مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 26/11/2010

إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم

‏‏‏‏الجمعة‏، 20‏ ذو الحجة‏، 1431 الموافق ‏26‏/11‏/2010


الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلِّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد  صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.


أمّا بعدُ فيا عباد الله ..


ما وقعت الأمة الإسلامية في يومٍ ما في مصيبة أو مهلكةٍ وما مُنِيَتْ بابتلاء فلاذت من ذلك بصدق الالتجاء إلى الله عز وجل والتضرع إليه وإعلان ذل العبودية له إلا وانجابت عنها تلك المصيبة وأبدل الله عز وجل عسرها يسرا. تلك سنة من سنن الله عز وجل التي يأخذ بها عباده أثبتها الله عز وجل في محكم تبيانه نصوصاً واضحةً قاطعةً وشهد بذلك التاريخ وكلنا يقرأ مصداقاً لهذه السنة التي ألْفِتُ نظري وأنظاركم إليها في قوله عز وجل: ﴿فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ﴾ [الذاريات: 50].


فروا من مصائبكم، فروا من المهالك التي تطوف بكم، فروا من الابتلاءات المتنوعة التي تقرعوا أبوابكم، فروا منها إلى الله عز وجل. وكلكم يقرأ قوله سبحانه وتعالى في محكم تبيانه: ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ﴾ [الأنفال: 9].


قرن الاستجابة بالاستغاثة وجعل الاستغاثة – أي صدق الالتجاء إلى الله والتضرع والتذلل على بابه – جعل ذلك ثمناً لكشف الضر وإزالة البأس. وكلكم يقرأ قوله سبحانه وتعالى: ﴿فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَـكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ [الأنعام: 43].


دعوني يا عباد الله أضعكم أمام شواهد من التاريخ الإسلامي الأغر الذي ينطق بهذه السنة المباركة نطقاً بيناً لا لَبْسَ فيه، والوقت يضيق عن الوقوف على سائر الشواهد التاريخية ولكن فلنلتقط منها على وجه السرعة ما يسمح به الوقت.


كلنا يعلم أن هذه البقعة المباركة قد مُنِيَتْ بالحملات الصليبية تواردت وتوالت هذه الحملات وبقيت ما شاء الله لها أن تبقى وطاف من ذلك اليأس في نفوس كثيرٍ من المسلمين وظنَّ كثيرٌ منهم أن بقعة مباركة قد استلبت من المسلمين وقضي عليها وظنوا أن هذه البقعة المباركة قد احتلت ولا أمل في رجوعها، ولكن فما الذي تمَّ بعد ذلك؟


ظهر نور الدين زنكي ومعه تلميذه وصاحبه صلاح الدين فكان السلاح الأول والأمضى الذي توجه به كل منهما إلى فلول الصليبيين إنما هو الالتجاء الصادق إلى الله والتذلل على أعتاب الله وإعلان ذل العبودية لله عز وجل، ولعلكم جميعاً تعلمون مناقب نور الدين زنكي الذي يُزَار قبره على مقربة من هذا المسجد الجامع. كان إلى جانب الإعداد التام الذي يهيئه ويلزم الأمة به كان يمضي معظم الليل قائماً باكياً ساجداً ملتجئاً إلى الله سبحانه وتعالى وكان أخوه بل تلميذه صلاح الدين الأيوبي يطرق باب الله باليد ذاتها، يد المسكنة ويد الذل وإعلان العبودية التامة لله سبحانه وتعالى، كان ذلك الروح التي لابد منها للاستعدادات المادية، نعم لابد من الاستعداد المادي لكنه كالجسد، وهل رأيت جسداً يقوى ويتحرك بدون روح، روح هذا الجسد الفرار إلى الله. ﴿فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ﴾ [الذاريات: 50].


وسرعان ما طَهُرَتْ هذه البقعة المباركة من الحملات الصليبية ورُدَّتْ على أعقابها، واقرؤوا تاريخ هذا المنعطف تجدون شيئاً عجيباً، تجدون مظهراً عجيباً كبيراً لسنة الله عز وجل التي تقول: ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ﴾ [الأنفال: 9].


