العلّامة الشهيد محمد سعيد رمضان البوطي
خطبة عيد الأضحى: شرائط الاستجابة
خطبة عيد الأضحى المبارك - الثلاثاء، 10 ذو الحجة، 1431 الموافق 16/11/2010
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر.
الله أكبر من بغي الباغين واستكبار المستكبرين، الله أكبر من الخطط الكائدة لدين الله ولعباده المؤمنين، الله أكبر القائل: )يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ[ [الصف: 8].
سبحان الله ملء الميزان، سبحان الله المُسَبَّحِ في كل مكان، سبحان الله الملك الديان، سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر. الله أكبر، الله أكبر.
ما يقارب ثلاثة ملايين من المسلمين وقفوا بالأمس على أرض عرفة وذراها يجأرون إلى الله سبحانه وتعالى بالخشية والدعاء، يرفعون أكفهم إلى سماوات الله سبحانه وتعالى يستنزلون مرضاته ويستدفعون نقمه ويسألونه لإخوانهم في مشارق الأرض ومغاربها النصر والحماية والتوفيق والتأييد، يسألون للمسلمين ولقادة المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها الحماية والتأييد والتوفيق.
والفتنة التي قد تتسرب إلى بال كثيرٍ من المسلمين في مثل هذه الحال هي أن فينا من يقول: فها هم ألاء على كثرتهم وقفوا يدعون الله عز وجل في يومٍ لا يُرَدُّ فيه الدعاء وفي مكان لا يُرَدُّ فيه الدعاء. وقفوا يدعون الله عز وجل من صباح يوم عرفة إلى مساء ذلك اليوم للمسلمين ولقادة المسلمين وللأمة الإسلامية، وها نحن ننظر فلا نجد مظهراً لاستجابة دعاء دليلاً على أن الله سبحانه وتعالى قد لبَّاهم في ما طلبوا وسألوا، فأين هي القاعدة القائلة بأن الدعاء في هذا اليوم لا يُرَدّ وبأن الدعاء في عرفة لا يمكن أن يُرَدَّ، هذه فتنة قد يدخلها الشيطان في أذهان كثيرٍ من الناس وربما بعثت نوعاً من الريبة بالإيمان بالله عز وجل في نفوسهم. وأريد أن أجيب عن هذا السؤال بما يحصن الإنسانَ المسلم ضد كل وسوسةٍ من وساوس شياطين الإنس أو الجن.
أما دعاء الحجيج لأنفسهم فإنه مستجاب فيما لو حققوا شرائط الاستجابة، وشرائط الاستجابة تتلخص في أن يبدأ الداعي فيتوب إلى الله عز وجل أولاً من سائر الذنوب والمعاصي والشرط الثاني أن يرد المظالم إلى أصحابها أو أن يستسمح المظلومين فيسامحوه، فإن فعل الداعي ذلك وأقبل إلى الله عز وجل ودخل إليه من باب التوبة وباب رد المظالم فلا يمكن إلا أن يستجيب الله عز وجل له دعاءه الذي يدعوه لنفسه.
ولكن حتى الحجيج، حتى الذين يدعون لأنفسهم لو أن أحدهم لم يتب إلى الله عز وجل من ذنوبه ولو علم أن في عنقه حقوقاً للآخرين لم يؤدها لهم ولم يسامحوه بها فإنه لا يستجيب دعاءه، أما قرأتم قوله سبحانه وتعالى: )وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ[ [البقرة: 186].
لاحظوا أيها الإخوة كيف قَرَنَ استجابته لك باستجابتك له )فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي[.
إن كنت تريد أن يستجيب الله دعاءك فاستجب أمره لك، استجب لوصاياه التي أوصاك بها.
أما دعاء الحجيج وغير الحجيج للمسلمين عامة في مشارق الأرض ومغاربها، أما دعاء الحجيج لقادة المسلمين فشيء آخر.
قلت إنه لابد لاستجابة الله الدعاء من تحقق هذين الشرطين؛ لابد من توبة الداعي إلى الله ولابد من إنابته بلسانه وقلبه ولابد من رد المظالم إلى أصحابها، فهب أن الداعيَ فعل ذلك في حق نفسه، يستجيب الله دعاءه في حق نفسه، ولكن من لك بأن يحقق المسلمون الآخرون شرط الاستجابة إذ تدعو الله لهم في جنبات الأرض، كثيرٌ من المسلمين المستكبرين على الله، كثيرٌ من المسلمين الذين أوغلوا في العصيان واستمرؤوه وبرروه لأنفسهم على اختلاف فئاتهم وعلى اختلاف درجاتهم. كيف يستجيب الله دعائي لهم وهم على هذه الحال؟ كيف يستجيب الله عز وجل دعائي لهم وهم موغلون في المعاصي، لا من حيث السلوك فقط بل إنهم يبررون أيضاً معاصيهم ويرون أنهم على حقٍّ في ارتكابها، في مثل هذه الحالة لا يُستجاب الدعاء. وهذا هو الجواب عن السؤال الذي يطوف بأذهان كثيرٍ من الناس اليوم.
