مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 24/09/2010

الاعتصام بحبل الله محور وحدة الأمة

‏الجمعة‏، 15‏ شوال‏، 1431 الموافق ‏24‏/09‏/2010


الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلِّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد  صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.


أمّا بعدُ فيا عباد الله ..


لا أعلم أن أمراً وجَّهَهُ القرآنُ إلى الناس يتمتع بالقدسية والأهمية التي تتمتع بها الدعوة إلى الوحدة وإلى التضامن وإلى نبذ أسباب الفرقة والشتات، بل أنا لا أعلم أن نعمةً امتنَّ الله سبحانه وتعالى بها على عباده كنعمة تحويله لهم وانتشاله إياهم من أقصى دَرَكَاتِ الفرقة والتباغض والتهارج والتقاتل إلى أعلى قمم الود والتآلف والتضامن والحب، ألا ترون إلى الآية التي لا يجهلها ذو جنان ولا يكاد يفتر عن تردادها لسان ولا يخلو جدار في بناء أو قاعة إلا وتجد لها رسماً على جدرانها وتفنناً في كتابة خطوطها ألا وهي قول الله سبحانه وتعالى: )وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ[ [آل عمران: 103].


وإني لأعلم أن شعوب العالم والدول العربية والإسلامية كانت في هذه العصور المتأخرة ولا تزال تسعى بكل الوسائل إلى استعادة هذه الوحدة، إلى استعادة هذا التضامن، وإنها لترفع في سبيل ذلك الشعارات المتنوعة في المناسبات المختلفة. ولكن العجب أن هذه الجهود التي نراها بأعيننا أو تسمعها آذاننا لم تأت إلى اليوم بأي طائل، بل إننا لننظر فنجد أن واقع المجتمعات الإسلامية يتراجع إلى الوراء على صعيد التعارف والتآلف والتضامن وإنكم لتجدون دلائل ذلك.


كلمة الوحدة لها شعارات متألقة براقة في هذا العصر على كل الأصعدة وننظر فنجد أن هنالك وسائل فعلاً تُبْذَل من أجل تحقيقها ولكننا ننظر فلا نجد مصداقاً لذلك ويُذَكِّرنا هذا بالمثل العربي القائل أسمع جعجعةً ولا أرى طحناً. فما السبب؟


السبب – يا عباد الله – أن دائرة الاتحاد بين أفراد أمة أو أفراد جماعة كثرت أو قلت لا يمكن أن تتم وتتكامل إلا إذا كان هنالك محورٌ جاذبٌ يجمعها. دائرة الاتحاد بين الأفراد أيَّاً كانوا ومهما كانوا من الكثرة والقلة لا تتحقق بدون محورٍ جاذب، يعرف ذلك علماء الفلسفة والمنطق ويعلم ذلك علماء الهندسة على اختلافهم، من أجل هذا وضع البيان الإلهي المحور الجاذب قبل أن يأمر عباده بالتلاقي والتضامن والوحدة فقال أولا: )وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً[ هذا هو المحور، الاعتصام بحبل الله، ثم قال بعد ذلك: )وَلاَ تَفَرَّقُواْ[ ولو أنه بدأ فقال: )وَلاَ تَفَرَّقُواْ [لن يتأتى لعباده أن يجتمعوا عن تفرق، وعلام يجتمعون؟


لا يمكن للأمة أن تتلاقى إلا على هدف، إلا على محور. وربنا سبحانه وتعالى حكيم كما تعلمون ولذلك وضع المحور المتمثل في حبل الله أي المتمثل في كتاب الله وما يتضمنه من عقيدة وشرعة ومبادئ، فلما استقر فيما بينهم هذا المحور جاء دور الدعوة إلى الاتحاد.


