مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 29/10/2010

مفتاح النعمة بعد النقمة

‏‏‏‏الجمعة‏، 21‏ ذو القعدة‏، 1431 الموافق ‏29‏/10‏/2010


الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلِّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد  صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.


أمّا بعدُ فيا عباد الله ..


ورد في الأثر من كلام السلف الصالح رضوان الله عليهم أنه سيأتي على الناس زمن يدعو فيه المؤمن لخاصة نفسه فيستجاب له ويدعو لعامة المسلمين فلا يستجاب له.


 تذكرتُ هذا الأثر الشريف عندما رأيت من يستوقفني أكثر من مرة في هذه الأيام يسألني الدعاء والابتهال إلى الله سبحانه وتعالى كي ينجينا من هذا الجفاف الذي طال أمده ولكي يكرمنا بالسقيا، ونظرت إلى حال أكثر هؤلاء الذين يطلبون مني هذا الدعاء والتضرع إلى الله فرأيت مظاهر الشرود عن الالتزام بأوامر الله عز وجل في كياناتهم وسلوكهم، ورأيت كثيراً منهم شاردين عن صراط الله غير ملتزمين بأوامره. ذكَّرَني ذلك بهذا الأثر الشريف؛ يأتي على الناس زمان يدعو فيه المؤمن لنفسه أو لخاصة نفسه فيستجاب له ويدعو لعامة المسلمين فلا يستجاب له.


 ولابد أن أبين لكم – يا عباد الله – معنى هذا الأثر الذي دلَّ عليه كلام رسول الله ودلت عليه الآيات البينات من كلام الله سبحانه وتعالى.


 إن المصائب التي يرسلها الله سبحانه وتعالى إلى عباده المسلمين إنما يرسلها إليهم لتوقظهم من معاصٍ ارتكبوها وعكفوا عليها، استمرؤوا العكوف عليها كي تحملهم على اليقظة والتوبة وتسوقهم إلى الاستغفار والندامة والدعاء والانكسار والتضرع أمام باب الله سبحانه وتعالى.


 ثم إن هذه المصائب التي يرسلها الله ابتلاءً لعباده المؤمنين – ومرة أخرى أقول لكم المؤمنين – قسمان اثنان.


 قسم من هذه المصائب يبتلى بها الأفراد كمصيبة المرض، كمصيبة الفقر، كمصيبة فقد عزيزٍ أو قريبٍ أو نحو ذلك.


 والقسم الثاني مصائب تنحط في كيان الأمة كلها تبتلى بها البلدة جمعاء مثل هذا الجفاف الذي ابتلانا الله سبحانه وتعالى به والذي ينذر بما قد ينذر مما تعلمون أو ربما لا تعلمون، فهذا بلاء عام ليس من النوع الأول.


 ما العلاج الذي ينجي الأمةَ من هذه المصائب؟؟


 أما المصائب التي تنحط في كيان الأفراد فأمر علاجها يسير، مطلوب من صاحب المصيبة هذا الذي ابتلي بالمرض أو الفقر أو نحو ذلك أن يَصْدُقَ في التوبة إلى الله وأن يستغفر الله من ذنوبه كلها وأن يجأر إلى الله بالشكوى والضراعة وأن يستمر على هذه الحال ولابد أن يجد الاستجابة إذا دعا وكانت شروط الاستجابة موفورة.


 أما المصيبة التي يبعثها الله عز وجل على الأمة جمعاء فعلاجها أن تعود هذه الأمة كلها إلى الله سبحانه وتعالى وأن يقبل أفراد هذه الأمة جمعاء على اختلاف فئاتهم ومستوياتهم يقبلون إلى الله سبحانه وتعالى تائبين متضرعين يجددون العهد مع الله أنهم لن يشردوا بعد اليوم عن صراطه، أنهم لن يستمرئوا المعاصي التي كانوا قد استمرؤوها نسياناً أو جهلاً أو نحو ذلك. فإن هم فعلوا ذلك، أقبلوا إلى الله جميعاً وتابوا إلى الله جميعاً وردُّوا المظالم جميعاً وابتهلوا وتضرعوا إلى الله عز وجل جميعاً فإن الله عز وجل لابد أن يرفع عنهم البلاء ولابد أن يبدل مصيبتهم نعمة.


 إذاً المصائب في حياة المسلمين إنما يبعثها الله عز وجل للسبب الذي ذكرت لكم، وصدق الله القائل: ﴿وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ﴾ [الشورى: 30]


 ولكن المشكلة – يا عباد الله – تتجلى عندما يظل جمعٌ كبيرٌ وكبير من المسلمين عاكفين على لهوهم على معاصيهم وأوزارهم، عاكفين ربما على استخفافهم بشرائع الله عز وجل وكتابه ثم إن أفراداً منهم يقابلون إنساناً مثلي ممن يُعَدّون في المتدينين أو ممن يُسَمَّون المشايخ يقول لهم ادع الله لنا، ما لكم لا تدعون للأمة أن يرفع الله سبحانه وتعالى هذا البلاء، يكلفون من يرونهم ملتزمين متدينين بالدعاء نيابة عنهم، أما هم تتأمل في حالهم فتجد أنهم لا يغيرون من سلوكهم شيئاً، لا يزالون عاكفين على الأوزار التي استمرؤوها، لا تزال أفواههم تستقبل الحرام تأكله ولا تسأل من أين جاء، لا يفكرون برد المظالم، لا يقفون أمام قول الله عز وجل القائل: ﴿أَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ﴾  [البقرة: 40]


