العلّامة الشهيد محمد سعيد رمضان البوطي
صورة السعادة في مقابل صورة الشقاء
الجمعة، 29 شوال، 1431 الموافق 08/10/2010
الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلِّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.
أمّا بعدُ فيا عباد الله ..
تعالوا أضعكم اليوم أمام صورتين اثنتين، صورة السعادة إذ تتنامى وتترسخ جذورها في حياة المؤمن إيماناً حقيقياً بالله مهما امتد به العمر ومهما رأى أن الأجل المحتوم قد دنا منه، وصورة الشقاء إذ تترسخ جذوره أيضاً في حياة الإنسان الذي عاش محجوباً عن ذاته ومن ثم عاش محجوباً عن مولاه وخالقه جاحداً بربوبيته أو مستكبراً عليه، يزداد شقاءً ويزداد شقاؤه رسوخاً في كيانه كلما امتد به الأجل وكلما رأى أن الموت قد أصبح قريباً منه.
أما المؤمن بالله حقاً فهو لابد أن يعيش وهو يربط النعم التي تفد إليه بالمنعم، لابد أن يتلقى من مولاه وخالقه المكرمات التي لا تُحصى على أنها رسائل حب تأتيه من الله سبحانه وتعالى ومن ثم فإن المؤمن لابد أن تتنامى بين جوانحه مشاعر الحب لمولاه وخالقه بمقدار ما تتنامى بين جوارحه مشاعر الهيبة ومشاعر التعظيم لذاته العلية.
هذا المؤمن مهما رأى نفسه يتقلب في رغد العيش ومهما رأى نفسه يستجيب لأهواء شبابه ولأحلامها ولأحلام شبابه لابد أن تكون مشاعره القلبية متجهة في الوقت ذاته بالحب والتعظيم إلى مولاه وخالقه ولابد أن يزداد شعوراً بالمآل الذي ينتظره، بالمآل الذي وعده الله عز وجل به نعيماً، رغد عيش لا يبلى ولا ينتهي، لابد أن يشعر بذلك. فإذا انطوى عهد الشباب من كيانه ودخل في مدارج الكهولة فالشيخوخة نسي أو تناسى عهد الشباب الذي ولَّى من حياته واستأنس بقربه من مولاه وخالقه، كلما دنت ساعة رحلته من الحياة التي يتقلب فيها ازداد اشتياقاً إلى مولاه وازداد أنساً بما قد وعده به الله سبحانه وتعالى. أما ماضي حياته، أما أيام لهوه، أما أيام شبابه فهذا الإنسان المؤمن بالله لا ينظر إليها إلا كما ينظر إنسان إلى طعام آسن قد فاحت منه رائحة النتن فهو يعرض عنه، لا يعود إليه لا بالذكرى ولا بالآمال أو الأحلام وإنما تجده مشدوداً إلى المستقبل، مشدوداً إلى الساعة التي وصفها بيان الله سبحانه وتعالى إذ قال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ. نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ. نُزُلاً مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ﴾ [فصلت: 30-32].
هكذا يكون شأن الإنسان المؤمن، عاش في حياته الدنيوية يستقبل متعها ويجلس على مائدة نعيمها، آخذاً ما يكرمه الله عز وجل به في عاجل حياته، فإذا انطوت أيام شبابه وتقلصت رغائبه ورعوناته اتجهت منه المشاعر إلى المستقبل الذي وعده الله عز وجل به.