وإنا لنتساءل الآن أين هو هذا المحور؟ أين هو المحور الذي ينبغي أن تتداعى الأمة إلى الاتحاد على أساسه؟ أين هو المحور الجامع الذي عبَّرَ عنه بيان الله عز وجل بحبل الله؟


لقد تحول المحور إلى محاور شتى يا عباد الله، وإنكم لتعلمون ذلك، وعندما يغيب المحور الواحد الجامع وتحل محله محاور متعددة متناقضة لابد أن تُوْرِثَ الأمةَ هذه المحاورُ مزيداً من الفرقة ومزيداً من الشتات يختلفون على هذه المحاور المتعددة، وها أنا أضعكم أمام طائفة من الأمثلة تجسد هذه الحقيقة التي أقولها لعلنا نجعل لأنفسنا من ذلك درساً.


يقول المحور الرباني مبيناً المبدأ الذي به يسمو الإنسان أو به يهبط في مجتمعه الذي يعيش فيه، يقول: )يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ[ [الحجرات: 13].


ننظر وإذا بأيدٍ قد غَيَّبَتْ هذا المحور، وإذا بمحاور أخرى حلَّتْ محله، محاور العصبية، محاور المبالغة في الاعتداد بالقوميات المختلفة فكان من نتائج ذلك أن تحولت هذه المحاور إلى سبب جديد للفرقة بدلاً من السبب الذي رسمه بيان الله عز وجل.


إليكم هذا المثال الثاني: يضعنا المحور الرباني أمام تحذير بعبارات لا تقبل التأويل، يحذرنا المحور الرباني من أن نستسلم للسلم الذي يأتي بمظهر السلام فيقول: )فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ[ [محمد: 35]


أي سَلْمٍ يحذرنا منه بيان الله؟ ذلك السلم الذي لا يأتي إلا بعد أن نتجرد من الحقوق، بعد أن نتجرد من الممتلكات، ونظرنا فوجدنا إخوة وأبناء عمومةٍ لنا يعرضون عن هذا المحور الذي وضَعَنَا البيانُ الإلهي أمامه، ينغضون الرأس لاستسلام يأتي بصيغة سلام ويغضون الطرف عن الحقوق المستلبة والأراضي المغتصبة المستوطنة، أجل. إذاً لاحظنا كيف غاب المحور الرباني وحلَّ في مكانه المحور الذي يثير الشقاق والجدال.


انظروا إلى هذا المثل الآخر، يضعنا المحور الرباني – نحن المسلمين – على أساسٍ إنساني من التعايش والتآلف والتعاون مع غير المسلمين من أهل الكتاب فيقول: )لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ[ [الممتحنة: 8]. ونظرنا اليوم وإذا بأناس يُغَيِّبُون هذا المحور الرباني ويحلون محله مشاعر الأحقاد والضغائن وما يُعَبَّرُ عنه اليوم بالإرهاب ونحو ذلك.


آتيكم بأمثلة أخرى؟ حسناً. يضعنا المحور الرباني من كتابه المبين بعبارة لا تقبل التأويل أمام كفتين أو دعامتين متساويتين لجهود كلٍّ من المرأة والرجل في هذا المجتمع الإنساني لينهض المجتمع على جهود كلٍّ منهما بتساوٍ فيقول: )وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ[ [التوبة: 71]


يرسخ مبدأ الولاية المتبادلة التي لا تعلمها إلى اليوم القوانين الوضعية ويقول: )فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ[ [آل عمران: 195]. ونظرنا فوجدنا اليوم من يُغَيِّبُ هذا المحور أو يتجاهله أو يلقيه وراءه ظهرياً ثم يزعم ويتهم أن القرآن إنما رسخ المجتمع الذكوري لينهض على حطام وأطلال حقوق المرأة. غُيِّبَ المحور القرآني الذي نقرؤه ووضع مكانه هذا الذي يثير الجدل والنقاش والخصام.


