العلّامة الشهيد محمد سعيد رمضان البوطي
الوصايا الإلهية تشريف قبل أن تكون تكليف
الجمعة، 08 شوال، 1431 الموافق 17/09/2010
الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلِّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.
أمّا بعدُ فيا عباد الله ..
عجيب شأن الإنسان يجلس على مائدة الرحمن سبحانه وتعالى فيتناول منها ألواناً لا تُحْصَى مما لذَّ وطاب، مما يتمتع به فمه من طعومٍ ولذائذ مختلفة متنوعة ومما له آثاره الغذائية المتنوعة في جسمه وجسده، يمتع الله عز وجل عينيه بمشاهد من الجمال المتنوع يتيه عن وصفه الكلام والبيان، يمتع الله سبحانه وتعالى أنفه بروائح تطربه يتيه عن وصفها أيضاً البيان والكلام.
يتقلب من الأرض التي أقامه الله عليها في مهادٍ لم تستطع أمه أن تهيأ له مثل هذا المهاد، يتقلب في ذلك كله وهو يعلم أن مصدر ذلك قرار الله القائل: )وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً[ [الإسراء: 70].
حتى إذا جاء وقت الوصايا التي يوجهها الله سبحانه وتعالى إلى هذا الإنسان المكرَّم يوصيه بما يسعفه وبما يسعده ويحذره عما يشقيه إذا به يشيح بوجهه عن هذه الوصايا وإذا به يسيء الظن بها وبمن يوصيه بها ويلتفت ليأخذ بدلاً عن ذلك وصايا عدوه وأعداء الله سبحانه وتعالى.
إنه لأمر غريب! كيف أحسن الظن بالله عندما أجلس على مائدته وأتلقى منه النعم التي لا تحصى ثم أسيء الظن في وصاياه التي يوصيني بها، هذا على الرغم من أن الله سبحانه وتعالى يؤكد لعباده أنه ما أوصاهم إلا بما فيه خيرهم وما شرع لهم إلا بما يضمن سعادته. )الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً[ [المائدة: 3]. هذا الذي يقول هذا الكلام هو ذاته الذي أقامنا فوق هذه الأرض المليئة بمظاهر الإكرام لأفواهنا ولأنوفنا ولأعيننا ولمشاعرنا أجمع، كيف يتأتى للإنسان أن يحسن الظن بالله آناً ثم يسيء الظن به آناً آخر.
عباد الله: لن يُسْعِدَ الإنسانَ شيءٌ كالوصايا التي وجهها الله سبحانه وتعالى إلى عبد المكرم ولن يشقي الإنسانَ شيءٌ كإعراضه عن هذه الوصايا، ليس من دأبي في مثل هذه الموقف أن أسرد الحكايات والقصص وما أظن أني فعلت ذلك مرةً ولكني اليوم سأقص عليكم خبراً لأنه يفيض بالعبرة ولأن الذي يصغي إليه ويستعمل عقله إن كان تائهاً أو ضالاً لابد أن ينتقل خلال دقيقة واحدة من أقصى أودية التيه والضلال إلى أعلى أصعدة الإيمان والهداية.
قبل سنوات خلت أقبلت إليَّ في مكتبي في الجامعة فتاة قد سترت جزءاً من شعر رأسها بجزءٍ من غطاء وارتدت ثياباً هي أقرب إلى العري منها بالستر، التجأت إليَّ قائلة أنا على شفير الهلاك فهل لي أقص عليك خبري لعلك تنقذني من هذا الهلاك الذي يتربص بي؟ أصغيت إليها، قالت: نشأت في بيت لا يعرف الإسلام لا فكراً ولا سلوكاً، درست حتى وصلت إلى الجامعة وأنا لا أتقيد بشيء لأنني لم أُرَبَّ على أي منهجٍ ديني أو أخلاقي قط، جعلتُ قلبي نُزُلاً للشباب وأصبحت أتعرف على الواحد إثر الآخر ثم إني تعلقت بواحدٍ منهم أحببته وعرفت أنه أحبني أيضاً وتواثقنا على الزواج، ثم إنه في ساعةٍ من الساعات نال مني كل ما يبتغي وراح يعدني بالزواج ورحت أستعجله بالزواج ثم إني أخذت أستعجله وأضيِّقُ عليه الأمر وذات يومٍ نظر إليَّ وقال: إنني عندما أقرر الزواج أختار فتاة مستقيمة لا أختار فتاة مثلك لا ترد يد لامس، قالت: في تلك اللحظة استيقظت وفي تلك اللحظة علمت أنني أسير في طريق الهلاك، الآن لو علم أهلي بما تم لي لقتلوني أو ذبحوني تحت قانون جناية الشرف التي لا شرف لها في الحقيقة، أما المجتمع فقد لفظني بعد أن خدعني متمثلاً في شبابه، ما العمل؟ ماذا أصنع.
