مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 22/10/2010

الهرج والمرج سببه وعلاجه

‏‏‏‏الجمعة‏، 14‏ ذو القعدة‏، 1431 الموافق ‏22‏/10‏/2010


الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلِّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد  صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.


أمّا بعدُ فيا عباد الله ..


إن الشأن بنا أننا جميعاً نتجه بين الحين والآخر لنستطلع آخر أنباء العالم الإسلامي بل آخر أنباء العالم كله فما الذي نسمعه ونحن نتنقل بين المصادر السمعية والبصرية لأخبار العالم هذه.


 إننا – كما تعلمون – لا نطلع إلا على أنباء القتل والانفجارات وأخبار السلب النهب والعدوان على الحقوق واغتصاب الأوطان والممتلكات والخطط الكائدة الرامية إلى الإيقاع بين الأشقاء. أعتقد أننا لا نكاد نطلع على شيء غيرِ هذا من أنباء العالم عندما نحاول أن نتبين ذلك.


 والعجيب حقاً – يا عباد الله – أن أبطال هذه الفتن وهذه الخطط المختلفة، هؤلاء الذين ينفخون في نيران الفتن والقتال والانفجارات ونحوها كلهم يدعي أنه يمارس من خلال عمله العدلَ والانضباط بالحق، كلهم ينعتون أنفسهم باتباع العدل وليس فيهم من يزعم أو يعترف بأنه إنما يبغي ويتجاوز العدل إلى الظلم، هذه ظاهرة كلنا نتبينها ونعلمها.


 إنكم لتعلمون أن نسبة عشرة بالمئة من سكان العالم يسعون جاهدين إلى أن يتحكموا ببقية سكانه، يسعون جاهدين إلى أن يجعلوا من بقية الناس جنوداً لتحقيق مآربهم ولتنفيذ خططهم، يحاولون جاهدين أن يجعلوا من بلاد العالم أسواقاً استهلاكية لمنتجاتهم، وصدق الله عز وجل القائل في محكم تبيانه )ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ[ [الروم: 41].


 فما السبب – يا عباد الله – لهذا الهرج والمرج الذي يسود العالم والذي لا تكاد تعود به أخبار الأجهزة المرئية والمسموعة بغيره.


 السر في ذلك أن الإنسان في كينونته الأصلية عندما يكون متحرراً من المبادئ والقيم، هذا الإنسان أضرى وحشٍ في العالم كله، لا من حيث قوته التي يسخرها لمآربه بل من حيث قواه الفكرية التي يسخرها لابتداع الوسائل ولاختراع السبل لأفكاره التي يحاول أن يهيمن بها على الآخرين، وأنتم تعلمون أن وحوش الغابات تتمتع بقوتها الذاتية ولكنها لا تتمتع بما يتمتع به الإنسان من مدراك يسخرها لاختراع مزيدٍ من القوى ومزيدٍ من وسائل الهيمنة على الآخرين.


 ولذا فإن الإنسان أياً كان لا يصلحه إلا لجام محكم من الدين الحق يلجمه عندئذٍ تستيقظ الإنسانية بين جوانحه وعندئذٍ يتحول هذا المخلوق من وحشٍ شرس إنسان يتمتع بكل ما نعرفه من معاني الإنسانية.


 الدين الحق هو اللجام الوحيد الذي يصلح حال الإنسان ويخضعه للعدالة الحقيقية. ذلك لأن الدين الحق إنما يعني أولاً أن يتعرف الإنسان على هويته، يقف أمام مرآة ذاته فيبصِّرُهُ الدين بهويته عبداً مملوكاً ضعيفاً لله عز وجل، يبصِّرُهُ الدين بعد ذلك بألوهية الله عز وجل له ورقابته الدائمة له، يبصِّرُهُ الدين بأن مآله على الله وبأن وقوفه لا يمكن إلا أن يكون بين يدي الله ومن ثم يتطامن لقرار الله عز وجل ويرمق بطرفه إلى السماء ليتلقى موازين العدل من الله، ولا يخترع هذه الموازين انطلاقاً من مصالحه الذاتية المختلفة، وصدق الله القائل )وَالسَّمَاء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ. أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ. وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ[ [الرحمن: 7-9].


 الميزان الذي يعنيه بيان الله سبحانه وتعالى إنما هو العدل. والفرق بين العدالة التي تهبط من علياء الربوبية أمانةً مستودَعَةً بين يدي الإنسان والعدالة الزائفة التي يدعيها الإنسان ويخترعها انطلاقاً من رعوناته ورغائبه وقوته التي يتمتع بها أن العدالة التي تنزل من علياء الربوبية لا تفرق بين الناس لأي موجبٍ من الموجبات، عدالة الله عز وجل لا تفرق بين الأديان والمذاهب، عدالة الله عز وجل لا يمكن أن تفرق بين قوي وضعيف، لا تفرق بين عربي وأعجمي، عدالة الله سبحانه وتعالى ميزان يتسامى على هذه الاعتبارات كلها.