شاهدٌ آخر، ذلك هو عهد ما يسمى بالدول المتتابعة. انفصمت عرى الوحدة الإسلامية في هذه البقاع وتفككت أوصالها وتحولت الدولة الواحدة إلى ما سُمِّيَ بالدويلات المتتابعة، ولسوء الحظ فقد كانت كل دولة تناصب العداء لجارتها للدولة الأخرى فما الذي كان علاجاً أنقذ الأمة من هذا النذير الخطير الذي أوصل الأمة إلى شفا جرف؟


ظهر بين هذه الدول المتتابعة رجل يرأس واحدة منها هو عثمان أرطغل جد الخلفاء العثمانيين. كان شأنه التجلبب بجلباب العبودية لله وكان غذاؤه الذي يستجمع به قوته الالتجاء إلى الله واستمرار البكاء في الليالي الطوال بين يدي الله عز وجل، كان شديد التعظيم لشعائر الله عز وجل. استضافه قريبٌ له بالبورصة، ولما حانت ساعة الرقاد دلَّهُ على غرفة نومه التي أعدت له وأطبق الباب ومضى صاحب الدار. نظر الضيف – عثمان أرطغل – فوجد مصحفاً معلقاً على جدار هذه الغرفة، دنا منه وإذا هو كتاب الله عز وجل، اتخذ عثمان أرطغل من كتاب الله موقف الجندي من قائده ووقف هذه الوقفة إلى لمعة الفجر لم يجلس ولم يرقد، ولما عرف صاحب المنزل هذا سأله معاتباً، قال: كيف أرقد، كيف أمدد رجلي في مكان فيه كلام الله يناجيني ويخاطبني. شاء الله عز وجل أن يتولى هذا الرجل جمع هذه الدويلات وتوحيدها مرة أخرى في دولة واحدة وولدت الدولة العثمانية عن طريق توفيق الله سبحانه وتعالى ﴿جَزَاء وِفَاقاً﴾ لهذا الالتجاء إلى الله عز وجل وصدق مرة ثانية قول الله: ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ﴾ [الأنفال: 9]


هو ذاك الذي أوصى ابنه قبيل وفاته قائلاً: كنت يا بني كنملة في الضعف فأعطاني الله كل هذا بخدمة دينه فعش خادماً لدين الله حارساً لشريعة الله فإنما ذلك واجب الملوك على وجه الأرض. أأزيدكم يا عباد الله من البراهين التاريخية على هذه السنة الربانية؟


عهد ملوك الطوائف في أقصى المغرب، تحطمت صخرة الدولة الأموية القوية في الأندلس وتحولت إلى نثارٍ ورذاذ لأخطاء كثيرة يضيق الوقت عن ذكرها وتحولت هذه الدولة الواحدة إلى دويلات يخاصم البعضُ البعضَ وتستعين كل دولة بأعداء الله سبحانه وتعالى للانتصار على الإخوة، على الجوار، على من جمعهم مبدأ واحد ودين واحد. لكن إلام آل هذا الأمر؟ انظروا إلى الخطأ ثم انظروا إلى الوجه الثاني، إلى تصحيح الخطأ.


ظهر يوسف بن تاشِفِين – ويوسف بن تاشِفِين هذا هو مضرب المثل في بكاء الليالي، هو مضرب المثل في الزهد، هو مضرب المثل في الاخشيشان في الملبس والمأكل والمأوى، هو مضرب المثل في قيام الليالي متهجداً ساجداً باكياً داعياً – التجأ إلى الله ولاذ بباب الله سبحانه وتعالى ونفَّذَ قوله: ﴿فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ﴾ [الذاريات: 50].


جمع الله عز وجل به ملوك الطوائف وإذا بتلك الدويلات عادت فتلاحمت وعادت إلى دولة واحدة، تلاحمت الصخرة التي كانت قد استحالت إلى نثار عادت إلى القوة. ما السر؟ السر الأول الالتجاء إلى الله، الاصطلاح مع الله، مدّ الجسور بينه وبين الله سبحانه وتعالى، والله يستجيب. مرة أخرى صدق قول الله عز وجل: ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ﴾ [الأنفال: 9]. أأزيدكم يا عباد الله؟ نعم.