على أنني أقول لكم – يا عباد الله – إن الإنسان إذ يعصي الله عز وجل أحد رجلين، إما أنه يندفع إلى العصيان بسائق من الضعف، بسائق من تغلب شهواته ونفسه الأمارة بالسوء عليه ولاشك أن لسان حال هذا العاصي يقول لربه: اللهم إنني أعلم أني قد عصيتك وأعلم أنني قد أصبحت مستحقاً لعقابك ولكنني والله ما عصيتك استكباراً وما عصيتك وأنا أبرر معصيتي لكنها نفسي الأمارة تغلبت عليَّ، لكنه الضعف الذي وصفت عبادك به إذ قلت: )وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً[ [النساء: 28].
مثل هذا الإنسان لابد أن يغفر الله له، ولابد أن يأتي يومٌ قبل رحيله من هذه الدنيا وقد تاب وآب إلى الله واصطلح مع الله عز وجل.
ورجل آخر يعصي الله عز وجل وهو يبرر عصيانه، يرتكب الموبقات وهو يفلسف الموبقات التي يرتكبها ويرى أنه في ارتكابها على حق، يستكبر على الله سبحانه وتعالى، إذا ذُكِّرَ بأوامر الله عز وجل ربما سَخِرَ بالمُذَكِّرِ واستهزأ به وإذا ذُكِّرَ بآياتٍ من كلام الله عز وجل ربما قال الكلام الذي لو قاله أحدنا لكفر. مثل هذا الإنسان لا يمكن أن يقبل الله الدعاءَ له لأن الحجاب الذي يحجبه عن الله عز وجل لا يتمثل في عصيان، الله يغفر الذنوب جميعاً كما قال، وإنما يتمثل في استكبارٍ وعناد، يتمثل في استكبار هذا الإنسان على الله عز وجل. ولقد بَيَّنَ كتاب الله وكرر أن المستكبرين )لاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ[، هكذا قال الله عز وجل ويقول:
)وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَن يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً[ [الكهف: 57].
من هنا ننظر فنجد الملايين الذين اجتمعوا في ذرا عرفات يجأرون إلى الله بالدعاء والبكاء والتضرع لأنفسهم ولإخوانهم وللمسلمين في بقاع الأرض جمعاء وننظر إلى حال المسلمين وإذا بهم ينتقلون من حالة إلى حالة أسوأ منها.
لا يوسوسنَّ الشيطان إلى أيِّ واحدٍ منكم فيقول: ها هم أولاء دَعَوا الله في يوم الاستجابة وفي مكان الاستجابة باكين متضرعين فلم يُسْتَجَبْ لهم.
الله يستجيب ولكن إذا تحققت شروط الاستجابة.
من هنا – يا عباد الله – لا أمل في أن نسأل الله عز وجل السقيا - وأنتم ترون الحالة التي نمر بها والخطر الذي يحدق بنا – إلا إذا تحققت شروط الاستجابة، لأن الأمطار التي تهمي من سماء الله إلى أرضه لن يكون رزقاً لي ولك أنت فقط وإنما هو رزق آتٍ للناس جميعاً، للتائهين وللشاردين وللمستكبرين ومن ثم فمثل هذا الدعاء الذي يتضمن رجاءً من الله عز وجل أن يرفع البلاء عن الأمة جمعاء لابد لذلك من شروط.
ولقد حدثتكم عن ذلك الصحابي الذي جاء إلى رسول الله يسأله الدعاء له فقال له: )أعني على نفسك بكثرة السجود[. لعل المصطفى صلى الله عليه وسلم رأى فيه انحرافاً ورأى فيه تقصيراً فأراد أن يذكِّرَهُ بضرورة الاستقامة أولاً والتوبة إلى الله ثانياً لكي يستجيب الله دعاء مَنْ، دعاءَ رسوله محمدٍ صلى الله عليه وسلم، فما بالك بدعاء أمثالنا.
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يلهم أمتنا الإسلامية جمعاء في مشارق الأرض ومغاربها قادة وشعوباً أن يؤوبوا إلى ربهم وأن يُصْلِحُوا حالهم وأن يصطلحوا مع الله سبحانه وتعالى وعندئذٍ سينصرهم الله وسيؤيدهم بروحٍ من لدنه كما أيَّدَ الرعيل الأول من أصحاب رسول الله ثم الذين جاؤوا على أعقابهم ثم الذين جاؤوا على أعقابهم.
أما إذا بقينا على هذه الحال، قادة المسلمين في بقاع الأرض المختلفة يلهثون وراء التائهين والشاردين عن دين الله، يتبعونهم إتباع الأعمى ويسيرون وراءهم وقد تبرموا من الدين الذي شرفهم الله عز وجل به، ينادون بالحداثة آناً والعلمانية آناً آخر وهم في كل مناسبة ينفضون أفكارهم وعقولهم أمام دول الغرب من بقايا الانتماء إلى الدين وإلى الإسلام أنَّى لهؤلاء الناس أن يكتب الله لهم التأييد وأنَّى لهم أن تُفْتَحَ أمامهم أبواب الصعود إلى مدارج العز ومدارج التأييد الذي كانت أجدادهم قد تبوؤوها.
هذه الحقيقة ينبغي أن نتبيَّنها ولا يقولن قائل: ها هم أولاء الغربيون التائهون عن الله الجاحدون بدين الله عز وجل يسرحون ويمرحون ويتقلبون في النعم، لقد أجبت عن هذا السؤال في موقف سابق ولعلي أعود فأشرحه شرحاً جديداً في موعدٍ لاحقٍ إن شاء الله تعالى. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم فاستغفروه يغفر لكم.