 كم وكم وقفتُ أمام هذه الكلمة العجيبة التي نغفل عنها يخاطبنا الله قائلاً: ﴿أَوْفُواْ بِعَهْدِي﴾ الذي ألزمتكم به والذي عاهدتموني عليه ﴿أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ﴾


 لا. العكوف يستمر على المعاصي والأوزار ولكن عندما يتجلى البلاء بنُذُرِهِ المخيفة فإن الشأن الوحيد الذي يتجلى لهم أن يطرقوا أبواب من يرونهم متدينين أو من يسمونهم المشايخ: ألا تدعون؟ لماذا لا تدعون الله عز وجل. وأنتم لماذا لا تقبلون إلى الله.


 تأملوا – يا عباد الله – في هذا الذي يقوله الله عز وجل: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾  [غافر: 60] ثم ماذا قال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾ [غافر: 60]


 ما العلاقة بين الجملة الأولى والثانية في هذه الآية ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي﴾ خطاباً للناس جميعاً على اختلاف فئاتهم، ﴿أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ ثم إنه يوجه الخطاب إلى الذين يستكبرون عن الدعاء، يستكبرون عن الوقوف أمام باب الله بانكسار وتضرع وبكاء فيقول: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾.


 عباد الله: إن التوكيل الذي شرعه الله سبحانه وتعالى في العقود والمعاملات المختلفة لم يشرعه في العبودية الضارعة لله، لم يشرع البيان الإلهي التوكيل في واجب الالتجاء إلى الله، في واجب الفرار إلى الله القائل: ﴿فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ﴾ [الذاريات: 50]


 لم يشرع الله عز وجل لي وقد سمعت قوله ﴿فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ﴾ أن أُوَكِّلَ فلاناً أو فلاناً فِرَّ عني إلى الله عز وجل.


 لم يشرع الله عز وجل الوكالة في هذا الشأن قط، لم يأذن الله عز وجل لي أن أقول لزيد أو فلان أو فلان من الناس ألا تطرق باب الله عني، ألا تدعوه عني، ألا تدعوه عني أن يصلح تجارتي، أن يرفع عنا هذه الحوباء، اغد بدلاً عني إلى أعتاب الله عز وجل وتضرع بدلاً عني واسكب الدموع من المآق بدلاً عني. أفَشَرَع الله هذا يا عباد الله؟


 جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له ادع الله لي، ونظر رسول الله إليه فوجد فيه دلائل التقصير في جنب الله عز وجل فقال له: أعني على نفسك بكثرة السجود.


 لا ينبغي أن يكون دعائي لك نيابة عن دعائك واستغفارك وتوبتك وإنما ينبغي أن يكون دعائي لك دعماً لعبوديتك، دعماً لموقفك الضارع أمام الله سبحانه وتعالى.


 تأملوا – يا عباد الله – كيف يلحُّ البيان الإلهي عندما تنزل المصيبة على الأمة جمعاء أن تؤوب إلى الله وأن تتجلبب بجلباب العبودية والإنابة إلى الله سبحانه وتعالى، انظروا إلى هذا البيان وتأملوا فيه إذ يقول: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلنَا إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ﴾  [الأنعام: 42]


﴿فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء﴾  إيقاظاً لهم، أملاً في أن يستيقظوا ويؤوبوا فيتضرعوا إلى الله، لا ينيبوا غيرهم بالتضرع، لا، أملاً في أن يقبلوا جميعاً إلى الله على اختلاف فئاتهم وعلى اختلاف درجاتهم، يقبلون إلى الله عز وجل، يتوبون إلى الله سبحانه وتعالى: ﴿فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ﴾ [الأنعام: 43] هلا تضرعو ﴿وَلَـكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ [الأنعام: 43]


 عباد الله: حصيلة القول هي التال


 مفتاح النعمة بعد النقمة، السبيل إلى التخلص من هذا البلاء وغيره إنما هو أوبة جماعية إلى الله، إنما هي رحلة جماعية على صراط الله ووقفة انكسار على باب الله عز وجل، وانظروا كيف يبدل الله عز وجل النقمة نعمة وكيف تنطوي المصائب وكيف يكرمنا الله عز وجل بالأمطار السخية وكيف تعود الأنهار متدفقة متألقة. هذا هو بيان الله وهذا هو وعد الله، ووعد الله سبحانه وتعالى لا يلحقه خُلْف.


 أما ما قد يطوف بأذهان البعض من أن الأمم التي شردت عن الإسلام كله – التي تعيش في الغرب – تتقلب في نعيم بعيدٍ عما نناله نحن فلقد أجبت عن هذا أكثر من مرة وموعدنا في تكرير الإجابة عن ذلك من خلال بيان سنة الله وقانون الله في تعامله مع عباده المسلمين وتعامله مع عباده الآخرين في وقفة قادمة إن شاء الله، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.


 



تشغيل

صوتي
مشاهدة