ها هو ذا محمد الفاتح الذي كان يحلم بأن يكون الإنسان الذي أشار إليه المصطفى إذ قال: لتفتحن القسطنطينية فلنعم الأمير أميرها ولنعم الجيش ذلك الجيش، أقام الاستعدادات المادية – لم ينسها – كأتم ما يمكن أن يقيم بها إنسان لا يؤمن إلا بالمادة وسلطانها، بنى قلعته المعروفة على ضواحي القسطنطينية آنذاك في أقل من أربعة أشهر، ولا يمكن للتقنية المعاصرة أن تبنيها في مدة هي ضعفا ذلك الوقت ولكن على ما اعتمد محمد الفاتح؟ اعتمد على ما قد قصده، اعتمد على تنفيذه لأمر الله القائل: ﴿فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ﴾ [الذاريات: 50].


أقبل إليه ياوَرَهُ – خادمه – بعد هزيع من الليل إلى خيمته ليستشيره في أمر وإذا هو قد افترش الأرض ساجداً على التراب ليس بين وجهه والتراب أي فاصل، يبكي ويضرع إلى الله ويناجي الله سبحانه وتعالى يستنزل النصر، وقف الياوَرُ وقفة الجندي أمام القائد ينتظر أن ينتهي من سجوده بل من مناجاته لمولاه وخالقه. كان ذلك هو سر الفتح الإلهي الذي حققه الله سبحانه وتعالى على يد محمد الفاتح، مرة أخرى نجد أنفسنا أمام مصداق قول الله تعالى: ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ﴾ [الأنفال: 9]. ماذا أقول لكم، التاريخ كله – أيها الإخوة – ينطق بهذه السنة الربانية.


عقبة بن نافع وصل داعياً إلى الله عز وجل مجاهداً إلى المغرب الأقصى، نزل في أرضٍ سبخة كلها غابات وأدغال محشوة بالسباع والوحوش الضارية، ونظر فرأى أن ذلك المكان هو المنطلق المفضل، هو المكان الذي يسمونه اليوم الاستراتيجي، نظر إلى من حوله من أفراد جيشه فانتقى البقايا الباقين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا أربعة عشر، جمعهم واجتمع معهم بقية القوم وأخذوا يلتجئون إلى الله من الصباح إلى المساء يناجون الله، يستنزلونه النصر يلتجئون إليه وقد أعلنوا عن ذل عبوديتهم له، وقد أعلنوا عن فرارهم من أنفسهم إلى الله سبحانه وتعالى إلى المساء باكين متضرعين يستنزلون النصر من عند الله، ولما دنا المساء وقف عقبة فوق رابية في ذلك المكان الموحش وأخذ يخاطب تلك الوحوش، أخذ يقول لها بأعلى صوته: أيتها الوحوش المتناثرة في هذا المكان جئنا لنبلغ رسالات الله، جئنا لننفذ أمر الله فهلا ذهبتم إلى مكان آخر لنجعل من هذا المكان منطلقاً لرسالتنا. نظر القوم في صباح اليوم الثاني وإذا بهذه الوحوش تحمل صغارها مبتعدة. كان ذلك المكان هو المكان الذي بنيت فيه مدينة القيروان.


هل أزيدكم يا عباد الله؟ ارجعوا إلى التاريخ، التاريخ كله ينطق بذلك، سنة الله ماضية في عباده لا تتبدل ولا تتحول، ونحن كما تعلمون نمر اليوم بحالةٍ لم نعهدها من قبل أبداً كما تعلمون، القحط والجفاف اللذان ينذران بشيء وبيل وخطير، إنها رسالة – يا عباد الله – والله الذي لا إله إلا هو إنها رسالة آتية من عند الله عز وجل لها مضمون ولها مقتضى وفيها متطلبات فهل نتأمل فيها؟ هل ننفذ مقتضياتها؟ هل ننفذ المطالب التي تتضمنها هذه الرسالة؟


أسأل الله العلي القدير أن يوفقنا لذلك، أقول قولي هذا وأستغفر الله.



تشغيل

صوتي
مشاهدة