قلتُ لها: الآن تعترفين بأن الدنيا كلها تحولت إلى أعداء لك، أهلك تحولوا إلى أعداء ويوشكون أن يقتلوك لو علموا بما تم لك، والمجتمع أخذك لباباً ورماك قشوراً وهو سيفعل ذلك في المستقبل أيضاً بك ولم يبق لك إلا صديق واحد أتعلمين من هو؟ قالت: من؟ قلت: إنه الإسلام، صديقك المتبقي هو الإسلام، هو وصايا الله سبحانه وتعالى، فإن أنت صدقت معي العهد واصطلحت مع الله سبحانه وتعالى في فكرك وسلوكك والتزامك وآدابك أرجو أن الله هو الذي سينتشلك من هذا الشقاء، قالت: الآن أعلن عن توبتي إلى الله بين يديك، الآن أعلن عن رجوعي إليه، الآن سأفعل كل ما يأمرني به الله، بصَّرْتُها بما ينبغي أن تفعل في فكرها وفي مظهرها وقلت لها ترددي علي.
انظروا يا عباد الله إلى رحمة الله، ما هي إلا أيام حتى أقبل إلي في مكتبي شاب يقول لي إنه تحرى الفتيات لينتقي منها واحدة تليق بالتزامه ودينه وأخلاقه فلم يعثر فهلا دللتني على فتاة أستطيع أن أجد فيها متعة دنياني والتزامي في ديني؟ قلت له: نعم ووصفت له الحال وذكرت له قصة الفتاة، قلت: إن أنتَ قبلتها زوجة لك كتب الله لك أجر الهداية ومتَّعَكَ الله سبحانه وتعالى بنعيم الزواج في الدنيا فهل لك أن تجمع بين سعادتين؟ قال: نعم ولقد رضيت.
وشاء الله عز وجل بقدرته وألطافه أن يجتمعا وأن يتعارفا ثم أن يتعاهدا على الزواج عن طريق الأهل وانطوت القصة ونسيت الخبر ومر على ذلك عامٌ أو عامان وذات يومٍ كنت أعود من بعض المحافظات ونزلت من العربة في استراحة من تلك الاستراحات وإذا بي أمام فتاة محجبةٍ حجاباً تاماً ترتدي ثياباً سابغة مع أناقة في المظهر وهي تحتضن طفلاً صغيراً على صدرها وإلى جانبها شابٌّ لم أعرفه، قالت: ألم تعرفنا؟ قلت: لا، قالت: أنا التي كنت تائهة في مناكب الأرض وانتشلني الله عز وجل بدينه عن طريقك، ها أنا ذا أعيش سعادة غامرة ما مثلها مع زوجي هذا وأشهد في كل لحظة أن سعادتي هذه لم تتحقق إلا من خلال التزامي بأمر الله، إلا من خلال التزامي بهذا المظهر الذي أوصاني به الله سبحانه وتعالى.
تذكَّرْتُ ورجعتُ القهقرى بالذاكرة إلى ما قبل عام وعام ونصف وتذكرت صورتها عندما جاءت إليَّ وهي نصف عارية وقد خدعها المجتمع وراحوا يأكلون منها كما قلت لكم اللباب ويرمونها قشراً على نواصي الشوارع لو سارت على هذا المنوال.