 أما الإنسان عندما يريد أن يستخرج موازين العدالة من كيانه فإن منطلق هذا الميزان إنما هو قوته أو ضعفه، منطلق هذا الميزان مصالحه، منطلق هذا الميزان رعوناته، وما أعظم وأوضح الفرق بين هذا وذاك


 اسمعوا قرار الله عز وجل بل أمره القائل:) وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى[ [المائدة: 8] )لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ[ لا يحملنكم )شَنَآنُ قَوْمٍ[  بغضكم لأعدائكم )عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ[  وأنصفوهم )هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى[


 وانظروا – أيها الإخوة – يا عباد الله إلى هذه الحادثة التي تجسد العدالة الربانية التي كم وكم نحن بحاجة إليها لاسيما في هذا العصر.


 أسرة مكونة من عدد من الأشخاص في عصر رسول الله (، مؤمنون لكن إيمانهم ضعيف. سرقوا أمتعة باهظة الثمن من عند إنسان من أصحاب رسول الله رضوان الله عليهم، وطاب لهم أن يلصقوا هذه الجريمة بجارٍ يهودي يعيش بلصق هذا الإنسان الذي سرق متاعه. حبكوا التهمة وأحكموها أيما إحكام بوسائل يضيق الزمن الآن عن ذكرها وبيانها. ثم إن المسروق بحث واتهم فيمن اتهم جاره اليهودي واتهم أيضاً السارق الحقيقي. واستدعى رسول الله السارق الحقيقي فاستنكر وأظهر غضبه قائلاً يا رسول الله أنتهم ونحن أهل بيت مسلم ألا فلينظر هذا المسروق جاره الذي بلصقه وليتبين دلائل الجريمة التي ارتكبها هو. وحامت التهمة حول اليهودي الجار وضاقت سبل التهمة عليه وكاد رسول الله أن يحكم عليه وأن يقاضيه بجريمة السرقة وإذا بعشر آيات من كتاب الله عز وجل تنزل دفاعاً عن اليهودي البريء وتجريماً للسارق المسلم الحقيقي، واسمعوا بيان الله )إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً. وَاسْتَغْفِرِ اللّهَ إِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً. وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً. يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً. هَاأَنتُمْ هَـؤُلاء جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَن يُجَادِلُ اللّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَم مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً[ [النساء: 105-109] إلى أن نزل في آخر الآيات العشر )وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً[ [النساء: 112]


 تلك هي عدالة الله، وذلك هو الفارق الكبير بين العدالة الربانية التي شرَّفَنَا الله عز وجل بها منزلة من سماء كرمه وإحسانه وبين العدالة الزائفة التي تنبع من هنا وهنا وهناك منطلقة من الرعونات البشرية، منطلقة من مشاعر القوة التي يتمتع بها عشر بالمئة من سكان هذا العالم، منطلقة من الرغائب والمصالح الشخصية الزائفة والعابرة.


ما العبرة التي ينبغي أن نقطفها يا عباد الله من هذا الكلام الذي أقوله لكم؟


 العبرة التي ما أظن أنها تخفى على أيٍّ منا هي أن من أراد أن يحقق المجتمع الذي يعيش فيه بالعدالة الحقيقية فليعلم أن هذه العدالة لا يمكن أن تنبع إلا في تربة الدين ولا يمكن أن تُسْتَنْبَتْ إلا في تربة الإيمان بالله، إلا في تربة مراقبة الله سبحانه وتعالى، فمن تصور أن بوسعه أن يقتطع العدالة عن مصدرها الحقيقي ألا وهو الدين الحق وتصور أنه يستطيع أن يحقق العدالة الحقيقية بين الناس دون أن تكون هذه العدالة موصولة بجذورها، دون أن تكون موصولة بالإيمان بالله، بالخوف من الله سبحانه وتعالى فقد أبعد النجعة ولن يقع إلا على هذه الصورة التي ذكرتها لكم من صور العدالة الزائفة ذات الألق الشكلي والمضمون الذي ذكرته لكم، قتل وقتال، تفجير وانفجارات، تكفير لأسباب وأنواع شتى، تربص بحقوق الناس، خطط ترمي إلى الإيقاع بين الأشقاء، تلك هي صورة العدالة عندما تَنْبَتُّ العدالة من رقابة الله عز وجل وعندما تكون هذه العدالة نابعة من الأرض ولا تكون نازلة من سماء الله عز وجل.


 ومرة أخرى أذكِّرُ نفسي وأذكِّرُكُم بقرار الله القائل)وَالسَّمَاء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ. أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ. وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ[ [الرحمن: 7-9].


أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم فاستغفروه يغفر لي ولكم.



تشغيل

صوتي
مشاهدة