تعالوا إلى مثال آخر: يضعنا المحور الرباني أمام ما ينبغي أن نعلمه من تاريخ البعثة الإسلامية وحياة المصطفى مع أصحابه، يضعنا أمام الصورة التالية والشهادة العالية لأصحاب رسول الله فيقول: )مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً[ [الفتح: 29]. تلك هي شهادة رب العالمين لأصحاب رسول الله، ونظرنا فوجدنا من يُحَكِّمُ مزاجه في تصنيف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيصنفهم بين صالح وطالح معرضاً عن شهادة كتاب الله سبحانه وتعالى.


ونظرنا إلى محور آخر – وكل ذلك ينبثق من الحبل الذي أمرنا الله باعتصامه – فوجدنا البيان الإلهي يقرن بين مكانة رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين زوجاته فيقول: )النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ[ [الأحزاب: 6]. يصفهم بالأمومة لنا جميعاً إلى يوم القيامة، إذاً هنَّ جميعاً بشهادة كتاب الله عز وجل أمهات للمؤمنين، ونظرنا فوجدنا من يُغَيُّبُ أو يحاول أن يُغَيَّبَ هذا المحور ليحكِّمَ مزاجه بين زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم.


هذه نصوص ذكرتُهَا كأمثلة على المحور الجامع وكلها نصوص قاطعة الدلالة لا تقبل تأويلاً قط، ولكن لاشك أن من وراء هذه النصوص القاطعة الدلالة جملاً وبياناتٍ وألفاظاً أخرى في كتاب الله تقبل التأويل وتقبل أكثر من تفسير ومن هنا وجدت المذاهب بل من هنا وجدت الفرق، ينبغي أن نعلم أن هذه الفرق التي تكاثرت من خلال تفسير النصوص المُحْتَمِلَة التي تقبل التأويل ينبغي أن تتسع صدورنا لها جميعاً وينبغي أن نعلم أنها جميعاً تستظل بظل الإيمان وأنها جميعاً تسمو إلى صعيد الإسلام وأنها ستلقى الله عز وجل إن كانت صادقة في اجتهاداتها هذه وهي مثوبة إن بأجرٍ أو بأجرين.


هذه خلاصة ما يبغي أن نعلمه أيها الإخوة من أمر الوحدة وقدسيتها في كتاب الله وهذا ما ينبغي أن نعلمه من السبب الذي جعل عودة الأمة إلى هذه الوحدة مستعصية وكم وكم من الناس تساءلوا عن سبب ذلك، سبب ذلك أن المحور الذي يجذب للوحدة قد غاب وحلَّت محله محاور متناقضة مختلفة. المحاور المختلفة المتناقضة تمزق بدلاً من أن تجمع وبدلاً من أن تحقق وحدة هذه الأمة.


وخلاصة ما ينبغي أن أقوله لنفسي وأن أقوله لإخواني في الإسلام والإنسانية أن لنا أن نجتهد في فهم كتاب الله عز وجل ما وسعنا ذلك وفي فهم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن على أن نتصور أننا قادرون على أن ندافع عن اجتهاداتنا يوم نقف بين يدي الله عز وجل إذ يقوم الناس جميعاً لرب العالمين، فإذا علمتُ أنني أستطيع أن أدافع عن اجتهادي في ذلك الموقف الخطير العظيم المخيف فيا مرحباً باجتهادي اليوم في الحياة الدنيا ولكن إذا علمتُ أن لسانيَ سيتلجلج وأنني لن أستطيع أن أدافع عن اجتهادي الذي تبنيته اليوم عندما أقف بين يدي رب العالمين فلأعد إلى نفسي ولأمحص نظرتي هذه ولأحوال ألا أرتحل من هذه الدنيا إلا بقلب سليم كما دعا سيدنا إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام.


هذه هي نصيحتي لنفسي ولإخواني جميعاً أنتشلها وأعتصرها من هذا الكلام الجامع الذي ذكرته لكم.


أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. 



تشغيل

صوتي
مشاهدة