مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 05/11/2010

المعاصي التي تُرْتَكَب في المجتمع بدافع الاستكبار: مشكلة وعلاج

‏‏‏‏الجمعة‏، 28‏ ذو القعدة‏، 1431 الموافق ‏05‏/11‏/2010


الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلِّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد  صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.


أمّا بعدُ فيا عباد الله ..


إن المعاصي التي يتورط فيها المسلمون تنقسم إلى قسمين اثنين:


 أما القسم الأول منهما فمعاصي فردية يتورط فيها المسلم بسائق من ضعفه وبدافع من تغلب نفسه الأمارة عليه، يرتكب هذه المعاصي وهو شاعر بالألم وشاعر بالندم والخجل من الله عز وجل، والغالب أن هذه المعاصي تُغْتَفَرُ لأصحابها، وفي هذا النوع من المعاصي يقول الله سبحانه وتعالى: )قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ[ [الزمر: 53]


 هذا ما لم يكن في هذا النوع من المعاصي ما يتضمن إهداراً لحقٍّ من حقوق الآخرين فالمغفرة في هذه الحال منوطة بإعادة الحقوق إلى أصحابها


 وأما القسم الثاني من المعاصي التي قد يتورط فيها المسلمون فهي تلك المعاصي التي تُرْتَكَبُ مع التبرير لها ومع التباهي بها ومع الإصرار عليها دون الالتفات إلى نصيحة الناصحين أو إنذار المنذرين أو تخويف النذر الآتية من عند الله سبحانه وتعالى. هذا النوع من المعاصي إن استحر بالمجتمع وتكاثر واستمر يحمل في داخله نذيراً لعقابٍ مخيفٍ وشديد، وعن هذا النوع من المعاصي يقول ربنا سبحانه وتعالى: )قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ. وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُل لَّسْتُ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ. لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ[  [الأنعام: 65-67]


 عباد الله: إننا نعاني في هذا العصر من كثير من المعاصي التي تدخل في هذا النوع الثاني، إننا نعاني من معاصٍ تُرتكب مع التباهي بها ومع الإصرار عليها ومع التبرير لها دون الالتفات إلى النذر التي تأتي من عند رب العالمين، دون الالتفات إلى نصيحة ناصحين أو إنكار منكرين. إن هذا اللون من المعاصي يحمل في داخله أخطاراً كبيرة، أخطاراً ماحقة لعل هذا الجفاف الذي نعانيه اليوم بعضٌ – لا كل – من نتائج وآثار هذا اللون من المعاصي التي تُرتكب. ومثل هذه المعاصي – يا عباد الله – إذا استحر في المجتمع بهذا الشكل لا تنفع فيه آنذاك دعاء الأفراد مهما ابتهلوا إلى الله ومهما تضرعوا، ولقد ذكَّرْتُكُم في الأسبوع الماضي بالأثر القائل: يأتي على الناس زمان يدعو فيه الرجل لخاصة نفسه فيستجاب له ويدعو لعامة المسلمين فلا يستجاب له، ذلك لأن المعاصي التي ترتكب في المجتمع ولا تكون بسائق من ضعف ولا تكون بدافع من تغلب النفس ورعوناتها وإنما تكون بدافع من الاستكبار ومن التبرير ومن التباهي بها لا يقبل الله عز وجل فيها دعاء الأفراد من الناس، تلك هي سنة من سنن رب العالمين أنبأنا عنها في محكم تبيانه.


 ولقد ذُكِّرْتُ كما ذُكِّرَ كثيرٌ من أمثالي بضرورة اللجوء إلى الاستسقاء في سبيل رفع هذا البلاء، في سبيل أن يُحَوِّلَ الله عز وجل جفافنا الخطير هذا إلى رزقٍ يهمي من السماء وينبع من الأرض ولكني قلت وأقول – يا عباد الله – إن الاستسقاء له شروطه التي أمر بها الله ولا يُقْبَلُ الاستسقاء من دون وفرةٍ لشروطه، أرأيتم إلى الذي يصلي أيكفي أن يستقبل القبلة ثم يكبر تكبيرة الإحرام وإذا بصلاته قد قُبِلَتْ دون أن يلتفت إلى شرائط الصلاة التي تعرفون فالاستسقاء كذلك.


