي:

(يا عبادي إنكم تخطئون في الليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً فاستغفروني أغفر لكم).

عندما أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يخبر عن ربه عز وجل قائلاً:

(إن الله يبسط يديه بالنهار ليتوب مسيء الليل ويبسط يديه بالليل ليتوب مسيء النهار)

أنظر إلى نفسي وإلى إخواني في العبودية لله وإذا بنا – أو بِجُلِّنَا – معرضون عن هذا النداء المحبب، معرضون عن هذه الدعوة الربانية، يدعونا الله عز وجل إلى مائدة مغفرته وكأنه دلاَّل يدعونا إلى الرحمة، إلى المغفرة والصفح، يدعونا إلى ساحة غفرانه والناس بين عاكفٍ على لهوه وبين مستمرئ لمعاصيه وبين مستمر في شروده عن الله عز وجل يلاحقه نداء الله فلا يلتفت إليه. أفلا يخجلنا هذا يا عباد الله؟

تعالوا يا أيها الإخوة، تعالوا نصطلح مع الله، وليس اصطلاحنا مع الله متوقفاً على العصمة، وهل لنا أن نكون معصومين ولقد قال المصطفى صلى الله عليه وسلم:

(كل بني آدم خطاء).

هل لنا أن نكون معصومين عن الأوزار وربنا عز وجل يقول:

(وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً) [النساء : 28].

ولكننا نستطيع أن نصطلح مع الله بأيسر من ذلك، نستطيع أن نصطلح مع الله عز وجل بأن نُقْبِلَ إليه بالتوبة، بأن نُقْبِلَ إليه بالإنابة. إن ربنا الغفور الرحيم اللطيف الودود لم يشترط لمرضاته عنا أن نكون معصومين، ولكنه اشترط شيئاً واحداً، أن نتوب كلّما تقلبنا في غمار المعاصي، بل هو يعلن عن محبته لهؤلاء التوابين:

(إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) [البقرة : 222].

ومتى يكون الإنسان تواباً يا عباد الله، وأنتم تعلمون أن كلمة تواباً مبالغة من تائب؟ متى يكون الإنسان تواباً إلى الله؟ إذا كان كثير الشرود عن الله، يكون كثير الشرود عن الله؟ نعم لكنه كلما شرد عن الله تذكَّرَ عبوديته لله فآب إليه قائلاً: رب ها أنا قد عدت إليك. رُبَّما شرد ثانية وثالثة لكن كلما شرد نادته عبوديته أن ارحل إلى الله، يعود إلى الله سبحانه وتعالى تائباً آيباً، بل اسمعوا هذا الكلام الرباني المحبَّب الودود:

(وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ. هَذَا مَا تُوعَدُونَ)[ق: 31-32].

لمن؟

(هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ. مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ وَجَاء بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ. ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ. لَهُم مَّا يَشَاؤُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ) [ق: 32-35].

(وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ. هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ)

أَوَّابٍ هذه مبالغة من آيب، وآيب بمعنى راجع. متى يكون العبد رجَّاعاً إلى الله يا عباد الله؟ إذا كان كثير الشرود عن الله. ربنا يطلب منّا هذا فقط، يطلب منا إذا شردنا أن نؤوب إلى الله بتوبة صادقة، وإذا عدنا فشردنا ثم عدنا فشردنا أن نؤوب إلى الله عز وجل بتوبة صادقة يكون العبد فيها مخلصاً في توبته مع الله.

عباد الله: تعالوا أدعو نفسي وأدعوكم جميعاً إلى أن نصطلح مع الله عز وجل على هذا الأساس الذي يطلبه الله منا، لا يطلب منا مزيداً على ذلك، أمن العسير عليكم إذا وجدتم أنفسكم في ساعة تغلّبَتْ فيها عليكم شهواتُكُم وأهواؤُكم أن تلتفتوا إلى الله بتوبة، أن تلتفتوا إلى الله بعودة؟ هذا ما يطلبه الله عز وجل منا.

عباد الله: رأيت في محكم بيان الله عز وجل آياتٍ يعلن الله عز وجل فيها عن حبه للمحسنين، شاقني أن أعلم صفات هؤلاء المحسنين في كتاب الله، لعلي أستطيع أن أبلغ شأوهم، لعلي أستطيع أن أرقى إلى درجاتهم أو إلى قريبٍ من درجاتهم، ولكن ماذا رأيت في كتاب الله عز وجل وهو يصف هؤلاء المحسنين؟

بعد أن قال:

(وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) [آل عمران : 134].

وصفهم فقال:

(وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) [آل عمران : 135].

هؤلاء هم المحسنون. ظننتُ أن المحسنين أولئك الذين ارتفعت درجاتهم في مرقاة العبودية لله فأصبحوا من أولئك الصدّيقين والربّانيين، وإذا برحمة الله عز وجل أوسع، أوسع وأوسع من ذلك. المحسنون الذين يصفهم بيان الله هم:

(الَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ).

إذاً يمكن أن يرتكبوا المعاصي بل يمكن أن يرتكبوا الفواحش أيضاً، ولكنهم ما إن تصحُوا عبوديتهم بين جوانحهم إلى الحقيقة حتى يؤوبوا ويتوبوا إلى الله، وإذا بهم يسمعون كلام الله عز وجل:

(وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ).

تعالوا نحاول أن نكون من هؤلاء المحسنين بصدق التوبة إلى الله، بصدق الإنابة إلى الله.

عباد الله أقول لكم شيئاً: إنَّ العبد المؤمنَ الصادقَ في إيمانه إذا زلَّتْ به القدمُ ووقع في معصية انتابه من ذلك شعورٌ كشعور الذي لدغته حيةٌ رقصاء فيهْرَعُ ويهربُ من هذا الشعور إلى الإنابة والتوبة إلى الله عز وجل. العبد المؤمن ليس معصوماً، لكنَّه إذا ارتكب المعصية انتابه كشعور الذي لدغته حية ويقبل إلى الله عز وجل وإذا به يسمع نداء الله يقول له:

(وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى) [طه : 82].

نعم.

أما الفاسق، أما الفاجر الذي يوغل في المعاصي فهو في أحسن الأحوال ينتابه عندما يرتكب المعصية تلو المعصية كشعور الإنسان الذي تنحط على أنفه ذبابة من هنا أو من هناك فيطيرها بيده يميناً أو شمالاً ثم يعود إلى شأنه.

هكذا وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم حال المؤمن الصادق في إيمانه – قد يرتكب المعصية – وحال الفاجر المستمرئ للمعصية، هكذا وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم.

إننا لا نطمع أن نكون معصومين من الأوزار، كيف وقد أثقلتنا أوزارُنا الكثيرة، ولكننا نطمع أن نكون من أولئك المحسنين الذين وصفهم الله في محكم تبيانه.

ينبغي أن يكون وقع المعصية علينا – ونحن الذين غُمِرْنَا في رحمات الله وفي مظاهر فضله وإحسانه وكرمه وجوده – أن يكون شعورنا كشعور الذي لدغته الحيّة. إن كان هذا شأننا فأنا أعِدُ نفسي وأعِدُكم بأن مغفرة الله عز وجل هي الموعد القريب، وإنَّ صفح الله سبحانه وتعالى هو الذي سنفاجَئ بل وسنُبَشَّرُ به.

أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم فاستغفروه يغفر لكم.



تشغيل

صوتي
مشاهدة