وكم وكم رأيت بعينيَّ هذه الصورة التي أصفها لكم، رأيت شيوخاً ولَّى عهد الكهولة في حياتهم وأخذ الواحد منهم يشم رائحة الموت يدنو إليه رويداً رويداً، أخذْتُ أبحث عن مشاعر الأسى لعلها تطوف بنفوسهم أو بأذهانهم خوفاً من الموت الذي يدنو شيئاً فشيئاً إليهم، لا والله ما رأيت في وجوههم إلا مظاهر الأنس بما هم مقبلون إليه، ما وجدت في مشاعرهم التي تبدو على ألسنتهم وكلامهم إلا مظاهر الشوق إلى اليوم الذي وعدهم الله عز وجل به، الأيام الخوالي من حياتهم أعرضوا عنها. نعم، ما السبب؟
السبب أنهم عرفوا الله بعد أن عرفوا أنفسهم عبيداً له، عرفوا صلتهم بالله عز وجل ورحمانية الله عز وجل لهم، رأوا رسائل حبه التي تأتيهم تباعاً من الله سبحانه وتعالى، ذلك في العاجلة الدنيا فكيف إذا آل الواحد منهم إلى مولاه وخالقه. حتى الذين كان لهم ماضٍ من الشرود عن صراط الله ثم أدركتهم التوبة ودخلوا بعد ذلك في مرحلة الشيخوخة رأيت – ولا أزال أرى – رأيت الرجاء يهيمن عليهم ويتغلب على مشاعر الخوف بين جوانحهم، رأيتهم يتقلبون في مشاعر من رحمانية الله سبحانه وتعالى والأمل بمغفرته لهم، رأيت الواحد منهم يعيش ولا يمل مع معنى قول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ. هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ﴾ [ق: 31-32]
يقول قائلهم: لقد كنت أواباً، كنت أنحرف ثم أؤوب وأعود إلى الله، كنت أتيه وسرعان ما كنت أعود إلى الله، وها هي البشرى تدركني لتقول حتى وإن كنت كثير الشرود ولكني أيضاً كنت كثير الأوبة إلى الله عز وجل. رأيت في هؤلاء الناس من تمددوا على فراش المرض ووقعوا في ساعة النزع ولكن ضياء البشرى لم تكن تفارق وجوههم، بل إن أحدهم – وأنا أعلم هذا علم اليقين – كان يتلقى البشارة من ربه وهو يعاني من النزع، وهذا وعد الله قطعه على ذاته العلية لعباده
﴿أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ. الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ. لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ [يونس: 62-64]
ومن هم أولياء الله؟؟ ﴿الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ﴾
ربما كان المتقي في ماضي حياته متقلباً في حمأة المعاصي ولكن هذا الإنسان يصدق عليه هذا الذي يقوله الله عز وجل.
أرأيتم إذاً إلى السعادة كيف تتنامى وتترسخ جذورها في حياة الإنسان المؤمن حقاً الذي عرف مولاه وخالقه مهما امتد به العمر، مهما تجاوز الشباب إلى الكهولة فالشيخوخة لن يزداد هذا الإنسان – وقد عرف ربه – إلا سعادة، إلا نشوة.
تعالوا إلى الصورة الأخرى، إنسان عاش حياته محجوباً عن هويته، محجوباً عن ذاته، إذاً هو محجوبٌ عن مولاه وخالقه، هذا الإنسان يعيش عبداً لرعوناته، يعيش عبداً لأهوائه وملاذِّهِ، في ريعان الشباب يجلس على مائدة الشباب، يقطف من هذه المائدة وينال منها كل ما لذَّ وطاب دون أي ضابط ودون أن يلتزم بأي حدٍّ من الحدود، إنه لا يعلم من الدنيا إلا هذه الساعة التي يتربع فيها على مائدة اللهو والرعونات والأهواء. انقضى الشباب وجاءت الكهولة التي تنذر بالشيخوخة وتقلصت المشاعر والرغائب التي كانت تتجه منه إلى هذه الأهواء وطويت المائدة التي كان يجد فيها متعته، ما المشاعر التي تغزو كيانه؟ إنها مشاعر الوحشة، إنها مشاعر الأسى، كان يعيش لتلك الساعات الخوالي وها هي ذي أدبرت عنه وفارقته، إذاً ما الذي ينتظره؟ إن ينتظر الوصول إلى وادي العدم، ينتظر الوصول إلى ظلام العدم، وهكذا فكلما امتد به العمر ازداد وحشة وازداد كآبةً لأنه عاش لا يعرف مولاه وخالقه ولأنه عاش يعبد ذاته، يعبد شهواته، يعبد رعوناته وأهواءه ومن ثم فإنه اليوم يلتفت يمنة ويسرة لا يجد معبوده هذا يُنجده، لا يجد معبوده هذا ينتشله من مشاعر كآبته، من مشاعر أساه، من مشاعر شقائه.