 يذكر الفقهاء – وأنا أوضح لكم بهذه المناسبة – أن الاستسقاء يتم بالشكل التالي


 يدعو ولي أمر المسلمين – أو من ينوب منابه – يدعو الناس إلى التوبة أولاً من سائر المعاصي بقسميها ويدعوهم إلى رد المظالم لأصحابها، يدعوهم إلى صيام أربعة أيام والخروج في اليوم الرابع إلى المصلى في الأرض العراء أو إلى المسجد الجامع فيستجيب الناس منضبطين بهذه الشروط ويبتهلون ويتضرعون ولابد أن تتحقق الاستجابة ونحن إذا عدنا إلى التاريخ نجد أنفسنا أمام عشرات الصور لأقوامٍ من أمثالنا ابتلوا بمثل هذا الجدب والقحط فطرقوا باب الرحمة الإلهية عن طريق صلاة الاستسقاء ملتزمين بشروطها التامة، سرعان ما أنجدهم الله، سرعان ما جاء الجواب فعلاً يقول بلسان الحال لبيك، نعم، وإليكم هذه الصورة من عشرات الصور الإيجابية.


 عبد الرحمن الناصر – خليفة المسلمين في دولة بني أمية في الأندلس في أوائل القرن الرابع – مُنِيَ المسلمون تحت سلطانه بجفاف كهذا الجفاف وبقحطٍ مثل هذا القحط فأمر قاضيه المنذرَ بنَ سعيد أن يدعو الناس باسمه إلى صلاة الاستسقاء بالشروط التي ذكرتها لكم. ونفَّذَ قاضيه المنذرُ بنُ سعيد ما طُلِبَ منه. واجتمع الناس في الأرض العراء في ثياب بذلة يلتجئون إلى الله. والتفت المنذرُ بنُ سعيد يميناً وشمالاً فلم يجد أميرَ المؤمنين عبدَ الرحمن الناصر فقال لنائبه اذهب وقل لأمير المؤمنين إن القوم ينتظرونك ولن يصلوا حتى تأتي فتكون معهم. قال له: يا سيدي إن أمير المؤمنين هاهنا منعزل في مكان فمضى المنذر بن سعيد إلى حيث أشار نائبه وإذا بأمير المؤمنين منتبذاً أرضاً بعيدة قد افترش التراب ومرَّغ رأسه ولحيته بالأرض وتربتها يبكي ويقول: أي رب هذه ناصيتي بين يديك، أتراك تهلك الرعية بسببي وأنا عبدك البائس العاصي، هاأنذا تائبٌ إليك هاأنذا مقبل إليك. وقف المنذر بن سعيد ينظر إلى خشيته وبكائه وقد ارتدى ثياباً بذلة، عاد إلى القوم وقد استبطؤوه، قال لهم: انصرفوا أيها الناس فقد أُذِنْتُم بالسقيا، إذا خضع جبار الأرض رَحِمَ جبار السماء. وما كان الناس ينصرفون حتى أذن الله عز وجل لسمائه بأن تهمي أمطاراً ساعاتٍ طوال وأذن الله عز وجل لأرضه أن تعود فتنبت. صورة واحدة من عشرات الصور.


 تعالوا ننفذ هذه الشروط ولسوف تجدون أن هذا الجفاف تحول إلى رزقٍ وفير من السماء أمطاراً ومن الأرض رزقاً ونباتاً، ولكن هل شعرتم بالخطر المحدق بنا اليوم؟ هل علمتم أن أكبر الينابيع التي يكرمنا الله عز وجل بها يتناقص بسرعة مذهلة؟ هل تعلمون إل ما سيؤول حال هذا الينبوع الكبير الكبير الذي يسقي دمشق بفضل من الله ورحمةٍ وإحسان هل تعلمون إلى ما سيؤول أمره إذا بقي الجفاف عشرين يوماً أو شهراً كاملاً آخر.


 ينبغي أن نستيقظ وينبغي أن نعود فنتلمَّس حقائق هوياتنا عبيداً لله، ينبغي أن نضع هويتنا هذه موضع التنفيذ قبل فوات الأوان، ينبغي أن نتوب ونؤوب، ينبغي أن نلتجئ إلى الله، ينبغي أن نقلع عن المعاصي بنوعيها؛ المعاصي الفردية التي تقع بسائق من ضعف نفوسنا والتي قد تُرْتَكَبُ جهراً ومع التباهي بها ومع الدفاع عنها فإن نحن أُبْنَا إلى الله وتبنا إليه أصلح الله أمرنا وتحولت هذه الحال المخيفة إلى حالٍ أخرى يبرز فيها إحسان الله عز وجل وفضله.


أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم فاستغفروه يغفر لكم. 



تشغيل

صوتي
مشاهدة