هذه القصة – أيها الإخوة – مليئة بالعبرة، مليئة بالدرس، تبين لكل من آمن بالله أن وصايا الله سبحانه وتعالى سواءٌ ما تعلق منها بالفكر أو ما تعلق منها بالمظهر والالتزام والسلوك كل ذلك تتمة لمظاهر إكرام الله للإنسان، كل ذلك تتمة لمظاهر إسعاد الله عز وجل للإنسان، أجل، وهذا الخبر الذي أقصه عليكم يجسد هذه الحقيقة، تحولت الدنيا كلها بالنسبة إليها إلى وحوش ضارية بدءاً من الأسرة إلى المجتمع والسوق والأصدقاء والشباب. من الصديق الذي انتشلها؟ من هو الصديق الذي أسعدها بعد شقاء؟ كانت تسير على شفا جرف إن هي إلا دقائق أو أيام وستذبح، أما المجتمع فكان يريد أن يتخذ منها كما قلت لكم ألعوبة يتسلى بها هذا ثم هذا ثم ذاك وترمى بعد ذلك على نواصي الطرق ولكن الله الكريم العظيم من خلال دينه القويم، من خلال وصاياه الحلوة المسعدة كل ذلك هو الذي انتشلها من الشقاء وسما بها إلى صعيد سعادةٍ ما مثلها سعادة.
أليس من الحق أن أقول مرة أخرى يا عجباً للإنسان عجباً لا ينتهي، يتقلب من أرض الله في مهادٍ ولا كمهاد الأم التي ترعى به طفلها، يمتع فمه من عطاء الله عز وجل بطعومٍ لا حصر لها، بلذائذ لا حصر لها، يمتع سمعه عينه أنفه حياته من إكرام الله وعطائه بأمورٍ لا حصر لها وهو يعلم أنها آتيةٌ من عند الله عز وجل حتى إذا حان أن يوصيه الله عز وجل فيقول له: إذا جلست على المائدة فافعل كذا وكذا، ألزمْ نفسك بهذه الضوابط وبهذه النظم لتتناول طعامك على نحو شهي. عندما يأتي ميقات الوصايا التي جاءت من المُكَرِّمِ الأول وهو الله أعرض عنه، أعرض عنه عند وصاياه وأتقلب في نعيمه، طعامه وشرابه ولذائذه كلها، عندما أجد الفم المحتاج والجسم المحتاج، أليس هذا لؤماً يا عباد الله؟
أعرض وأشيح عن وصاياه – إن كنت من صنف الرجال أو النساء – أعرض عن وصاياه إن في الفكر أو في السلوك وهو الذي كرمني وهو الذي يعطيني ويسقيني ثم ألتفت بدلاً من الإصغاء إلى وصاياه ألتفت إلى وصايا أعداء الله وأعدائي، كيف ينبغي أن أعيش، كيف ينبغي أن يكون مظهري، كيف ينبغي أن تكون علاقاتي في المجتمع؟ أتلقى الأجوبة عن هذا كله ممن؟ من أعداء الله وأعدائي أنا! أهم الذين كرَّموك على المائدة التي تتناول عليها ما لذَّ وطاب؟ أهؤلاء هم الذين يمتعون فمك بأنواع الطيبات؟ أهؤلاء هم الذين جعلوا من الأرض مهداً ولا كمهد الأم لطفلها كما قلت لكم؟! هؤلاء هم الذين كرَّموك حتى تثق بوصاياهم؟! أم الله عز وجل هو الذي كرَّمك وأعطاك، سقاك، أطعمك، متعك، جعل لك الأرض مهداً كما قلت لك ثم إنه توَّج هذا الإكرام بإكرام الوصايا؟! عجبٌ، إنه لعجب لا ينتهي.
اللهم لك الحمد أن جعلتنا من المؤمنين بعبوديتنا لك وبربوبيتك لنا، أن جعلتنا من المؤمنين بتكريمك لنا، آمنا بأن تكريمك لنا طريقٌ أوله متعة الدنيا بكل أصنافها وآخره الوصايا التي تمتعنا إذ ذكَّرْتَنا بها، إذ أمرتنا بها، فاللهم أبق علينا هذه النعمة، أبق علينا نعمة الانضباط بوصاياك، ها نحن نعدك - يا أرحم من سُئِل ويا أكرم من أعطى - نعدك أننا لن نكون لؤماء قط، لن نتلق الوصايا إلى من لدنك تلك التي جاءتنا وحياً عن طريق رسلك وأنبيائك جميعاً، سلوكنا نأخذ دستوره من لدنك، أفكارنا، معتقداتنا نأخذ دستور ذلك من لدنك، كيف لا وأنت الذي كرمتنا وأنت الذي استخدمت أرضك كلها بل كونك كله لمصالحنا، جعلت من ذلك كله خدماً لنا، فأبق علينا اللهم هذه النعمة حتى نلقاك، حتى نخرج من هذه الدار – دار الدنيا – بسلام. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.