نعم، هذه هي حال من عاش لا يعلم الله ولا يتعرف على هويته، لابد أن يكون مآله هذا الذي أقوله لكم يا عباد الله. وهذه الصورة أيضاً رأيتها، ما رأيت إنساناً عاش حياته معرضاً عن الله جاحداً عبوديته لله، ما واحد من هؤلاء الناس رأيته بعد عهد الشباب في مرحلة الشيخوخة إلا ووجدت ظُلَلَ الكآبة على وجهه، إلا ووجدت ظُلَلَ الأسى والحزن والشقاء تهيمن على كيانه وتسري في لسانه، أجل ولم أجد ما يشذّ عن هذه الحالة أبداً إلا أن يتدارك الله واحداً من هؤلاء فيعود ويؤوب إلى الله، وأنا أعلم أن سنة الله قضت ألا ينتشل المستكبرين والجاحدين، ألا ينتشلهم إلى الهداية قط، ينتشل الضعفاء الذين الذين ساقهم ضعفهم إلى المعاصي وإلى الانحراف.
هذه الحقيقة ينبغي أن نتمثلها يا عباد الله. أضعكم أمام مشاهد تجسد هذه الحقيقة التي أقولها لكم
عبد الله بن المبارك تاجر من أعظم التجار الذين كانوا في العهد الأموي، لما جاءت ساعة رحلته من هذه الحياة الدنيا ووقع في سياق الموت رأى الناسُ الذين من حوله رأوه يضحك ويبتسم قائلاً: ﴿لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ﴾ [الصافات: 61] تلك هي البشرى التي تلقاها عبد الله بن المبارك في سياق الموت، ولعل هذه البشرى تغلبت على الآلام التي كان يراها وهو يجود بنفسه.
بلال رضي الله عنه عندما وقع في سياق الموت سمع بعضاً ممن حوله يقولون وا كرباه، ردَّ عليهم قائلاً: بل واطرباه غداً نلقى الأحبة محمداً وصحبه. هذه الحقيقة بوسعي أن أسرد لكم سلسلة من المشاهد الدالة عليها.
كم من إنسان آب وتاب إلى الله عاش بعد ذلك عمراً قصيراً أو طويلاً ما ارتحل من هذه الحياة الدنيا إلا بعد أن تقلى البشارة، نعم، لا أفترض ذلك افتراضاً بل أقول ذلك وأمامي صور يمكن أن تؤرخ في هذا العهد الذي نحن فيه.
ولكن العكس أيضاً صحيح – وأسأل الله لي ولكم العفو والعافية – تصوروا إنساناً عاش محجوباً عن الله، مستكبراً على كلمات الله، مستهزئاً بكتاب الله سبحانه وتعالى، كيف يكون وقوعه في سياق الموت؟! رأيت نماذج من هذا القبيل لا يستطيع الإنسان أمام ذلك إلا أن يلتجئ إلى الله يسأله العفو والعافية، ولقد علمت – وهذه حقيقة – أن واحداً من هؤلاء المستكبرين على الله عز وجل مرض واشتد به المرض ثم وقع في سياق الموت، صاح يقول لمن حوله من أفراد أسرته: آتوني المسدس، أين المسدس؟ آتوني بالمسدس لأقتل هذا الذي جاء، وقضى نحبه وهو يصيح: آتوني المسدس، ولو شئت لذكرت لكم اسمه. هذه حقيقة، رأى ملك الموت وشاء الله عز وجل أن يفرز ماضي استكباره كلمات في ساعة رحيله من هذه الحياة الدنيا.
عباد الله: هما صورتان؛ الصورة الأولى للإنسان المؤمن الذي عرف ربه، والثانية للعبد الذي تاه عن مولاه وخالقه سبحانه وتعالى. الأول والثاني كلاهما يسيران في نفقٍ ذي اتجاه واحد.
أما المؤمن بالله حقاً فلا يوغل في هذا النفق إلا وهو يعلم أنه إنما يتجه إلى واحةٍ فيها كل ما لذَّ وطاب، فكلما أوغل في هذا النفق ازداد يقيناً بأنه مقبل على هذه الواحة وازداد وجهه سروراً واستبشاراً، أما الآخر فهو يتصور وهو يسير إلى جانبه في النفق ذاته أنه يسير إلى نهاية سد، كلما أوغل في هذا النفق كلما أطبق ظلامه على خناقه لأنه يعلم أنه سينتهي إلى سد ولا رجعة له عنه.
فلنحمد الله عز وجل أن أكرمنا وجعَلَنَا من الفريق الأول وأسأل الله عز وجل أن يختم لنا بالحسنى.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.